في شمال المغرب، وعلى بُعد حوالي 50 كيلومترًا من مدينة الحسيمة، توجد شبه جزيرة صغيرة تُعد من أجمل المواقع الطبيعية في المنطقة، إذ يقصدها كثيرٌ من المصطافين للاستمتاع بجمال ساحلها المُحاط بجبالٍ صخرية، ولعل أول ما يلفت انتباه الزائر لهذه المنطقة هو العَلم الإسباني الذي يُرفرف فوق صخرةٍ كبيرة، والخط الحدودي المرسوم على الشاطئ الضيّق لشبه الجزيرة، والذي يُمنع تجاوزه من كلا الجانبين.
تتخذ هذه الحدود شكلَ حبلٍ معدني يفصل بين يابستين جمعتهما الجغرافيا وفرّقتهما السيادة، إذ إن هذه الصخرة الضخمة ما تزال حتى اليوم شاهدةً على حقبةٍ تاريخيةٍ طويلة جعلت منها قاعدةً عسكريةً إسبانيةً محصّنة في قلب الساحل المغربي، وهي القاعدة التي أخذت بُعدًا استراتيجيًا مع تصاعد التنافس الاستعماري خلال نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، بما يخدم سياسة إسبانيا في المناطق الخاضعة لنفوذها في شمال المغرب.
ومنذ أن سيطر عليها الأسطول الإسباني آخر مرة خلال القرن السادس عشر، بدعوى محاربة القراصنة، لم تغادرها الجيوش الإسبانية قط، وذلك على الرغم من كل التحولات التي شهدها العالم والمنطقة على حد سواء.
منطقة إسبانية في قلب شاطئ مغربي
تقع باديس، أو “فيليز دي لا غوميرا” كما يسميها الإسبان، على بُعد حوالي خمسين كيلومترًا من مدينة الحسيمة في شمال المغرب، وهي إحدى الجيوب الاستعمارية التي ما تزال إسبانيا تحتفظ بها على التراب المغربي.
كانت في الأصل جزيرةً صخريةً منعزلةً في عرض البحر، لكن زلزالًا عنيفًا ضرب المنطقة سنة 1930 أسفر عن تغيّرات جيولوجية شكّلت شريطًا رمليًا ضيقًا ربطها باليابسة المغربية، ليحوّلها من جزيرة إلى شبه جزيرة، وهذا التحول الطبيعي لم يُغيّر شيئًا في الواقع السيادي، إذ بقيت تخضع للإدارة العسكرية الإسبانية، لتُصبح بذلك أقصر حدود برية في العالم، إذ لا يتعدى عرضها 85 مترًا فقط، ورغم ارتباطها الجغرافي بالمغرب، ما زال حاجزٌ معدني صغير وجنودٌ إسبان يمنعون أي اقترابٍ مغربي من الصخرة.
تعود جذور الاحتلال الإسباني للمنطقة إلى القرن السادس عشر، حين تمكّن الأسطول الإسباني من انتزاع الجزيرة من أيدي العثمانيين، الذين كانوا يستخدمونها كقاعدةٍ بحريةٍ لمحاربة القرصنة في المتوسط، وذلك بعد سلسلةٍ من الأحداث نقلت السيادة عليها من بلدٍ إلى آخر، فعلى الرغم من صغرها الجغرافي، إذ لا تتعدى مساحتها 19 ألف مترٍ مربع، فقد شكّلت باديس محطةً مهمةً في الصراع المسيحيّ الإسلاميّ على البحر المتوسط، وكانت محلّ أطماع إمبراطورياتٍ مختلفة، نظرًا لموقعها الاستراتيجيّ بين مضيق جبل طارق والساحل المتوسطي المغربي.
في سنة 1496، أبرمت كلٌّ من البرتغال وإسبانيا اتفاقًا يقضي بتحديد مناطق نفوذهما على طول الساحل الشمالي لأفريقيا، وبموجبه لم يكن من حقّ إسبانيا التوسّع غرب الجزيرة، لكن هذا القيد لم يلبث أن انهار عقب معركة وادي المخازن سنة 1578، حين انهزمت البرتغال أمام المغرب، وانهار معها النفوذ البرتغالي في شمال أفريقيا، ما فتح الباب أمام إسبانيا لتوسيع نفوذها.
قبل ذلك، كانت إسبانيا قد أرسلت عام 1508 حملةً استكشافيةً بقيادة القائد بيدرو نافارو، بحجة التصدّي لهجمات القراصنة الذين كانوا يتخذون من بعض الجزر المحاذية ملاذًا لهم، لتكون تلك ذريعةً لضمّ الجزيرة إلى مستعمراتها في المتوسط.
غير أن الوجود الإسباني لم يدم طويلًا، إذ تمكّن المغاربة سنة 1522 من شنّ هجومٍ مباغتٍ أسفر عن تدمير الحامية العسكرية واستعادة الجزيرة، وبعد ثلاثة عقود، سلّمها الملك أبو حسون الوطاسي للقوات العثمانية التي دعمته في استعادة عرشه، ما جعلها تدخل لفترةٍ قصيرةٍ في نطاق النفوذ العثماني.
وقد جعل منها العثمانيون آنذاك وكرًا للقراصنة العاملين في مضيق جبل طارق، حيث انطلقت منها الغارات التي استهدفت السفن الأوروبية في البحر الأبيض المتوسط، لا سيّما أن القرصنة برزت كأداة اعتمدتها الإمبراطورية العثمانية لإضعاف النفوذ الأوروبي، خصوصًا الإسباني والبرتغالي.
وبعد تولّي السلطان السعدي عبد الله الغالب الحكم في المغرب بين عامَي 1557 و1574، رأى في هذا النشاط والنفوذ العثماني المتنامي تهديدًا له، إذ خشي أن تتحول الجزيرة إلى قاعدة لغزو المملكة، وهو ما دفعه إلى التنازل عنها للإسبان.
وقد حاول الإسبان استعادتها سنة 1563 لكنهم فشلوا، ليعودوا في العام التالي بحملة عسكرية انتهت بالقضاء على الحامية العثمانية التي كانت تضم 150 جنديًا، ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم، بقيت الجزيرة تحت السيادة الإسبانية، رغم ما تعرّضت له لاحقًا من حصارات متكررة لم تُفلح في إخراجها.
من معبر بحري إلى قاعدة عسكرية
بعد أن انتزعتها إسبانيا من العثمانيين، حافظت مدريد على وجودٍ دائمٍ في الصخرة، غير أن هذا الوجود لم يكن دائمًا ذا أهميةٍ عسكريةٍ قصوى، لكن مع تصاعد التنافس في غرب المتوسط، خاصةً مع مطلع القرن العشرين، بدأت الصخرة تكتسب بُعدًا استراتيجيًا جديدًا، يخدم سياسة إسبانيا في المناطق الخاضعة لنفوذها في شمال المغرب.
ومع بداية الاستعمار الفرنسيّ والإسبانيّ للمغرب سنة 1912، استمرّ الوضع على ما هو عليه، لكن التحوّل الفعليّ في دور باديس جاء بعد استقلال المغرب سنة 1956، حين قررت إسبانيا الإبقاء على عددٍ من الجيوب الساحلية، مثل سبتة ومليلية والجزر الجعفرية وصخرة باديس.
وفي ظلّ الغياب التامّ لأيّ حياةٍ مدنيةٍ أو اقتصاديةٍ فيها، تمثّل باديس قاعدةً عسكريةً، إذ تتواجد فيها حاميةُ المجموعة النظامية رقم 54، التي تضم نحو 25 فردًا، يعيشون في ثكنةٍ صغيرة ويخضعون لنظام تناوبٍ دوريّ، ويستعملون الصخرة كقاعدةٍ للمراقبة العسكرية مزوّدةٍ بالرادارات، وموقعٍ لمراقبة الملاحة على الساحل.
وقد جُهّزت الثكنةُ بغرفٍ للإقامة ومرافقَ صحية ومخازنَ لوجستية، بالإضافة إلى مرافق لتخزين الأسلحة والذخائر، لكن تقارير صحفية كشفت أن بعض المباني العسكرية، خصوصًا تلك المخصصة للنوم والحمّامات، تعاني من تدهورٍ وإنهاكٍ أدّى إلى تقييد استخدام بعض منشآتها، ما دفع الجيش إلى إطلاق مشاريع إصلاحٍ وترميمٍ لتأمين سلامة الجنود القاطنين.
ولضمان تغطيةٍ دائمةٍ للدفاع ومراقبة الحدود البحرية، تم تعزيز الموقع بتقنياتِ اتصالٍ حديثة، كما يتضمّن مهبطًا للمروحيات يُستخدم لتزويد القاعدة بالإمدادات والموارد البشرية، فضلًا عن تشغيل مولدات كهرباء احتياطية حديثة تم استبدالها مؤخرًا لتحسين الاعتماد الذاتي على الطاقة.
وتتبع هذه الثكنةُ للقيادة العامة في مدينة مليلية المحتلة، وهي المسؤولة عن توفير الوحدات التي تضمن وجودًا دائمًا في باديس، بالإضافة إلى تقديم الدعم اللوجستي والإمدادات، بما في ذلك خدمة المياه والوقود، عبر السفن العسكرية.
وبالنظر إلى صغر حجمها، يبدو أن القاعدة العسكرية في باديس لا تضم أي أسلحة ثقيلة أو منظومات دفاع متقدمة، وهو ما يعكس طبيعة هذا الموقع بوصفه قاعدة ذات طابع رمزي وتاريخي أكثر من كونه موقعًا ذا أهمية استراتيجية عسكرية حقيقية.
لماذا لا نسمع كثيرًا عن باديس؟
رغم الحضور المتصاعد لقضية سبتة ومليلية في الخطاب السياسي المغربي، ظلّت صخرةُ باديس خارج التناول السياسيّ والإعلاميّ العام، وهو ما يثير علامات استفهام عديدة، ويُرجَّح أن السبب في ذلك يعود إلى غياب الكتلة السكانية في الصخرة، ما يجعلها أقل جاذبية من حيث الضغط الحقوقي أو الإنساني، كما أن انعدام أي نشاط اقتصادي أو مدني يُضعف من أوراق المطالبة بها.
ومنذ سنة 2002، حين اندلعت أزمة جزيرة ليلى — وهي جزيرة تقع على بُعد مئتي متر أو أقل بقليل من أقرب شاطئ مغربي — والتي تحوّلت خلال تسعة أيام إلى واحدة من أشدّ الأزمات الدبلوماسية حدّة بين المغرب وإسبانيا منذ الحقبة الاستعمارية، وكادت أن تتطوّر إلى نزاع عسكري، خاض المغرب مواجهة دبلوماسية قوية ضد الوجود الإسباني في الجزر القريبة من سواحله.
وقد بدأت تلك الأزمة في 11 يوليو/تموز، حين أرسلت السلطات المغربية ستة جنود من البحرية إلى الجزيرة في مهمة علنية لمراقبة شبكات التهريب والهجرة غير النظامية، بعد أن تحوّلت الجزيرة إلى نقطة عبور مشبوهة بفعل قربها من السواحل الأوروبية، لكن إسبانيا اعتبرت هذه الخطوة “احتلالًا غير مشروع” لجزر خاضعة لسيادتها، وفق تصورها، ما أدّى إلى احتجاج رسمي وتصعيد سريع، استخدمت فيه قوات من مشاة البحرية وقوارب حربية وطائرات هليكوبتر، ونجحت في طرد الجنود المغاربة من الجزيرة دون وقوع خسائر بشرية.
ومع أن أزمة جزيرة ليلى انتهت، بعد تدخل أمريكي، بتفاهم يقضي بانسحاب الطرفين وترك الجزيرة دون وجود عسكري دائم لأي منهما، إلا أنها لم تُفضِ إلى نتائج أو سياسة شاملة لاستعادة الجيوب المحتلة، كما أن اتفاق التعاون العسكري الإسباني-المغربي الموقّع سنة 2019 لم يُشر إلى وضع هذه الجيوب، رغم الشراكة الأمنية في ملفات الهجرة والمخدرات، ما يُفهم على أنه قبول ضمني بالإبقاء على الوضع القائم.
ومن جانب آخر، يسود الاعتقاد أن المغرب يختار “التريّث” في هذا الملف، كما هو الحال مع الجزر الجعفرية، وهي ثلاث جزر صغيرة تابعة لإسبانيا تقع على بُعد 48 كيلومترًا شرق مدينة مليلية، وذلك تفاديًا لفتح جبهاتٍ متعددة مع مدريد في قضايا متشابكة كالهجرة والتعاون الأمني والعلاقات الاقتصادية، خاصة بعد التقارب بين البلدين في أعقاب دعم إسبانيا لمقترح الحكم الذاتي كحلّ لنزاع الصحراء، عدا عن أن الموقع الجغرافي للجزر الجعفرية وجزيرة باديس يجعل منها أوراق ضغط متبادلة أكثر من كونها قضايا استعجالية قابلة للحسم السريع.
هكذا، ورغم صِغر مساحتها ومحدودية تأثيرها الاقتصادي، تبقى شبه جزيرة باديس شاهدًا على استمرار الوجود الاستعماري الإسباني في قلب الساحل المغربي، فهي موقع استراتيجي تحوّل من معبر بحري إلى قاعدة عسكرية معزولة، لا تضم أي نشاط مدني أو حياة طبيعية، لكنها تظل تحت السيادة الإسبانية، مدعومة بحامية صغيرة وبنية تحتية عسكرية محدودة لكنها قائمة.
ورغم أن قضايا مثل سبتة ومليلية تحظى بزخم سياسي وإعلامي أكبر، فإن صخرة باديس تعاني من تهميش لافت بسبب غياب السكان، ما يُضعف أوراق الضغط لاستعادتها، ويبدو أن الرباط توازن بين أولويات الأمن والتعاون مع مدريد، وبين حقّها في المطالبة التاريخية بأراضيها، مما يُبقي ملف باديس معلّقًا بين الجغرافيا التي تربطها بالمغرب، والسيادة التي تُبقيها تحت قبضة دولة أجنبية.