ربما مرّت أمامك خلال الأيام الماضية صورٌ لأطفالٍ غزّيين تلاشت ملامحهم حتى صاروا أشبه بظلالٍ لعظام مكسوّة جلدًا، أو مقاطع فيديو تُظهر رجالًا ونساءً يسقطون وسط الشارع لأن أجسادهم لم تتلقَّ لقمةً واحدة منذ أيام.
لعلّك رأيت أيضًا مشهد الطوابير أمام “التكايا” الشحيحة، حيث يتدافع الصغار لأجل ملعقة أرز أو جرعة حساء تُبقيهم أحياء إلى الغد، المفارقة أن هذه اللقطات ليست ومضة مأساوية عابرة؛ إنها يوميّات شعبٍ يُجرَّد الاحتلال حقّه الأساسي في الغذاء على مرأى العالم.
ووراء كل إطار صامت أرقامٌ تصرخ، وتتكلم عن مدى فداحة الجريمة التي يرتكبها الاحتلال في غزة، إذ حوّل منطقة ساحلية يقطنها مليوني نسمة إلى مسرح لأخطر مجاعة يشهدها القرن.
نحاول في هذا التقرير رواية المجاعة من زاوية الأرقام والحقائق ونرصد ردود الفعل الدولية وإمكانات التدخّل العاجل قبل أن تقع كارثة الموت الجماعي التي تهدد الفلسطينيين في القطاع.
الأونروا تؤكد أن سكان غزة يعانون من الجوع لدرجة فقدان الوعي، في مشهد يلخّص كارثة التجويع المتواصلة. pic.twitter.com/1eBLMzhjnl
— نون بوست (@NoonPost) July 22, 2025
الجوع يهدد حياة الغزيين
لم يعد خطر المجاعة يهدد غزة فحسب، بل أصبح واقعًا يعايشه السكان يوميًا عاجزين عن مواجهته، هذا ما تؤكده الإحصائيات والأرقام، فوفقًا لتحليل التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC) يواجه 470 ألف شخص في غزة مستويات كارثية من الجوع – المرحلة الخامسة من التصنيف وهي الأخطر- بينما يعاني كافة السكان من انعدام الأمن الغذائي الحاد.
كما يحذر التقرير من خطر فقدان حياة نحو 71 ألف طفل وأكثر من 17 ألف أم إذا لم يتلقوا علاج عاجل من سوء التغذية الحاد، وبحسب منظمة الصحة العالمية فإن أكثر من 90% من الأطفال دون سن 5 يعانون من مستويات حرجة من سوء التغذية، مما أدى إلى وفاة العشرات منهم بالفعل بسبب الجوع.
من جهتها حذّرت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) أيضًا من إصابات الأطفال، مشيرة إلى أن طفلًا من كل 10 يخضعون للفحص في العيادات التي تشغلها في قطاع غزة يعاني من سوء التغذية، ما ينذر بعواقب صحية جسيمة على جيل كامل.

الأخطر من ذلك، أن الجوع في غزة بات قاتلًا بالفعل، وأضحى الاحتلال يرتكب عبر التجويع مجازر صامتة، إذ توثّق التقارير المحلية حالات وفاة يومية بسبب سوء التغذية، وفي أحدث إحصائية سجلتها وزارة الصحة بغزة، توفي 15 شخصًا بينهم 4 أطفال، بسبب المجاعة وسوء التغذية في قطاع غزة خلال 24 ساعة الماضية، ليرتفع إجمالي وفيات المجاعة وسوء التغذية إلى 101 حالة وفاة بينهم 80 طفلًا.
وفيما تشهد الأسواق شحًا في المواد الأساسية، ترتفع أسعار المتوفر منها ارتفاعًا جنونيًا بسبب إغلاق المعابر منذ آذار/ مارس الماضي، ما جعل الحصول عليها أمرًا مستحيلًا لدى معظم الأسر، حيث بلغت أسعار الدقيق نحو 3 آلاف ضعف مستويات ما قبل الحرب، وأصبح العثور على وقود الطهي شبه مستحيل، كما قفزت أسعار المواد الغذائية %500 منذ إغلاق المعابر قبل 5 شهور.
يشير الأكاديمي والمختصّ في الشأن الاقتصادي سمير أبو مدللة، من غزة، أن سعر كيلو الطحين ارتفع إلى 170 شيكلاً، بزيادة 240% خلال أسبوع فقط، ووصل سعر كيلو الأرز إلى 110 شواكل، بارتفاع 175%، في وقت كان السعر الطبيعي لهذه السلع قبل الحرب بضعة شواكل فقط.
بينما ينتظر على حدود قطاع غزة ما يزيد على 116 ألف طن من المساعدات الغذائية، وهو ما يكفي لإطعام سكان غزة بالكامل لمدة شهرين بحسب برنامج الأغذية العالمي.
“حكم إعدام محتمل”
لا تقف آثار سياسة التجويع الإسرائيلية الممنهجة عند حد معين، بل تمتد لتظهر ملامح انهيار صحي واجتماعي واسع النطاق، حيث تؤكد منظمة الصحة العالمية أن الأطفال تحديدًا يعانون من أمراض ناجمة عن سوء التغذية وضعف المناعة، فالأجسام الواهنة لا تقوى على مقاومة الأمراض الشائعة مثل الإسهال والالتهابات الرئوية والحصبة، والتي باتت تحصد أرواحًا كان بالإمكان إنقاذها بسهولة في الظروف الطبيعية.
وتوضح منظمة الصحة العالمية أن سوء التغذية والمرض يدفعان بعضهما بعضًا في حلقة قاتلة، فالجوع يُضعف مناعة الجسم ويجعل حتى النزلات المعوية البسيطة خطرًا مميتًا، والأمراض بدورها تفاقم سوء التغذية عبر زيادة حاجة الجسم للغذاء وتقليل امتصاصه، وتلخص المنظمة خطر الجوع على الأجساد المريضة بأنه “حكم إعدام محتمل”.
على المدى البعيد، تنذر هذه الأزمة بتبعات دائمة على صحة وتنمية الأطفال، فالذين ينجون جسديًا من المجاعة سيواجهون آثارًا مزمنة مثل التقزّم وضعف النمو البدني والعقلي نتيجة نقص الغذاء في أعوامهم الحرجة وفقًا للصحة العالمية.
وتشير إلى ذلك أيضًا مسؤولة التغذية في مستشفى العودة بقطاع غزة، د. رنا زعيتر، التي أكدت أن نسبة كبيرة من الأطفال بدأت تظهر عليهم أعراض التقزم الحاد، الذي لا يقتصر على قصر القامة، بل يؤثر أيضًا على نمو الأعضاء الداخلية كالكبد والكلى.
ولفتت زعيتر إلى أن “سوء التغذية لا يقتصر على الجسد فقط، بل يضرب القدرات العقلية والمعرفية للأطفال في مهدها، حيث يؤدي نقص اليود والحديد وفيتامين A خلال السنوات الأولى من عمر الطفل إلى تلف دائم في الدماغ، وانخفاض في معدل الذكاء، وصعوبات تعلم، وحتى إعاقات ذهنية دائمة”.
“تشعر أن جدار المعدة قد التصق ببعضه.. ويبدأ صداع في الرأس أو ألم في الدماغ لا أجد له وصفًا” ..
الصحفي الفلسطيني صالح الناطور يصف في مقطع فيديو وجع الجوع الذي يعيشه أهل #غزة في أيامهم ولياليهم#غزة_تموت_جوعاً pic.twitter.com/ecxKylOtRI— نون بوست (@NoonPost) July 18, 2025
ومما يزيد الكارثة أن دوامة سوء التغذية مستمرة بسبب عدم توافر المقومات التي تعالجها، تروي ذلك، سوزان معروف، خبيرة التغذية بمستشفى جمعية أصدقاء المريض الخيرية في مدينة غزة، فتقول: “في عالم مثالي، أنصح الآباء بتوفير طعام مغذٍّ وغني بالبروتين لأطفالهم. أنصحهم بالحفاظ على بيئة صحية لأطفالهم؛ وأؤكد على أهمية المياه النظيفة، في حالتنا أي نصيحة تُقدمونها تشعرون وكأنكم تُضيفون الملح إلى جروح هؤلاء الآباء”.
ووصف الطبيب راغب ورشغا، الذي يعمل في مستشفى الرنتيسي للأطفال – الذي يستقبل يوميًا حالات حادة تتطلب معالجة داخلية – الوضع المأساوي، قائلًا: “المشكلة أن الأمهات أنفسهن يعانين من سوء التغذية، مما يؤدي إلى نقص الحليب وسوء تغذية لدى الأطفال، أحيانا إلى درجة الوفاة بسبب الالتهابات وضعف المناعة”.
ويؤدي تفشي سوء التغذية وفقر الدم بين الفلسطينيين في غزة إلى تراجع قدرتهم على التبرع بالدم، وهي كارثة أخرى تواجه القطاع الصحي المتهالك أساسًا، تتجلى بتحذيرات وزارة الصحة بغزة المتكررة من نقص حاد وخطير في وحدات الدم داخل المستشفيات.
“جرس إنذار للبشرية”
أمام هول هذه الكارثة، صدرت ردود فعل دولية غاضبة ومطالبات عاجلة بالتحرك، في مقدمتها الأمم المتحدة التي أطلقت عبر وكالاتها وكياناتها المختلفة سلسلة تحذيرات غير مسبوقة.
إذ أعرب الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، عن جزعه إزاء التدهور المتسارع للأوضاع الإنسانية في غزة، قائلًا إن “آخر شرايين الحياة التي تبقي الناس على قيد الحياة تنهار”، ووصفت منظمة اليونيسيف صور الأطفال الذين لا يستطيعون الوقوف من الجوع بأنها “جرس إنذار للبشرية”.
كما أصدرت منظمة الصحة العالمية بيانًا مشتركًا مع شركاء أمميين وصف الوضع في غزة بأنه “إحدى أسوأ أزمات الجوع في العالم”، وطالب بعدم انتظار إعلان رسمي لحلول المجاعة، لإنقاذ الجوعى.
على صعيد المنظمات الحقوقية كانت الإدانة أوضح وأشد صراحة على قول الحقيقة التي يتجنبها المجتمع الدولي، حيث وثقت منظمة العفو الدولية في تقرير لها، أدلة على أن “إسرائيل” تستخدم التجويع كسلاح حرب لإبادة السكان في غزة، وانتقد آلية توزيع المساعدات القاتلة، مشيرًا أن الاحتلال الإسرائيلي يخترع طرق جديدة باستمرار لتدمير حياة الفلسطينيين في غزة.
وعلى المستوى الرسمي، خيَّبت الدول العربية التي طالما عُوِّل عليها لنصرة غزة الآمال مجدَّدًا؛ إذ اقتصرت ردودها على بيانات تنديد، فاكتفى مجلس التعاون الخليجي بإصدار بيان استنكر فيه “الحصار الجائر الذي تفرضه قوات الاحتلال الإسرائيلي على القطاع”، واصفًا إيّاه بأنّه “انتهاك صارخ لأحكام القانون الدولي الإنساني”.
رغم قربها من غزة.. تصم مصر أذنيها عن صرخاتهم، وتشارك في تجويعهم وإبادتهم علنًا، رافضة حتى هذه اللحظة فتح معبر رفح وإدخال المساعدات الإنسانية. pic.twitter.com/GvmSTQAVli
— نون بوست (@NoonPost) July 21, 2025
وفي خطوة هي الأولى من نوعها، طالبت 25 دولة غربية من بينها بريطانيا وفرنسا وأستراليا، في بيان، “إسرائيل” بالرفع الفوري للقيود التي تفرضها على تدفق المساعدات إلى قطاع غزة، واستنكرت التوزيع البطيء للمساعدات وقتل المدنيين بمن فيهم الأطفال.
بالمحصلة، لا شيئ خارج عن المألوف بردود الفعل الدولية على جرائم الاحتلال الإسرائيلي، إدانة واستنكار وشجب دون تحرك فعلي لوقف معاناة الفلسطينيين المستمرة على مرأى العالم منذ سنتين.