لم يكن سقوط نظام بشار الأسد نهاية القصة، بل بداية اختبار صعب لسوريا الجديدة. لسنوات، علّق السوريون آمالهم على لحظة ما بعد الأسد: “حين يسقط، سنفعل كذا”، لكن بعد التحرير، خرجت التحديات الحقيقية من الظل إلى الواجهة، وأخطرها ما يهدد وحدة المجتمع ومصير العدالة الانتقالية.
في طليعة هذه التحديات يبرز ملف الأقليات، فالحكومة الجديدة رفعت منذ اليوم الأول شعار المصالحة والعفو، وفتحت قنوات تفاوض مع مكونات الساحل والسويداء والشرق السوري. لكن هذه السياسة لم تسر كما خُطط لها، فالتفاهمات سرعان ما اصطدمت بتمردات وخرق للاتفاقات، ما أنذر بعودة شبح الصراع.
فهل كان هذا النهج محاولة عقلانية لاحتواء الانقسام، أم أنه تساهل خطير سمح للفوضى أن تعود بثوبٍ طائفي؟ هذا التقرير يحاول أن يقرأ المشهد عن قرب ويفكك مآلاته.
“تمرد الساحل”.. أول اختبار أمني للحكومة الانتقالية
أكثر ما كان يُخشى بعد سقوط نظام الأسد هو انزلاق البلاد نحو دوامة انتقام فردي وفوضى أمنية، خاصة مع وجود آلاف الضحايا الذين فقدوا أحباءهم خلال سنوات القمع. لكن منذ اللحظة الأولى لدخولها دمشق، اختارت السلطة الجديدة نهج التهدئة بدل التصعيد، وظهر ذلك في مواقف عدد من قادتها، أبرزها ما قاله أحد القادة العسكريين عند الإفراج عن أسرى من النظام البائد: “اذهبوا فأنتم الطلقاء“.
ولتأكيد هذا التوجه، شدد الرئيس السوري أحمد الشرع، الذي كان قد أشرف على العمليات العسكرية، أن معارك التحرير لا تعني معارك انتقام. ووضع شعار “نصر بلا ثأر” عنوانًا للمرحلة، داعيًا إلى تجاوز عقلية الثورة والانطلاق نحو تأسيس دولة مؤسسات وعدالة.
لم تكن تصريحات المسؤولين السوريين الجدد قول بلا فعل بل سرعان ما تُرجمت بقرارات على الواقع، حيث أعلنت إدارة العمليات العسكرية العفو العام عن جميع العسكريين المجندين تحت الخدمة الإلزامية، ومنعت التعدي عليهم مؤكدةً أنها “تعطي الأمان للمجندين”.
كما افتتحت إدارة العمليات، مراكز تسوية أوضاع في عدة محافظات مخصصة لمنح عسكريي وأفراد الشرطة التابعين لنظام الأسد البائد بطاقة مؤقتة، تخولهم البقاء في مدنهم وبلداتهم دون أن يتعرضوا للاعتقال أو الملاحقة، وشملت التسويات أيضاً عدداً من كبار ضباط النظام ومسؤوليه، يعتقد أن بعضهم أبرم اتفاقات تسوية لتجنب القتال أثناء عملية “ردع العدوان”.
في الوقت ذاته، أكد الشرع أن العفو لن يشمل “مجرمي الحرب” ومن “تورط بتعذيب المعتقلين وتصفيتهم”، متوعدًا بملاحقتهم قضائيًا داخل سوريا واسترداد الهاربين منهم عبر الإنتربول الدولي.
على الصعيد الأهلي، تحركت وفود من فصائل المعارضة المسلحة إلى القرداحة حاملين رسالة صلح مباشرة، التقى الوفد بعشرات الوجهاء من الطائفة العلوية الذي وقع على بيان يؤكد “وحدة أراضي الجمهورية العربية السورية والتعددية الدينية والفكرية والثقافية”، معلنين دعمهم للنهج الجديد وتعاونهم الكامل مع “هيئة تحرير الشام” للمساهمة في بناء سوريا الجديدة القائمة على الألفة والمحبة بحسب ما جاء في البيان.
كما دعا الوجهاء أهالي المنطقة إلى تسليم أي سلاح بأيديهم إلى السلطات الجديدة، واستعادة عمل الشرطة والخدمات تحت إدارة الحكومة الانتقالية بأسرع وقت.
ساهمت سياسة التهدئة التي انتهجتها الحكومة الانتقالية في تبديد المخاوف من موجة انتقام أو تصفية حسابات، خاصة في المناطق التي لطالما حذّر إعلام النظام السابق من استهدافها، ورسخت هذه المقاربة أجواءً من الارتياح في مناطق الساحل ذات الأغلبية العلوية وأحياء حمص المختلطة، حيث لم تُسجّل أي عمليات انتقام جماعي، ما أعطى إشارة واضحة بأن الدولة الجديدة لا تسير بعقلية الفوضى، بل بمنهجية سياسية مسؤولة.
غير أنّ سياسة حسن النوايا فتحت ثغرة استغلّها متورّطون في جرائم النظام السابق وآخرون خشوا الإقصاء بعد تغيُّر موازين السلطة. لاذ بعضهم بجبال الساحل، وأطلقوا شرارة تمرّدٍ ليلة 6 آذار/مارس الماضي تحت راية ما سُمّي “المجلس العسكري لتحرير سوريا” الذي أسّسه العميدُ المنشقّ غياث دلا، القائد السابق لـ”ميليشيا الغيث” داخل الفرقة الرابعة.
بدأ التمرّد، بعدما شن فلول النظام هجمات منتظمة ومنسقة ضد عشرات المواقع الأمنية والعسكرية وأهمها مقر القيادة البحرية في اللاذقية، تزامنًا مع نصبها الكمائن على الطرق الرئيسة بريف منطقة جبلة القريبة من اللاذقية في ذات الوقت، ما أسفر عن مقتل العشرات من القوات الأمنية السورية وجرح آخرين.
كمائن خبيثة وانتحال هوية.. كيف تشعل فلول النظام الفوضى في #الساحل_السوري ؟ pic.twitter.com/ZZbSrVDnxh
— نون سوريا (@NoonPostSY) March 9, 2025
مقابل هذا التصعيد الذي وصف بـ”الانقلاب” من حيث تنظيمه وتنسيقه، استنفرت وزارة الدفاع السورية وأرسلت أرتال عسكرية للسيطرة على الوضع، لكن تعرض بعضها لكمائن وأخرى أُجبرت على التراجع، كما شاركت طائرات “الشاهين” المسيرة في رصد تحركات الفلول، وتسهيل تقدم القوات السورية نحو أهدافها.
قاتل فلول النظام السابق بشراسة، مستندين إلى ما تبقى من شبكات دعم خارجي، وعلى رأسها روسيا، التي لا تزال تحتفظ بوجود عسكري في الساحل السوري من خلال قاعدتي طرطوس وحميميم. وتحوّلت الأخيرة إلى نقطة عبور آمنة للعناصر الفارّة من قبضة الدولة، حيث استقبلت عددًا من الهاربين وعائلاتهم، وجرى إنشاء مخيمات لتأمين احتياجاتهم الأساسية، في خطوة أثارت تساؤلات حول موقف موسكو من السلطة الجديدة في دمشق.
فيما كشف مسؤول أمني في اللاذقية، أن “حزب الله” وجهات خارجية متورطة في أحداث الساحل من خلال تقديم الدعم لفلول النظام، خاصة أن دلّا معروف بعلاقته الوثيقة بـ”حزب الله” والحرس الثوري الإيراني.
من جهة أخرى حاول موالون للنظام البائد طلب دعم المجتمع الدولي بذريعة حماية “العلويين”، حيث خرج شخص يدعى “صالح منصور” عبر فيديو يطالب بتدخل فرنسا والأمم المتحدة في الساحل، لكن وجهاء القرداحة سارعوا إلى التبرؤ منه ووصف دعوته بأنها فردية ولا تمثل الطائفة.
ومع وصول الهجمات إلى الذروة وتصاعد الاشتباكات، شهدت العشرات من المدن تظاهرات داعمة للقوات الحكومية، تزامناً مع انتشار دعوات واسعة وغير مسبوقة إلى “النفير العام” للمؤازرة، لبّى طيف واسع من السوريين النداء وتوجهّوا إلى منطقة الساحل ليقاتلوا ضد الفلول.
لاحقًا تسببت مشاركة قوى شعبية غير منظمة في صد هذه الهجمات في فوضى أمنية حيث اُرتكبت انتهاكات بحق المدنيين من قتل وسرقة ونهب.
وانتشرت العشرات من المقاطع المصورة والشهادات التي أفادت بوقوع جرائم قتل جماعية وعشوائية وإذلال واهانات وتنكيل واسع بحق المدنيين في تلك المناطق، وخاصة من الطائفة العلوية، التقط بعضها من قبل أشخاص تابعين لقوات الحكومة بحسب ما وثق منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”.
حديث من قلب #جبلة، رصده مراسل #نون_سوريا، عن ليلة اجتياح #فلول_النظام وانتشارهم في قرى الساحل السوري، والمتورطين في الانتهاكات بحق المدنيين.. شاهد التفاصيل. pic.twitter.com/rqTMNK1Nir
— نون سوريا (@NoonPostSY) March 12, 2025
في حين كانت حماية المدنيين وضمان عدم تأثرهم بالهجمات من ضمن أولويات وزارة الدفاع خلال العملية العسكرية، حيث دعا المتحدث باسم الوزارة، حسن عبد الغني الوحدات الميدانيّة إلى “الالتزام الصارم بتعليمات القادة العسكريين والأمنيين»، مشدداً على أنه “يُمنع منعاً باتاً الاقتراب من أي منزل أو التعرُّض لأي شخص داخل منزله، إلا وفق الأهداف المحدّدة من قبل ضباط وزارة الدفاع”.
كما توعد الرئيس السوري، أحمد الشرع، بـ”حساب شديد” لكل من يتجاوز على المدنيين العزّل و”يأخذ أقواماً بجريرة أقوام”، لكن لم يردع هذا الخطاب بعض القوى المحسوبة على الحكومة.
خيّم المشهد الدموي على منطقة الساحل لـ 4 أيام، وأدى إلى مقتل 1332 شخصًا بينهم نساء وأطفال بحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان.
بنهاية اليوم الخامس للهجمات، أعلنت الحكومة السورية بسط سيطرتها الكاملة على منطقة الساحل، وإنهاء وجود الفلول فيها بعد عمليات تمشيط دقيقة. لكن الكلفة البشرية المرتفعة طرحت تساؤلات جوهرية حول جدوى سياسة المصالحة بالشكل الذي طُبّق، وأثارت نقاشًا واسعًا داخل الأوساط السياسية والمجتمعية حول مستقبل النهج المتبع.
ظهر أن خطاب العفو السابق – رغم رسالته السلمية – لم يكن كافيًا لردع محاولات زعزعة الاستقرار، بل استُغل من قبل بعض المتورطين للعودة إلى المشهد عبر بوابات الفوضى. وبدأت أصوات تطالب بمراجعة شعار “اذهبوا فأنتم الطلقاء”، معتبرة أن غياب المساءلة سمح بإعادة تنشيط خلايا كامنة وتحريك الشارع ضد الدولة في لحظة حساسة.
السويداء بين زعيم روحي يحتمي بمجرم حرب وحكومة تسعى للتهدئة
شكل ضبط الأمن ونزع السلاح من المدنيين منعًا للفوضى الأمنية أولى الاختبارات التي فُرضت على الحكومة السورية الوليدة، وكانت المهمة في السويداء ذات الأغلبية الدرزية أكثر تعقيدًا، كونها تضم عشرات الفصائل المسلحة التي تنقسم فيما بينها في قضية الولاء لدمشق، وبينما يصرّ البعض على اللامركزية يشدد آخرون على التمسّك بالإدارة المركزية التي تتمثل بالشرع رئيسًا.
يتزعم شيخ العقل، حكمت الهجري، الرئيس الروحي لطائفة الموحدين الدروز في سوريا والمرجعية الأولى التيار المطالب بالانفصال والرافض للاندماج تحت غطاء الحكومة السورية، فرفض منذ البداية حل الفصائل المسلحة وتسليم السلاح مشترطا بناء الدولة وكتابة دستور.
ولائه مطلق “لإسرائيل”لكن مواقفه تتبدل بحسب المتغيبرات الإقليمية والدولية.. تعرّف على حكمت الهجري.#السويداء_سوريا pic.twitter.com/3NJK5HtZp5
— نون سوريا (@NoonPostSY) July 17, 2025
بيد أن كل من فصيل “لواء الجبل” و”رجال الكرامة”، أبدوا استعدادهما “للاندماج ضمن جسم عسكري يشكل نواة لجيش وطني جديد”.
وفي خطوة أنذرت بتوتر العلاقات مع الحكومة، منع الهجري رتلًا تابعًا لوزارة الدفاع بالدخول إلى السويداء بحجة عدم التنسيق مع إدارة العمليات المشتركة، كما رفض فتح مراكز لتسوية أوضاع عناصر الجيش والأمن السابقين في المحافظة.
لكن بقيت سياسة الحكومة السورية قائمة على الاحتواء والتفاوض، حيث نسّق الشرع مع الرئاسة الروحية قبل تعيين مصطفى البكور مبعوثا للإدارة السورية إلى المحافظة مكلفا بإدارة شؤونها، ومطلع آذار مارس الماضي اتفقت الحكومة مع حركة “رجال الكرامة” على تفعيل الأمن في السويداء.
لكن لم تجري الأمور كما شاءت الحكومة، فسرعان ما توافد العشرات إلى ساحة الكرامة وسط المحافظة في مظاهرة تطالب بإسقاط الحكومة الجديدة ورافعين أعلام الطائفة الدرزية وصور الهجري.
وبعد يوم من توقيع مذكرة تفاهم بين الهجري ومحافظ السويداء، أعلن الهجري في مقطع مصور أنه “لا وفاق أو توافق” مع الحكومة السورية الحالية، واصفا إياها بالمتطرفة والمطلوبة للعدالة، كما شدد على أنه لا مجال للتساهل معها، سواء على المستوى الداخلي أو الدولي.
استمرت جولات يُمكن أن توصف بالكر والفر بين الحكومة السورية والهجري، الذي رفع سقف مطالبه إلى المستوى الدولي، إذ كرّر في عدة بيانات ومناسبات مطلب “الحماية الدولية” كضمان لأمن الدروز، ففي بيان وصف بشديد اللهجة مطلع مايو 2025، إثر اشتباكات صحنايا وجرمانا، طالب بتدخل دولي عاجل ومباشر لحماية المدنيين، معتبرًا أن “طلب الحماية الدولية حقّ مشروع لكل شعبٍ يُباد”.
في هذه الفترة بقيت السويداء تعاني من فلتان أمني وفوضى صارخة، حيث ارتفعت معدلات الجرائم ونُصبت حواجز بشكل عشوائي من قبل فصائل مسلحة، تزامن مع ذلك دخول المحافظة في حالة عزلة سياسية بعد استقالة محافظها مصطفى البكور عقب تعرضه لاعتداء أثناء تأديته عمله في مبنى المحافظة.
مع حلول تموز يوليو الجاري تصاعد التوترات إثر سلسلة حوادث خطف متبادل بين مسلحين دروز وعشائر البدو في ريف السويداء الغربي الذين تجمعها خلافات متراكمة، لتندلع اشتباكات بين الطرفين أدت إلى مقتل العشرات قبل أن تتدخل قوات الحكومة.
أعلنت وزارة الدفاع أنها وحداتها العسكرية المتخصصة انتشرت في المناطق المتأثرة، وعملت على توفير ممرات آمنة للمدنيين، وفك الاشتباكات، واعتبرت في بيان لها أن “الفراغ المؤسساتي الذي رافق اندلاع هذه الاشتباكات ساهم في تفاقم مناخ الفوضى وانعدام القدرة على التدخل من قبل المؤسسات الرسمية الأمنية أو العسكرية، مما أعاق جهود التهدئة وضبط النفس”.
كما أرجع وزير الداخلية أنس خطاب، سبب التوترات إلى “غياب مؤسسات الدولة خصوصا العسكرية والأمنية منها”، مؤكدًا أن الحل الوحيد لإنهائها هو تفعيل دور المؤسسات بما يضمن السلم الأهلي وعودة الحياة إلى طبيعتها بكل تفاصيلها.
رحبت الرئاسة الروحية لطائفة الموحدين الدروز بسوريا، بدخول القوات الحكومية ودعت كافة الفصائل بالمحافظة إلى التعاون معها وتسليم سلاحها لها، وفتح حوار مع الحكومة لعلاج تداعيات الأحداث بالسويداء في بيان أقر بقبوله الهجري.
لكن سرعان ما تراجع عنه وادّعى أن البيان “فُرض عليه أثناء المفاوضات مع الحكومة وبضغوط من دول خارجية”، وحرّض أبناء الطائفة الدرزية ضد القوى الأمنية بزعم أنها “نكثت الاتفاق وواصلت القصف العشوائي للمدنيين”.
لم يكتفِ الهجري بالتحريض، بل ذهب إلى أبعد من ذلك ليرتمي في أحضان الاحتلال الإسرائيلي ويطلب حماية من ينفذ عمليات تطهير عرقي بحق الفلسطينيين في غزة منذ نحو سنتين، حيث طالب بتدخل دولي في بيان قال فيه:”نتوجّه بندائنا إلى فخامة الرئيس دونالد ترامب، ودولة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وكل من يملك صوتا وتأثيرا في هذا العالم… أنقذوا السويداء”.
استغل الاحتلال الإسرائيلي ما يجري في السويداء، ليحقق رغبته بجعل جنوب سوريا “منزوع السلاح” – التي يسعى لها من خلال توغله المستمر في القنيطرة ودرعا – بحجة حماية الأقلية الدرزية، فشن هجمات على مواقع للقوات الحكومية في السويداء ودرعا، أودت بحياة حوالي 200 منهم.
بهذا الموقف، قدّم الهجري للاحتلال ورقة ضغط على الحكومة السورية على طبق من ذهب، حيث تعزف “إسرائيل” على وتر حماية الأقلية الدرزية في الجنوب السورية للحصول على مكاسب تفاوضية مع دمشق سعيًا لفرض اتفاقية تطبيع وقضم المزيد من الأراضي السورية بحسب ما تحدث الخبير في العلاقات السورية – الإسرائيلية، خالد خليل لـ”نون بوست”.
وشن الطيران الحربي الإسرائيلي سلسلة غارات على العاصمة دمشق، مستهدفًا مبنى الأركان العامة ووزارة الدفاع ومحيط القصر الرئاسي، في رسالة تهديد إسرائيلية مفادها بحسب وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس، “أن وتيرة الضربات بسوريا سترتفع إذا لم تفهم دمشق الرسالة”.
وتهدف “إسرائيل” إلى توظيف الحالة الدرزية في الجنوب السوري، لتحقيق مكاسب جيوسياسية استراتيجية، حيث تحاول فرض أمر واقع يُتيح لها تشكيل ما يُشبه “حزام صدّ جغرافي” على تخوم الجولان، تحت ذرائع أمنية كـ”حماية الدروز” وهذه السياسة، تتكئ على نظرية الأحزمة النارية التي تعتمدها تل أبيب في المنطقة بحسب خالد خليل.
على مستوى الشارع السوري الأوسع، خلقت الأنباء عن دعم إسرائيلي للفصائل الدرزية نفورًا وحتى اتهامات بالخيانة، فمهما بلغت الخصومة السياسية الداخلية، يبقى الاحتلال الإسرائيلي عدوًا جامعًا لدى معظم السوريين.
تحت هذه الضغوط وبعد معارك استمرت ليومين، انسحبت القوات الحكومية من السويداء بعد اتفاق بوساطة أمريكية عربية مع جهات محلية في السويداء تقضي بتكليف بعض الفصائل المحليّة ورجال دين دروز مسؤولية حفظ الأمن في المحافظة.
جاء هذا الاتفاق في محاولة للحفاظ على وحدة الأراضي السورية ولتجنيب البلاد حرب مفتوحة مع “إسرائيل” بحسب ما جاء في خطاب الشرع، الذي شدد أن الدولة غلّبت مصلحة السوريين في تجنب الدمار.
مع انسحاب قوات الحكومة، استفردت “ميليشيات” تابعة للهجري بالعشائر البدوية، حيث شنت هجمات ضد مناطقهم وبدأت بأعمال تصفية ميدانية وارتكبت جرائم قتل بحقهم، وبحسب تجمع العشائر في الجنوب السوري “احتجزت فصائل المجلس العسكري في السويداء وعصابات الهجري أكثر من 4 آلاف شخص، معظمهم من النساء والأطفال ورجال كبار بالعمر”.
مهجرو البدو من السويداء يروون الفظائع التي حلّت بهم على يد ميليشيات حكمت الهجري خلال الأيام الماضية#سوريا_الان #السويداء pic.twitter.com/05nLUaRtnR
— نون سوريا (@NoonPostSY) July 21, 2025
لكن تصاعد الانتهاكات بحق العشائر وزيادة التوترات دفع إلى استنفار مقاتلي العشائر الذي شنوا هجوما على ميليشيات الهجري، ما دفع بالرئاسة السورية إلى عقد اتفاق جديد مع الفصائل المسلحة يضمن وقفًا شاملًا وفوريًا لإطلاق النار في السويداء، وعودة القوات الحكومية إلى الانتشار في المحافظة على أن تفتح ممرات آمنة وترسل مساعدات إنسانية في المرحلة الثانية من الاتفاق.
في المقابل، جددت الرئاسة الروحية للدروز، المتمثلة بزعيمها الهجري، دعواتها إلى فرض حماية دولية مباشرة لأبناء الطائفة الدرزية في سوريا، مشيرة إلى أن أبناء الطائفة في حالة دفاع عن النفس منذ أيام، ما يعكس إصرارًا ضمنيًا على تكريس الانقسام، والنأي بالطائفة عن مسار الدولة السورية الموحدة.
رغم أن الهدوء النسبي عاد إلى السويداء، إلا أن ما بعد هذه الأزمة ليس كما قبلها، فبحسب الباحث المختص بالشؤون الإقليمية محمود علوش، فإن هذه الأحداث ستترك آثارًا كبيرة إضافية على علاقة السويداء بالدولة، والمسار الملح”، مؤكدًا على ضرورة “البناء على ما تبقى من هذه العلاقة لمعالجة الشرخ الطائفي الخطير بدًلا من تغذيته كونه المدخل الوحيد الذي مكن “إسرائيل” من العبث في النسيج الوطني والمجتمعي السوري.
“قسد”.. مشروع انفصالي يستغل صبر الدولة
شكّل سقوط نظام الأسد منذ اللحظة الأولى تهديدًا وجوديًا لقوات سوريا الديمقراطية “قسد” التي تسيطر على مناطق شمال شرقي سوريا بما يعادل ثلث البلاد، حيث كانت تعوّل على حالة التنسيق مع نظام البائد الذي يجمعها اتفاقيات أمنية واقتصادية وعسكرية مشتركة تضمن حرية نسبية لحركة المسؤولين الأمنيين والعسكريين للطرفين في مناطق سيطرة كل منهما.
بالمقابل كان لا بدّ للإدارة السورية الجديدة من معالجة وضع “قسد” وإنهاء حالتها كـ”دولة أمر واقع” شبه مستقلة، لفرض شرعيتها وضمان سيادة سوريا ووحدة مؤسساتها، لكن كانت “قسد” قد تحركت سريعًا بعد وصول قوات إدارة العمليات العسكرية إلى مدينة حلب ونشرت قواتها في مناطق سيطرة النظام السابق على الضفة المقابلة من نهر الفرات، قبل أن تنسحب من جزء منها بعد الاستحواذ على مستودعات الأسلحة والمعدات والعربات العسكرية لقوات النظام السابق، لتُعزّز أوراق تفاوُضها المحتملة مع الإدارة السورية الجديدة.
وبالفعل، جلس قائدها مظلوم عبدي على طاولة التفاوض مع الشرع الذي رفض الحل العسكري لإنهاء وجود “قسد”، وتوّجت هذه المحادثات باتفاق وُصف بـ”التاريخي” في 10 مارس/آذار 2025 قضى بدمجها ضمن مؤسسات الدولة.
ومن أبرز ما ورد في الاتفاق الذي كان بادرة أمل لحل المسألة الكردية، ضمان حقوق جميع السوريين بالتمثيل السياسي وفي مؤسسات الدولة على أساس الكفاءة ودون تمييز ديني أو عرقي، والاعتراف بأن المكوّن الكردي جزء أصيل من الشعب السوري مع ضمان حقوقه الدستورية، إضافة إلى وقف إطلاق نار شامل على كل الأراضي السورية إيذانًا بإنهاء النزاع المسلّح.
وشدّد أحد البنود على رفض دعاوى التقسيم وخطابات الكراهية التي حاولت بثّ الفرقة بين مكونات المجتمع خلال الحرب، وحُدّد إطار زمني لتنفيذ الاتفاق لا يتجاوز نهاية العام 2025.
لكن رغم الأجواء الإيجابية التي سادت الأوساط السورية بعد الاتفاق، أثارت بنود الاتفاقية الضبابية تحفظات بعض السوريين، بسبب وجود معوقات وتحديات تسهم في تأخير تطبيقها، خاصة بوجود مقاتلين أجانب في صفوف “قسد” وارتباطات إيديولوجية قسمتها إلى تيارين.
على الرغم من الطابع التصالحي الذي بدا على اتفاق دمشق-قسد، فإن الوقائع على الأرض في الأشهر التي تلته أشارت إلى أن سلوك “قسد” القمعي في مناطق سيطرتها لم يتغير وخصوصًا إزاء السكان العرب، بل ربما ازداد حدة في بعض النواحي، فبدل أن تتصرف كجزء من عملية انتقالية سلمية، استمرت كسلطة أمر واقع تمارس التجاوزات ضد الأهالي.
بينما ينتظر السوريون تطبيق اتفاق 10 آذار بين الحكومة و #قسد، تكشف معلومات خاصة حصل عليها نون بوست عن خطوات مقلقة على الأرض: أكثر من 3000 عنصر من جيش النظام السابق أُعيد تجنيدهم في صفوف “قسد”، بعضهم جُلب من الساحل و #السويداء عبر شبكات تهريب سرية.
🧵 pic.twitter.com/HegoJy9KEP
— نون سوريا (@NoonPostSY) June 27, 2025
حيث وثقت شبكات محلية، تجاوز عدد المعتقلين على يد “قسد” خلال الفترة الوجيزة الماضية حاجز الـ500 شخص، في حملات اعتقال عشوائية طالت مسنين وحتى أطفال، وغالبًا ما كانت الحجج واهية حيث يكفي أن يرفع المواطن رموز وطنية سورية أو صور للرئيس أحمد الشرع أو يكتب منشورًا ينتقد فيه الإدارة الذاتية حتى يُعتبر هدفًا للاعتقال والتغييب.
إلى جانب ذلك، استمرت “قسد” في سياستها القائمة على خطف القصّر وتجنيدهم في صفوفها بعد الزج بهم في معسكرات تدريب قسرية وفق ما تشير التقارير الحقوقية، ما زاد من احتقان والغليان في الجزيرة السورية.
ورغم مرور نحو 4 أشهر على الاتفاق، لم يترجم إلى خطوات عملية ملموسة، حيث ما زالت “قسد” تتعنت وتناور للحصول على اللامركزية والحفاظ على كتلة مستقلة لهيكل قواتها ضمن الجيش السوري، كنوع من الفيدرالية وهو ما ترفضه دمشق بشكل قطعي.
وتراهن “قسد” بالمماطلة والإصرار على رفع سقف المطالب بالدعم الأمريكي الذي لطالما اعتمدت عليه إلى حد كبير لضمان بقائها ومنع أي اجتياح لمناطقها سواء من قوات النظام البائد أو الجيش التركي.
على الضفة الأخرى، تبدو واشنطن وكأنها حسمت القرار بشأن “قسد” واختارت الاصطفاف مع مسار الدولة السورية الواحدة، حيث انتقد المبعوث الأمريكي إلى دمشق، توم باراك، بطء استجابة “قسد” للمفاوضات، وقال إن الطريق الوحيد أمامها يمر عبر دمشق.
بين ضغوط #دمشق وتراجع واشنطن… مشروع #قسد على المحك، فهل اقتربت نهايته؟ pic.twitter.com/jDAZ6cpG1u
— نون سوريا (@NoonPostSY) July 13, 2025
في المقابل ومع استمرار تعنت “قسد” يتضح أن الدولة السورية الجديدة حدّدت لنفسها إطارًا صارمًا وواضحًا في التعامل مع قسد، سقف التفاهم الذي تقبل به دمشق لا يخرج عن مبدأ وحدة وسيادة الدولة بالكامل، وتتعامل معها وفق تكتيكات تقوم على استراتيجية ”الصبر الاستراتيجي مع الحفاظ على أوراق القوة”، يمكن تلخيص ذلك:
التعويل على الحوار والمسار السلمي: لا تزال دمشق تُفضّل استكمال التفاهم مع “قسد” عبر الحوار وليس الحسم العسكري العاجل، لأسباب ميدانية وسياسية أبرزها وجود القوات الأمريكية – التي ستحول دون أي عملية قبل حل مسألة مخيمات وسجون داعش.
استثمار عامل الوقت ضد “قسد”: تدرك القيادة السورية أن الوقت لم يعد في صالح قسد إطلاقًا فكلما مر يوم، تزداد عزلتها، وبالتالي فالمماطلة التي تتبعها هي مناورة عقيمة بل ربما تمنح دمشق موقفًا أقوى.
إبقاء الضغط العسكري كورقة أخيرة: رغم تفضيلها الحل السلمي، حرصت دمشق على إشهار العصا عند الحاجة لضمان جدية قسد في التنفيذ، حيث أكد محافظ دير الزور، غسان أحمد، أواخر يونيو بأن الخيار العسكري لا يزال مطروحًا إذا فشلت المفاوضات، مشيرًا إلى جاهزية فقد ثلاث فرق عسكرية كاملة للتدخل في الجزيرة عند الضرورة.
أين أخطأت الحكومة؟
لا شكّ أن الملفات السابقة تمثل مفاصل جوهرية في المرحلة الانتقالية، ولا يمكن الحديث عن استقرار حقيقي دون معالجتها. إذ يذهب وائل علوان، الباحث في مركز جسور للدراسات في حديثه مع “نون بوست” إلى أن تعثّر أي من هذه الملفات قد تكون كلفته كارثية، إذ إن فقدان السيطرة على أي نزاع داخلي قد يفتح الباب أمام حرب أهلية تهدد السلم الأهلي في البلاد بشكل مباشر، لذا يجب على الإدارة السورية الجديدة أن تدرس كل خطوة تُقدم عليها في إطار احتواء الأقليات بحساسية أعلى، كما عليها أن تجري حوار وطني واسع ومقنّع.
ويشير علوان إلى أن الدولة لم تُتح لمنظمات المجتمع المدني فرصة فاعلة للمشاركة في تسوية النزاعات المرتبطة بملف الأقليات، معتبرًا أن إشراك هذه المنظمات، إلى جانب إعادة تأهيل الأجهزة الأمنية، من شأنه أن يخفّف الأعباء على الحكومة، ويجنّبها العديد من الأخطاء.
من جهته يلفت، علي تمّي، الكاتب والسياسي، في حديثه لـ”نون بوست”، أن الحكومة السورية “أخطأت عندما صبّت تركيزها على الفصائل المسلحة في السويداء وشرق الفرات وهمّشت النخب المجتمعية والتي تعتبر بوصلة المجتمع”، مشددًا على أنه كان من الممكن وضع مسار مدروس ومنظم لاحتواء كل الأقليات في بوتقة الدولة.
ويؤكد تمّي على ضرورة إعادة الإدارة السورية تقييم أدواتها ونهجها، بعدما تبين أن الفصائل المسلحة في السويداء لا تملك قرارها المستقل، وأن بوصلتها السياسية تُدار من خارج الحدود، لذا على الدولة البحث عن بدائل داخلية، في مقدمتها النخب المجتمعية الفاعلة، باعتبارها بوابة أكثر واقعية وفعالية لاحتواء المجتمع المحلي واستعادة التوازن