“ينبغي على حماس أن تتخلى عن حكم قطاع غزة، وأن تلقي سلاحها كما سبق أن فعل الجيش الجمهوري الأيرلندي، فالوضع مشابه في الحالتين”.. بهذا الإسقاط التاريخي حاول وزير الخارجية البريطاني، ديفيد لامي، تمرير السردية الإسرائيلية لنزع سلاح المقاومة كشرط – بلا ضمانات – لإنهاء حرب الإبادة التي تشنها قوات الاحتلال منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
لامي، الممثل للمستعمر البريطاني في حربه مع الأيرلنديين، يختصر النزاع التاريخي بين بريطانيا وأيرلندا، الممتد لأكثر من 80 عامًا، كبَّل خلالها الأيرلنديون البريطانيين بخسائر فادحة، وصلت إلى استهداف قلب العاصمة لندن حيث مقر إقامة رئيسة الوزراء الحديدية مارغريت تاتشر، في أمتاره الأخيرة فقط، حين تسليم الجيش لسلاحه بعد إبرام اتفاق سياسي لوقف الحرب.
الوزير البريطاني، الذي شبَّه بلاده في تلك المقارنة بالكيان المحتل، والجيش الأيرلندي المقاوم (IRA) بحماس، تجاهل الكثير من التفاصيل في هذا الاستدعاء التاريخي المنضبط شكلًا، فيما يعاني مضمونه من محطات تتطلب التوقف عندها مليًا؛ فلولا مسيرة النضال الطويلة التي خاضها هذا التنظيم، لما أُجبر المستعمر البريطاني، ولا دول أوروبا، ولا حتى الولايات المتحدة، على الجلوس معه إلى طاولة المفاوضات من أجل التوصل إلى اتفاق سلام يُنهي الحرب ويتضمن تسليم الجيش لسلاحه.
كما أنه، وبصورة غير مقصودة، فضح الازدواجية التي يعاني منها المجتمع الدولي، وأسقط أقنعة العدالة المُدَجّنة والحضارة المُزيّفة التي ارتداها الغرب لعقود طويلة.
86 عامًا من النضال المسلح
تأسس الجيش الجمهوري الأيرلندي (IRA) عام 1919 لاستكمال مسيرة النضال ضد الاحتلال البريطاني، التي وضعت لبنتها الأولى الحركات الفدائية القومية الأيرلندية التي كانت تنشط منذ القرن التاسع عشر، وكان آخرها حركة المتطوعين الوطنيين التي تأسست عام 1913 ونفذت العديد من العمليات الفدائية ضد البريطانيين أثناء الحرب العالمية الأولى، أبرزها تمرد أعياد الفصح عام 1916.
بعد هذا التمرد، الذي أطلق عليه البعض مسمّى “ثورة عيد الفصح”، أُعيد تنظيم المقاتلين من القوميين الفدائيين في جيش جمهوري أيرلندي موحّد، هدفه تحرير أيرلندا بالكامل من الحكم البريطاني، لتبدأ أولى جولات المواجهة في صورة حرب عصابات ضد القوات البريطانية عام 1920، حيث استُهدفت الثكنات العسكرية، ورجال الشرطة، والمتعاونون مع الحكم البريطاني.
نتيجة لتلك المعارك الضارية التي كبّد فيها الأيرلنديون المستعمر البريطاني خسائر كبيرة، اضطر الأخير إلى إبرام اتفاق سياسي عام 1921 عُرف بـ”المعاهدة الأنجلو-إيرلندية”، والتي قسمت البلاد إلى قسمين: الدولة الأيرلندية الحرة (استقلال جزئي) وأيرلندا الشمالية (بقيت تحت الحكم البريطاني). وقد أحدث هذا التقسيم تباينًا في الرأي داخل الجيش الجمهوري، الذي انقسم إلى مؤيد ومعارض.
المؤيدون للاتفاق شكّلوا حكومة جديدة في الجنوب، أما المعارضون فأصرّوا على استكمال نضالهم في الشمال من أجل إنهاء الحكم البريطاني وتحرير كامل الأراضي الأيرلندية من قبضة المستعمر الأجنبي، وهنا اتخذت المواجهات بُعدًا آخر، بات أقرب إلى الحرب الأهلية، التي نجحت لندن في زرع بذرتها الأولى عبر الانقسام بين الأيرلنديين أنفسهم.
وتحوّلت المعركة إلى حرب بين الجيش الجمهوري من جهة، والقوات البريطانية والداعمين لها من الأيرلنديين المنشقين عن الجيش بعد الاتفاق من جهة أخرى، وهي معركة كانت غير متكافئة وانتهت في بداياتها بهزيمة الجيش المقاوم، الذي رفض الاستسلام وأصرّ على مواصلة النضال.
خلال الفترة بين 1930 و1960، خاض الجيش الجمهوري حربًا نوعية ضد الأهداف البريطانية داخل أيرلندا وفي قلب العاصمة البريطانية لندن، وفي تلك الفترة، طوّر المقاومون من تكتيكات القتال، ما بين تفجيرات وكمائن وخطف واغتيالات، ومن أبرز العمليات تفجيرات بلفاست في يوليو/تموز عام 1972، حيث فجّر الجيش أكثر من 20 قنبلة، أسفرت عن مقتل 9 أشخاص وإصابة 130 آخرين.
وفي 21 نوفمبر/تشرين الثاني 1974، استهدف الجيش حانتين في برمنغهام، ما أسفر عن مقتل 61 شخصًا وإصابة 182، وفي نوفمبر عام 1987 استهدف احتفالًا في أنيسكيلين قُتل فيه 11 شخصًا وأُصيب 63، كما أعلن في 20 مارس/آذار 1993 مسؤوليته عن تفجير مركز تسوق في وارينغتون، أودى بحياة 12 شخصًا وأصاب 20 آخرين.
وأمام هذا النضال الأسطوري، الذي دفع البريطانيون ثمنه غاليًا، اضطرت القيادة البريطانية في منتصف ثمانينيات القرن العشرين إلى فتح قنوات اتصال مع ممثلين عن الأيرلنديتين، الشمالية والجنوبية، بدعم أوروبي وأمريكي في ذلك الوقت، وأسفر ذلك عن بلورة اتفاق بين رئيس الوزراء البريطاني جون ميجور ونظيره الأيرلندي الجنوبي جون بروتون، في 22 فبراير/شباط 1995.
تضمّن الاتفاق انخراط الجناح السياسي للجيش الجمهوري، ممثّلًا في حزب “شين فين”، في المفاوضات، وأن يكون له حضور في مستقبل ما بعد الحرب، في مقابل تخلي (IRA) عن العمل المسلح وتسليم السلاح.
واستمرت المفاوضات قرابة أربع سنوات كاملة، إلى أن تم التوصل إلى اتفاق مُرضٍ إلى حد كبير لجميع الأطراف في ذلك الوقت، نص على إقامة إدارة شبه موحدة بين شطري أيرلندا وتشكيل حكومة شبه مستقلة في الجنوب، مع ترك الحسم في مصير الوضع السياسي لأيرلندا الشمالية لاستفتاء شعبي ديمقراطي.
وبعد سجال سياسي استمر لسنوات، أعلن الجيش الجمهوري الأيرلندي، بعد أن اطمأن نسبيًا إلى دخول الاتفاق حيّز التنفيذ وإنهاء القتال، تخليه عن السلاح عام 2005، وانخراطه في المسار السياسي الديمقراطي، كسبيل لتحقيق هدفه الذي رُسم منذ بداية القرن الماضي، وهو توحيد كل الأراضي الأيرلندية في دولة واحدة مستقلة.
قضية متشابهة
تتعدد أوجه الشبه بين حركة حماس والجيش الجمهوري الأيرلندي في العديد من السمات التي تشمل الدوافع التي قادت إلى النشأة والأهداف والمسارات، وهي سمات مشتركة دفعت كثيرًا من المتابعين إلى الحديث عن المنظمتين كوجهين لعملة واحدة، رغم الخلاف الأيديولوجي والجغرافي بينهما.
كلاهما حركتا كفاح مسلح ضد مستعمر؛ فالجيش الأيرلندي نشأ أساسًا لتحرير أيرلندا من قبضة بريطانيا وتوحيد أجزائها التي قسمها المستعمر، وكذلك حماس، التي خرجت إلى النور بعد الانتهاكات الإسرائيلية والتوسع الاستيطاني، ككيان مقاوم أخذ على عاتقه تحرير الأرض من المحتل الإسرائيلي.
يحظى كل كيان بحاضنة شعبية كبيرة، ويمثلان قطاعًا جماهيريًا مهمشًا؛ فالجيش الأيرلندي عبّر عن تطلعات الكاثوليك والقوميين في أيرلندا الشمالية، وهم فئة مهمشة طائفيًا من قبل المستعمر البريطاني، وكذلك حماس، التي تمثل جزءًا من الشعب الفلسطيني، خاصة في قطاع غزة، وتعبر عن رغبته في الاستقلال ومقاومة المحتل الذي يتعامل معه بعنجهية واستعلاء، رغم أنهم أصحاب الأرض.
يتشاركان في البنية التنظيمية، حيث الانقسام إلى جناح عسكري وآخر سياسي؛ فالجيش الأيرلندي كان يمثل الذراع العسكرية للمقاومة، فيما كان حزب “شين فين” جناحه السياسي. الأمر ذاته ينطبق على حماس، التي تضم جناحًا سياسيًا ممثلًا في حكومة غزة ونخبة من القادة، وآخر عسكريًا يتمثل في كتائب القسام، وكلا الجناحين يخدم الآخر ويلتقيان على هدف واحد: تحرير الأرض ومقاومة الاحتلال.
كلاهما صُنّف كـ”جماعة إرهابية” من قِبل الخصوم وحلفائهم؛ فالولايات المتحدة وبريطانيا وبعض الدول الأوروبية صنّفت الجيش الجمهوري الأيرلندي، في بداياته، كتنظيم إرهابي غير معترف به، وهو ما تكرر مع حماس، التي صنّفها الكيان الإسرائيلي وحليفه الأمريكي وبعض الحلفاء الأوروبيين كتنظيم إرهابي.
حمل كل منهما على عاتقه مهمة تحرير الأرض من المستعمر الأجنبي، حتى لو كلّفه ذلك أثمانًا باهظة، إيمانًا بأن الغاية العظيمة تستوجب التضحية وتستحق الضريبة، لذا لم يُبالِ أيٌّ منهما بالانتقادات التي تعرضا لها من التيارات المسالمة أو المهادِنة.
تعرض كلاهما لخيانات داخلية؛ فالجيش الأيرلندي واجه انقسامات حادة عقب المعاهدة الأنجلو-أيرلندية، إذ خرجت فئة تطالبه بالاستسلام وفتح قنوات اتصال مع لندن لإنهاك المقاومة وبث الفرقة، ما أدى في النهاية إلى انقسامه إلى جناحين: أحدهما اختار المسار السياسي، والآخر أصر على استمرار النضال.
والأمر نفسه حدث مع حركة حماس، التي واجهت خيانات من بعض التيارات الفلسطينية، خاصة من داخل حركة فتح والمنظمة وبعض الفصائل، ممن لم يترددوا في التنسيق مع الاحتلال والمساهمة في تشديد الحصار على المقاومين، بل وحتى التبليغ عنهم وتسليمهم، كما حدث في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي في أيرلندا.
انتهج كل من الحركة والجيش استراتيجية نضال مزدوجة، تقوم على الجمع بين العمل السياسي والمقاومة المسلحة، إيمانًا بأن القوة هي ما يُجبر العدو على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، وأن ما دون ذلك هو استسلام مقنّع، فالأيرلنديون فتحوا قنوات اتصال مع القيادة السياسية البريطانية في الوقت ذاته الذي كانت فيه عملياتهم تهزّ أرجاء لندن، وهو الأمر نفسه الذي تقوم به المقاومة الفلسطينية؛ إذ تجري القيادة السياسية لحماس مفاوضاتها في الدوحة والقاهرة، بينما يواصل المقاومون في الميدان تنفيذ العمليات الفدائية التي تستنزف العدو وتُوجِعه.
ونتيجة لهذه القواسم المشتركة، تشهد العلاقات الأيرلندية-الفلسطينية تقاربًا لافتًا؛ إذ تُعَدّ دبلن من أكثر عواصم أوروبا دعمًا لحقوق الشعب الفلسطيني، إذ تعرض الشعبان لمعاناة متشابهة، وواجها نفس الشيطنة الاستعمارية، وسلكا مسارًا نضاليًا واحدًا. وتشير تقديرات غير مؤكدة إلى لقاءات وتفاهمات جمعت قادة المقاومة الفلسطينية والعربية بممثلين عن الجيش الجمهوري وساسة من حزب “شين فين”.
أوجه الخلاف.. ما جهله لامي أو تجاهله
اكتفى وزير الخارجية البريطاني باستدعاء الحلقة الأخيرة في مسيرة الجيش الجمهوري الأيرلندي ليستند إليها لتمرير رؤيته التي تتماهى مع الرؤية الصهيونية حد التطابق، فالرجل جهل أو تجاهل محطات عدة مر بها المناضلون الأيرلنديون للوصول إلى تلك اللحظة، ونسِي أو تناسَى مقدمات حاسمة، وتفاهمات منضبطة، ووساطات إقليمية ودولية قادت في النهاية إلى ارتضاء (IRA) تسليم سلاحه مرفوع الرأس، دون إذلال أو إذعان.
في عام 1995، شنّ الجيش الجمهوري الأيرلندي سلسلة هجمات دامية، فجّر خلالها محطات وفنادق في العاصمة لندن وفي ليفربول، من بينها الفندق الذي كانت تقيم فيه رئيسة الوزراء البريطانية الراحلة مارغريت تاتشر بغرض اغتيالها، وهي العملية التي يمكن تشبيهها – من حيث وقعها الرمزي والسياسي – بعملية “طوفان الأقصى” التي نفذتها المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
لكن رد الفعل كان مغايرًا تمامًا، وكاشفًا عن الوجه الحقيقي لـ”إسرائيل” وعقليتها العنصرية الإجرامية؛ إذ لم تقم بريطانيا بقصف دبلن بالصواريخ والقنابل وتدميرها بالكامل ردًا على عمليات الجيش الجمهوري، كما فعلت “إسرائيل” في غزة انتقامًا من حماس. كما لم يستهدف الجيش البريطاني أطفال ونساء أيرلندا الشمالية، ولم يحاصرهم جوعًا وعطشًا، ولم يقضِ على مقومات الحياة هناك كما يفعل الاحتلال الإسرائيلي اليوم.
لم يقف المجتمع الدولي صامتًا أو عاجزًا أو متواطئًا كما يفعل اليوم مع غزة، بل انتفضت حكومات أوروبا وقادتها، وطُلب من الرئيس الأمريكي وقتها، بيل كلينتون، التدخل لإنهاء المواجهات والتوصل إلى حلول سلمية وتفاهمات تقود إلى التهدئة، وهو ما حدث بالفعل، بخلاف المشهد الفلسطيني الراهن الذي يشيح فيه العالم بوجهه عن المجازر اليومية.
ولم تطلب بريطانيا من قادة الجيش الأيرلندي مغادرة دبلن أو نفيهم خارج البلاد، كما لم تطلب من سكان أيرلندا الشمالية البحث عن أوطان بديلة ضمن مخطط التهجير، بزعم تحويلها إلى “ريفيرا أوروبا”، كما يُطلب اليوم من قادة حماس وسكان غزة.
بل على العكس، شارك الجيش في المفاوضات السياسية من خلال جناحه السياسي “شين فين”، الذي بات شريكًا في الحكم، وفي المقابل، يُصر الاحتلال الإسرائيلي وحلفاؤه من البريطانيين والأمريكيين والأوروبيين على استبعاد حماس ونفي قادتها ومنعها من أي دور في “اليوم التالي” للحرب.
كما لم تكن بريطانيا، المنتشية آنذاك بصولجان العظمة والهيمنة كرمز للتاج الأوروبي، لترضخ وتطرق أبواب المفاوضات مع الجيش الأيرلندي لإنهاء الحرب وفق شروطه وبما يعزز مكانته كحاضنة للقومية الأيرلندية، لولا مسيرة نضال امتدت لأكثر من 80 عامًا، تكبدت خلالها لندن خسائر فادحة كادت أن تهز صورتها أمام العالم. فكان الجلوس إلى طاولة التفاهمات هو الحل الأمثل للخروج من المأزق.
وهذا بالضبط ما يخشاه الاحتلال الإسرائيلي اليوم: أن يُضطر إلى المفاوضات نتيجة عمليات المقاومة وصمودها، خاصة بعد دخول مرحلة حرب الاستنزاف ومعارك العصابات التي تجيدها حماس ورفيقاتها، لذلك تسعى تل أبيب، بدعم من واشنطن وبعض العواصم الأوروبية، للحيلولة دون الوصول إلى تلك اللحظة، عبر محاولة تجريد المقاومة من سلاحها وإقصائها عن حكم القطاع، خشية تكرار السيناريو الأيرلندي مرة أخرى.
في النهاية، وكما هي عادة المستعمر في كل زمان ومكان، يتعامل مع التاريخ بانتقائية مريبة، ينظر إليه بعين أحادية، ويقرأه بلغة واحدة؛ يختار ما يتماشى مع أجندته ويخدم مصالحه، ويتجاهل بقية ملامح الصورة التي قد تُفشل روايته، وهذا بالضبط ما فعله وزير الخارجية البريطاني في تصريحاته الأخيرة، حين سعى عن جهل أو تجاهل لتمرير السردية الإسرائيلية وخدمة أهداف الاحتلال، ولو على حساب الحقائق والتجارب التاريخية الموضوعية.