حذف الأزهر الشريف بيانًا – دون توضيح الأسباب – لشيخه أحمد الطيب من على كافة منصات التواصل الاجتماعي، كان قد أدان فيه حرب الإبادة التي يمارسها جيش الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة المحاصر وسلاح التجويع الذي يشهره في وجه الأطفال والنساء والعجزة.
أثار حذف البيان بعد دقائق معدودة من نشره غضبًا واسعًا وتساؤلات عدة لدى الشارع المصري والعربي على حد سواء، حول الأسباب التي دفعت نحو تلك الخطوة في وقت يشهد فيه القطاع واحدة من أشرس حروب التجويع في التاريخ الحديث، حيث أكثر من مليوني إنسان، نصفهم من النساء والأطفال، على قوائم الموت البطيء جوعًا فيما يقف العالم متفرجًا، مٌسطرًا أحد أقذر صفحات الخذلان التي عرفتها البشرية.
بيان #الأزهر_الشريف حول المجاعة القاتلة في غزة حمل في سطورة كلمة الحق وبين واجب الوقت وأدى بعض الفرض، ولكن فوجئنا بحذفه، هل يمكننا معرفة سبب الحذف، ومن وراء هذا الحجب؟ وهل انتقلنا إلى مرحلة تكميم الأفواه بعد إغلاق المعابر؟! #غزه_تباد_وتحرق #غزة_تقتل_جوعاً #غزة_تناديكم pic.twitter.com/1zVaUmZZjD
— د. محمد الصغير (@drassagheer) July 22, 2025
ورغم التوضيح الصادر عن المشيخة والذي ربما عزز الشكوك، فإن الإقدام على حذف بيان لا يعدو كونه صرخة افتراضية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه ممن تبقى من سكان غزة، أعاد ملف المقاربات المصرية إزاء الحرب في غزة على طاولة النقاش مرة أخرى، ليصطدم بشكل أو بأخر بالخطاب الرسمي القاهري الخاص بالدعم الكامل للقضية الفلسطينية وجهودها لإنهاء الحرب وإنقاذ الغزيين من مخطط الإبادة الذي يُنفذ بحقهم على مرأى ومسمع من الجميع.
ليس الأول.. فما الجديد الذي تضمنه هذا البيان؟
الخطاب ليس الأول من نوعه، فالأزهر الشريف اعتاد منذ بداية الحرب في أكتوبر/تشرين الأول الماضي على إصدار بيانات إدانة وشجب واستنهاض لهمم الأمة واستنفار لجهودها في مواجهة الإجرام الصهيوني، والتأكيد بين الحين والأخر على دعم الفلسطينيين وحقوقهم وإدانة النازية الصهيونية ومخططاتها، إذ كان بمثابة المتنفس الأبرز للمصريين في مواجهة المقاربات التي قيدت الموقف الرسمي المصري.
الأزهر شدّد خلال بيانه المحذوف على أن “ما يمارسه هذا الاحتلال البغيض من تجويع قاتل ومُتعمَّد لأهل غزة المسالمين، وهم يبحثون عن كسرة من الخبز الفُتات، أو كوب من الماء، ويستهدف بالرصاص الحي مواقع إيواء النازحين، ومراكز توزيع المساعدات الإنسانية والإغاثية لهو جريمة إبادة جماعية مكتملة الأركان”، وهو الخطاب المألوف والمعروف منذ بداية الحرب، ليبقى السؤال: ما المختلف هذه المرة عن البيانات السابقة؟
القراءة المتمعنة لنص البيان تشير إلى تركيز المؤسسة الدينية الأكبر في العالم الإسلامي على عدد من النقاط التي ربما أثارت حفيظة السلطة الحاكمة في مصر:
أولا: أطلقت المشيخة نداء عامًا “لأصحاب الضمائر الحية من أحرار العالم وعقلائه وحكمائه وشرفائه ممَّن لا يزالون يتألمون من وخز الضمير، ويؤمنون بحرمة المسؤولية الإنسانية، وبحقوق المستضعفين والمغلوبين على أمورهم وعلى أبسط حقوقهم في المساواة بغيرهم من بني الإنسان في حياة آمنة وعيش كريم، من أجل تحرك عاجل وفوري لإنقاذ أهل غزة من هذه المجاعة القاتلة، التي يفرضها الاحتلال في قوة ووحشية ولا مبالاة لم يعرف التاريخ لها مثيلًا من قبل، ونظنه لن يعرف لها شبيها في مستقبل الأيام”.. وهو ما قد يٌفهم منه على أنه تحريض على انتفاضة المسلمين – بما فيهم في الداخل المصري- ضد الكيان المحتل.
ثانيًا: أكد الأزهر على أن “من يمد هذا الكيان بالسلاح، أو يشجعه بالقرارات أو الكلمات المنافقة، فهو شريك له في هذه الإبادة، وسوف يحاسبهم الحَكَم العدل، والمنتقم الجبار، يوم لا ينفع مال ولا بنون، وعلى هؤلاء الذين يساندونهم أن يتذكروا جيدا الحكمة الخالدة التي تقول: أُكلنا يوم أُكِل الثور الأبيض”.. في رسالة ربما تستهدف المتخاذلين من المجتمع الدولي والقوى العربية، قد يكون من بينها مصر أو حلفاؤها الخليجيين أو كلاهما، واتهامهم بالتواطؤ في جرائم الإبادة التي يتعرض لها الفلسطينيون.
حذف بيان #الأزهر_الشريف الناري عن تجويع غزة خلال دقائق من نشره، ليس مجرد حذف منشور فقط بل طمس متعمد لكلمة الحق ولصوت الضمير في الدفاع عن فلسطين، ومحاولة لإخراس منارة الإسلام ومنبر الكفاح أهم مرجع ديني. أبدا لن يُسكت صوت غزة وأبداً لن يُسكت أحد صوت الأزهر الشريف #غزة_تموت_جوعا
— هاني سالم _ Hany Salim (@hanysalem372) July 23, 2025
ثالثًا: الأزهر وهو يغالب أحزانه وآلامه “ليستصرخ القوى الفاعلة والمؤثرة أن تبذل أقصى ما تستطيع لصد هذا الكيان الوحشي، وإرغامه على وقف عمليات القتل الممنهجة، وإدخال المساعدات الإنسانية والإغاثية بشكل فوري، وفتح كل الطرق لعلاج المرضى والمصابين الذين تفاقمت حالتهم الصحية؛ نتيجة استهداف الاحتلال للمستشفيات والمرافق الطبية، في انتهاك صارخ لكل الشرائع السماوية والمواثيق الدولية”.. ما قد يفهم منه التحريض من أجل فتح معبر رفح وإدخال المساعدات للقطاع بالقوة وهو ما يتعارض مع السردية المصرية التي تحمل الجانب الإسرائيلي مسؤولية غلق المعبر مما يضع النظام المصري في مأزق.
رابعًا: إعلان الأزهر تبرأه أمام الله “من هذا الصمت العالمي المُريب، ومن تقاعس دولي مُخزٍ لنصرة هذا الشعب الأعزل، ومن أي دعوة لتهجير أهل غزة من أرضهم، ومن كل مَن يقبل بهذه الدعوات أو يتجاوب معها”، محملا “كل داعم لهذا العدوان مسؤولية الدماء التي تُسفك، والأرواح التي تُزهق، والبطون التي تتضور جوعا في غزة الجريحة”.. قد يشير إلى رغبة المؤسسة الدينية في تبرئة ساحتها من أي مسؤولية او دماء مراقة في القطاع، وإلقاء الكرة في ملعب الحكومات والأنظمة، ما يزيد من حرج السلطة الحاكمة في القاهرة.
لما حٌذف سريعًا؟.. تساؤلات مشروعة
حين يٌحذف بيان كان جزءً من سلسلة مواقف الأزهر منذ بداية حرب الإبادة على قطاع غزة، وممثلا لأقوى منصب سني في العالم وهو شيخ الأزهر، فلابد من طرح العديد من التساؤلات التي بحاجة سريعة إلى إجابات مقنعة قبل أن تتخذ التكهنات مناحي أخرى ربما تتجاوز قرار الحذف إلى ما هو أبعد من ذلك.
السؤال الأول: من المؤكد أن من يقف وراء حذف البيان جهة أخرى غير الأزهر، وإلا فليس من المنطقي أن تنشر مؤسسة بحجم الأزهر بيانًا غير مدروسًا ثم تحذفه مرة أخرى بعد نشره بدقائق، مما يثير التساؤل: ما هوية تلك الجهة؟ ولماذا لم تصدر توضيحًا رسميًا بشأن هذا القرار؟، مما يعني أن قرار الحذف كان مقصودًا وليس خطأ فنيًا كما حاول البعض أن يبرر، فالصمت إزاء خطوة كهذه أثير بشأنها كل هذا الجدل يحمل شارة التأكيد والتيقن من أنه متعمدًا.
السؤال الثاني: ما الذي أقلق السلطات في مصر من هذا البيان؟ هل هو حلقة من مسلسل القمع الشامل لكل صوت يغرد خارج السرب أم استهداف للمشيخة ومحاولة تطويعها بعدما اتسعت رقعة شعبيتها بسبب مواقفها الداعمة لغزة والمناوئة للمحتل؟ هل استثار حفيظة السلطة إدانة الصمت الإقليمي والدولي؟ هل غضب النظام من تحميل الحكومات المتخاذلة جزءً من المسؤولية؟ هل ترغب الجهة التي تقف خلف قرار حذف البيان في حماية التواطؤ الدولي كما تحمي العجز الإقليمي بحسب ما تساءل البعض؟
السؤال الثالث: خلال الآونة الأخيرة تصاعد الخطاب الإسرائيلي الذي يستهدف شيخ الأزهر والمشيخة، بسبب دعم غزة وإدانة جرائم الاحتلال، وصل الأمر إلى مخاطبة السيسي والنظام المصري بالتحرك سريعًا لوقف تلك الحملات والمطالبة بتلجيم الطيب بعد اتهامه بدعم حماس وتأجيج العداء العربي والإسلامي لإسرائيل ومؤيديها في الغرب.. فهل هناك علاقة بين تلك المطالب وحذف بيان الأزهر؟ هل استجابت القاهرة للمناشدات الإسرائيلية أم أن الأمر جاء مصادفة ولاعتبارات أخرى؟.. الأمر يحتاج إلى توضيح.
نداء النصرة من الأزهر الشريف لغزة
لم يصمد لدقائق قبل أن يتم حذفه !!— Tamer Almisshal | تامر المسحال (@TamerMisshal) July 22, 2025
سياق مهم يٌزيد الشكوك
لم يكن قرار حذف بيان الأزهر المفاجئ وحده المثير للجدل حول الموقف المصري مما يحدث في غزة، رغم الجهود التي تبذلها الدولة لإفشال مخططات التهجير لكنها لم تكن كافية في ضوء مسؤوليات مصر التاريخية من وجهة نظر الكثيرين، حيث سبقت تلك الخطوة حزمة من المواقف والإجراءات التي زادت من الشكوك التي فشل الخطاب الرسمي المصري في إزالتها أو حتى التخفيف منها، ومن أبرزها:
أولا: ما نشرته صفحة “صحيح مصر” بشأن إلقاء قوات الأمن المصرية، خلال الأسابيع الماضية، القبض على عدد من المتطوعين المصريين العاملين في جمع التبرعات لتمويل تكايا الإطعام في غزة، ما تسبب في توقف عمل تلك التكايا المصرية، وبحسب 3 مصادر تحدثوا للمنصة، أُفرج عن عدد من المحتجزين، بعد توقيع تعهدات بوقف عملهم، ولكن مازال عدد مجهول من المتطوعين رهن الاحتجاز.
وكانت تلك التكايا قد ظهرت نتيجة منع جيش الاحتلال الإسرائيلي دخول المساعدات إلى القطاع وتجويع الشعب الفلسطيني، وبدأت في الانتشار وتزايد عددها مع تراجع حجم مخزون المواد الغذائية، ويتولى القائمون عليها طهي الطعام وتوزيعه على الجائعين في القطاع المحاصر، ويستفيد منها آلاف الفلسطينيين، ومع توقفها فإن عشرات الالاف من أبناء غزة فقدوا مصدر غذائهم الوحيد.
ثانيًا: إعلان الإعلام الرسمي المصري عن منع دخول قافلة “الصمود” المغاربية لدعم غزة للحدود المصرية باتجاه معبر رفح البري لكسر الحصار المفروض على القطاع، التي كان مقررًا لها الدخول في يونيو/حزيران الماضي، بدعوى عدم استصدار تصاريح دخول لها مع تبني خطاب شيطنة مباشر لتوجهات وأهداف القافلة وأنها تستهدف الدولة المصرية.
ورغم أن القافلة لم تدخل الأراض المصرية إذ احتجزتها سلطات شرق ليبيا ومنعتها من التقدم نحو سرت شمالي البلاد ومنها إلى مصر، إلا أن نوايا منعها الاستباقية أثارت جدلًا كبيرًا لدى الشارع المصري الذي تسائل فصيل كبير منه عن سبب عدم السماح لها بالوصول إلى المعبر، مشككين في الرواية الرسمية حول النوايا السلبية للقافلة تجاه الدولة المصرية.
ثالثًا: التضييق على الفعاليات الداعمة لغزة وحبس المشاركين فيها، حيث تفرض السلطات المصرية قيودًا نسبية على إقامة الوقفات والتظاهرات الداعمة للشعب الفلسطيني والمنددة بالاحتلال، خاصة تلك التي ترفع شعارات إدانة للحكومات العربية المتخاذلة، بل وصل الأمر إلى حبس عدد من المشاركين في تلك التظاهرات مثلما حدث في الوقفة التضامنية التي أقيمت في 4 مايو/أيار الماضي، حيث قررت نيابة أمن الدولة حبس 8 مواطنين شاركوا في تلك الوقفة من بينهم محامي.
رابعًا: تنامي التبادل التجاري بين مصر وإسرائيل خلال فترة الحرب رغم دعوات المقاطعة كأحد أوراق الضغط المستخدمة لإثناء الاحتلال عن جرائمه، حيث كشفت بيانات المكتب المركزي للإحصاء الإسرائيلي في أغسطس/آب الماضي، عن تسجيل نمو كبير في حجم التبادل التجاري بين القاهرة وتل أبيب، ووصل إلى 246.6 مليون دولار خلال الأشهر الست الأولى من 2024، بنسبة نمو 53% مقارنة بالفترة نفسها من 2023، بحسب ما أورده “معهد السلام لاتفاقات إبراهام”.
مبررات غير مقنعة
حسب ما ذكرت بعض المصادر الإعلامية فإن شيخ الأزهر تعرض لضغوط شديدة من جهات عليا في الدولة المصرية، من أجل حذف البيان الذي نشره الأزهر عبر صفحاته، بزعم أن البيان يتعارض مع “المسار الذي تسلكه الإدارة المصرية” حالياً، وأوضحت تلك المصادر أن الحذف لم يكن نابعاً من رغبة داخل المؤسسة الدينية، بقدر ما جاء استجابةً لطلب مباشر من جهات سيادية، أبلغت شيخ الأزهر بأن “الدولة تسلك مساراً دبلوماسياً حساساً في الملف الفلسطيني، وأن صدور مثل هذا البيان قد يؤثر سلباً على هذا المسار”.
غير أن هذا المبرر لم يعد مقنعًا للكثيرين من المصريين، إذ كيف لبيان صادر عن مؤسسة الأزهر المستقلة والتي لا تعبر عن صوت الدولة الرسمي أن يتعارض مع المسار السياسي الذي تتبناه القاهرة في التعاطي مع الملف الفلسطيني؟ ثم أنه ليس البيان الأول الذي يحمل إدانة واضحة للمحتل الإسرائيلي فلما هذا التحرك في هذا التوقيت تحديدًا؟
ورغم التصريحات الصادرة عن مؤسسة الرئاسة المصرية ووزارة خارجيتها والإعلام الرسمي بشأن دعم الدولة لحقوق الشعب الفلسطيني والعمل على أجل وقف الحرب في القطاع وإنقاذ الغزيين من حرب الإبادة التي يتعرضوا لها على مدار أكثر من 650 يومًا وإجهاض مخطط التهجير إلا أن ما يمارس عمليًا وعلى أرض الواقع يغرد عكس هذا تمامًا.
حيث يواجه النظام المصري انتقادات حادة وصلت إلى حد اتهامه بالتواطؤ فيما يتعرض له أهل غزة من حرب تجويع، ومشاركة الاحتلال في إحكام الحصار على القطاع عبر غلق معبر رفح، ورغم ادعاء القاهرة بأن الكيان هو المسؤول عن غلق المعبر إلا أن الأخير ألقى الكرة أكثر من مرة في الملعب المصري مؤكدًا أن الغلق إنما هو بإرادة مصرية، وهو ما وضع السيسي وحكومته في مأزق سياسي وشعبي يتفاقم مع تفاقم المعاناة الإنسانية في القطاع.
ختامًا لما سبق.. تكشف خطوة حذف بيان الأزهر، وإن كانت غير مستغربة، حالة التململ الواضحة لدى النظام المصري إزاء كل انتقاد يوجه لحلفاءه، حتى لو كان من قبيل التنفيس عن الاحتقان الذي يغلي في نفوس المصريين جراء الخذلان الفاضح عن نصرة الغزيين في مواجهة حرب الإبادة التي يتعرضوا لها على مرأى ومسمع من الجميع، فنظام لا يحتمل مجرد الإدانة فكيف له أن يتحرر من مقارباته التي أسقطته في فخ الرضوخ والانبطاح ونسف كل المرتكزات الوطنية والعروبية والإسلامية التي بٌنيت على أساسها الهوية المصرية.