في مدينة السويداء، حيث تواجهت قوى الأمن السوري مع مجموعات مسلّحة خارجة عن القانون، حسب توصيف الحكومة، في صدام دموي، برزت لهجة استعمارية مألوفة أعاد بثّها الاحتلال الإسرائيلي، متدثّرًا بخطاب “الحماية” بدل الاحتلال، ومتحينًا لحظة الفوضى لتوسيع نفوذه تحت عباءة الدفاع عن “الأقليات”.
لكن اللافت أن هذا الخطاب تماهى، على نحو صادم، مع تصريحات الشيخ حكمت الهجري، أحد أبرز المرجعيات الدينية لدى طائفة الموحدين الدروز في سوريا.
خرج الهجري بمواقف متتالية هاجم فيها الحكومة السورية علنًا، ووجّه نداءات للتدخل إلى قادة أجانب، من بينهم دونالد ترامب، وبنيامين نتنياهو نفسه، المتهم بارتكاب جرائم حرب. في تصعيد سياسي يطرح أسئلة كثيرة عن موقع الهجري وتاريخ اصطفافاته.
يقدّم هذا التقرير قراءة في المسار الروحي والسياسي للشيخ حكمت الهجري، منذ توليه موقع مشيخة العقل عام 2012، وصولًا إلى تحوّله إلى فاعل في الشأن العام، وانخراطه المتصاعد في ديناميات ما بعد سقوط نظام الأسد.
النشأة والخلفية الاجتماعية
وُلد حكمت سلمان الهجري في التاسع من يونيو/حزيران عام 1965 في فنزويلا، حيث كان والده يعمل حينها. بعد فترة قصيرة، عادت العائلة إلى سوريا، وهناك أكمل الهجري تعليمه من المرحلة الابتدائية حتى الثانوية. نشأ في عائلة دينية معروفة في السويداء، توارثت المشيخة لأجيال، وكان والده الشيخ سلمان الهجري من أبرز مشايخ الطائفة.
التحق بكلية الحقوق في جامعة دمشق عام 1985، وتخرّج منها عام 1990. بعد التخرج، استقر في مسقط رأسه للعمل، ثم عاد إلى بلدته قنوات عام 1998 ليستقر فيها بشكل دائم. ومهدت البيئة التي نشأ فيها، إلى جانب خلفيته القانونية، الطريق للعب أدوار مجتمعية متقدمة داخل الطائفة، مستفيدًا من موقعه العائلي ومن شبكة علاقاته الواسعة في جبل العرب.
تسلّم حكمت الهجري منصب الرئاسة الروحية للموحدين الدروز في سوريا عام 2012، بعد وفاة شقيقه الشيخ أحمد الهجري في حادث سير من نفس العام، يُقال أنه بترتيب من نظام الأسد، لموقفه من عمليات انشقاق أبناء الطائفة الدرزية عن قوات الأسد عام 2011، وانضمام بعضهم إلى كتائب الجيش السوري الحر وقتها. حيث كان قد شغل أحمد المنصب منذ عام 1989، خلفًا لوالده الشيخ سلمان الهجري، وهو ما يعكس توارث المنصب داخل العائلة لثلاثة أجيال متتالية.
واجهت خلافة الهجري تحديات غير مسبوقة ارتبطت بتأييده السريع والعلني لبشار الأسد في الأيام الأولى لتوليه المشيخة، حيث قدم دعمه للنظام في عدة بيانات، في ظل تصاعد الغضب الشعبي في المدينة ضد السلطة في ذلك الحين، مما أدى إلى تضرر شعبيته بين العامة، بما فيها إلحاق الضرر بسمعة آل الهجري كمرجعية دينية تاريخية في السويداء.
وهو ما أثار خلافات كبيرة داخل الطائفة نفسها، وفتح نقاشات كثيرة حول من يملك حق الزعامة الدينية والسياسية في جبل العرب. إذ انقسمت الهيئة الروحية إلى مجموعتين: واحدة يقودها الشيخ حكمت الهجري في بلدة قنوات، والأخرى يقودها الشيخ يوسف جربوع والشيخ حمود الحناوي في مقام “عين الزمان”، الذي يُعتبر المركز الديني الأهم للطائفة في سوريا.
علاقته بنظام الأسد وموقفه من الثورة
منذ توليه مشيخة العقل عام 2012، حافظ حكمت الهجري على موقف واضح في تأييده لنظام الأسد البائد. ففي أول ظهور علني له بعد وفاة شقيقه، ألقى كلمة أمام الأسد خلال زيارة الأخير إلى بلدة قنوات لتقديم العزاء، قال فيها: “حضرتك الأمل، أنت بشار الأمل، بشار الوطن، بشار العروبة والعرب، الله يطولنا بعمرك”. هذا الخطاب مثّل إعلان ولاء صريح للنظام.
وبحسب دراسة صادرة عن مركز جسور عام 2020، عبّر الهجري بشكل متكرر عن اصطفافه مع النظام السوري، واستقبل وفودًا من الحشد الشعبي العراقي، وأصدر في مارس/آذار 2015 بيانًا طالب فيه بتسليح أبناء الطائفة. كما قام بالتنسيق المباشر مع القصر الجمهوري في ملفات إدارية ومحلية، من بينها الوساطة لإعادة موظفين مفصولين إلى أعمالهم.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2018، دعا أبناء الطائفة إلى الالتحاق بالخدمة الإلزامية، بعد حادثة اختطاف نفّذها تنظيم داعش، كما أشرف على تشكيل فصيل مسلح بالتنسيق مع فرع الأمن العسكري، وهو نواة الميلشيا التابعة له حاليًا.
استمر الهجري بإظهار ولائه للأسد رغم تصاعد الاحتجاجات في السويداء، ومقتل متظاهرين برصاص قوات النظام، مما عرّضه لانتقادات حادة من ناشطين محليين، اتهموه بالانحياز الكامل للنظام، لا سيما بعد تحطيم تمثال حافظ الأسد وسط المدينة، اللحظة الأبرز في تاريخ محافظة السويداء خلال سنوات الثورة السورية.
لم يقتصر موقف الهجري المؤيد للنظام على البيانات والمواقف العامة، بل شارك عام 2015، مع مشايخ آخرين، في إصدار قرار من مشيخة العقل يقضي بإبعاد الشيخ وحيد البلعوس، مؤسس رجال الكرامة، وعدد من رجال الدين المناهضين للأسد عن الطائفة، حيث اتهمهم بالخروج عن المسار الديني.
وكان البلعوس يعتبر من أبرز مشايخ الطائفة وأكثرهم حضورًا شعبيًا، وهو قائد حركة “رجال الكرامة” التي عارضت نظام الأسد علنًا، قبل أن يُغتال في انفجار سيارة مفخخة بمدينة السويداء، أعقبه تفجير ثانٍ استهدف المستشفى الذي نُقل إليه. حيث اتهم ابنه ليث البلعوس في عام 2021، كلاً من إيران و”حزب الله” اللبناني بالوقوف وراء عملية الاغتيال.
مجددًا، وبعد أقل من عام على تلك الحادثة، ظهر الشيخ حكمت الهجري في مقابلة صحفية مدافعًا عن اللواء عصام زهر الدين، أحد أبرز الضباط في الحرس الجمهوري والمنحدر من السويداء، ووصفه بأنه “متفانٍ في خدمة وطنه وجيشه”.
زهر الدين كان من القادة العسكريين الذين اعتمد عليهم النظام بشكل أساسي في قمع الثورة، وارتبط اسمه بانتهاكات موثقة في مناطق عدة مثل دير الزور، مسرابا، وبابا عمرو في حمص.
شهد هذا الوضع تحولاً تدريجياً مع بداية عام 2021، حين أُهين الشيخ الهجري على يد ضابط من جهاز الأمن العسكري التابع للنظام، ما أثار استياءً واسعاً في أوساط أهالي السويداء، وانتهى الأمر بتقديم دمشق اعتذاراً رسمياً.
اعتُبرت تلك الواقعة منعطفاً حاسماً في موقف الهجري، إذ بدأ بعدها يوجّه انتقادات متزايدة لسياسات النظام، وعبّر بوضوح عن تأييده لمطالب احتجاجات عام 2023 التي رفعت شعارات تدعو إلى تغيير سياسي جذري وخروج النظام من المحافظة.
دوره في الأحداث الجارية
مع سقوط الأسد وهروبه أواخر عام 2024، وجد حكمت الهجري نفسه خارج المعادلة السياسية التي تشكّلت. إذ لم تعترف الحكومة المؤقتة بقيادة أحمد الشرع بأحقيته كممثل للطائفة الدرزية بأكملها، فعملت على تحجيم حضوره واستبعاده من الوفود الرسمية التي زارت دمشق والتقت بالرئيس الجديد.
في المقابل، أُعطي الاهتمام الرسمي لشخصيات وطنية أخرى مثل سليمان عبد الباقي، قائد “تجمع أحرار جبل العرب”، وليث البلعوس، نجل الشيخ وحيد البلعوس وقائد مضافة الكرامة. حيث ظهر كلاهما في لقاءات مع الحكومة الجديدة، ضمن مسعى واضح لتفكيك الهيمنة التي لطالما ارتبطت بعائلة الهجري.
الأمر الذي دفع الهجري للتصعيد من لهجته تدريجيًا، حيث بدأ برفض مخرجات مؤتمر الحوار الوطني، ووجّه انتقادات متكررة للإجراءات الحكومية، قبل أن يطرح دعوات علنية لتدخّل دولي لضمان “الانتقال السياسي”، كما قال.
وفي 17 شباط/فبراير 2025، أصدر بيانًا يصف العلاقة مع الحكومة بأنها “قائمة على الشراكة”، في محاولة متأخرة لإثبات حضوره.
الشيباني رداً على الهجري: من يطلب التدخل الأجنبي يتحمل مسؤولية تاريخية أمام السوريين#سوريا #صحنايا pic.twitter.com/wEEKtNMFeS
— نون بوست (@NoonPost) May 1, 2025
وفي 6 آذار/مارس، شهدت السويداء مظاهرات رفعت صور الهجري وأعلام الطائفة، مرددة هتافات ضد حكومة الشرع، شارك فيها حزب اللواء السوري، والمجلس العسكري في السويداء، وتيارات علمانية وفيدرالية تطالب بالحكم الذاتي أو الانفصال.
وعلى وقع هذه الأحداث، أعلن الهجري في 15 آذار/مارس أنه “لا وفاق ولا توافق” مع الحكومة، واصفًا الحكومة بـ”المتطرفة والمطلوبة للعدالة”، ومؤكدًا أن البلاد في مرحلة “نكون أو لا نكون”.
فيما جاءت دعوات الهجري العلنية لتدخل خارجي، وتواصله مع قادة أجانب، من بينهم رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، التحول الجذري الأخطر في موقعه. إذ فتح الهجري بذريعة “حماية الدروز”، الباب أمام تدخلات إسرائيلية مباشرة، ترافقت لاحقًا مع قصف استهدف العاصمة دمشق، ما أثار موجة غضب شديدة في الأوساط الوطنية السورية، بما في ذلك داخل الطائفة الدرزية نفسها.
بهذا المسار، يكون الهجري قد تجاوز موقع المرجع الديني المحلي، ليصبح فاعلًا متشابكًا مع مشاريع خارجية تهدد وحدة البلاد. فيما يبدو أن تحوّله من مؤيد لنظام الأسد إلى خصم للحكومة الجديدة، لم يكن تعبيرًا عن استقلال سياسي، بل اصطفافًا ضمن شبكة تدخلات إقليمية باتت تتعامل معه كواجهة داخلية تُستخدم تحت لافتة الطائفة، بينما هي تستهدف السيادة الوطنية في الصورة الأعم.