أقدمت تركيا من دون سابق إنذار ومن جانب واحد على إلغاء اتفاقية امتدَّ عمرها لـ52 سنة لنقل النفط العراقي عبر أراضيها إلى الأسواق العالمية، في وقت التزم فيه الجانب العراقي الرسمي الصمت (حتى الآن) إزاء هذا التطور الجديد، وقد جاء الإعلان التركي بوقف العمل بالمعاهدة، بما في ذلك جميع البروتوكولات والمذكرات اللاحقة، بدءًا من 27 يوليو/تموز 2026، وهو الموعد الذي كان يُفترض أن يشهد تجديد المعاهدة.
برّرت تركيا قرارها هذا لوكالة “رويترز” على لسان أحد مسؤوليها بالقول إن “أنقرة تريد مرحلة جديدة وحيوية بما يعود بالنفع على الطرفين والمنطقة”، مشيرةً إلى أنها تركت الباب مفتوحًا لعقد معاهدة جديدة مع العراق، ولكن بشروط أفضل لصالحها.
معاهدة 1973: من الشراكة إلى الإلغاء من طرف واحد
وقّعت تركيا والعراق عام 1973 معاهدة لتصدير النفط العراقي عبر ميناء جيهان التركي، وبدأ العمل بها فعليًا عام 1975، وقد طرأت على هذه المعاهدة تعديلات عدة، وإضافة بروتوكولات لتطويرها، وشهدت محطات تاريخية بارزة على مدى العقود الخمسة الماضية، من أبرزها:

1980–1990: توسعة شبكة الأنابيب لزيادة قدرتها الاستيعابية، إلى جانب تحديث وتطوير بعض المحطات والتقنيات.
1990–1991: تأثرت الصادرات النفطية بسبب حرب الخليج الثانية، وتم تعليق التصدير امتثالًا للعقوبات الدولية المفروضة على العراق إثر غزوه للكويت.
2003: بعد سقوط نظام صدام حسين، أُعيد استئناف تصدير النفط تدريجيًا، مع تنفيذ عمليات تأهيل وتحديث للخطوط، حتى عادت إلى مستويات ما قبل الحرب.
2010–الوقت الحاضر: جرى تمديد المعاهدة لمدة 15 عامًا تنتهي رسميًا في يوليو/تموز 2026. لكنها واجهت تحديات أمنية متزايدة بفعل نشاط الجماعات الإرهابية، ما أدى إلى توقفات متكررة في عمليات التصدير.
في عام 2014، بدأت حكومة إقليم كردستان بتصدير نفطها عبر الأنابيب إلى ميناء جيهان دون موافقة الحكومة المركزية، ما أثار أزمة مع بغداد التي اعتبرت ذلك مخالفًا للقوانين العراقية، وقد رفعت الحكومة العراقية دعوى ضد تركيا أمام غرفة التجارة الدولية في باريس، انتهت بالحكم لصالح بغداد وتغريم أنقرة 1.5 مليار دولار (لم تُدفع حتى الآن). على إثر ذلك، أوقفت تركيا تصدير النفط عبر الأنابيب، ما كبّد العراق خسائر تُقدَّر بـ19 مليار دولار حتى فبراير/شباط 2025.
ومؤخرًا، وبعد اتفاق بين بغداد وأربيل على استئناف تصدير نفط الإقليم عبر تركيا، جاء القرار التركي بإلغاء المعاهدة والدعوة إلى اتفاقية جديدة، ما عطّل تلك الجهود، وقد استندت أنقرة إلى المادة (11) من الاتفاقية المعدّلة في 19 سبتمبر/أيلول 2010، والتي تتيح لأي طرف إنهاء المعاهدة الممتدة لـ15 عامًا بعد توجيه بلاغ خطي قبل سنة من موعد انتهائها. ومع ذلك، فإن تركيا تبقى مُلزمة قانونيًا باستمرار نقل النفط العراقي حتى انتهاء مدة المعاهدة في يوليو/تموز 2026.
نفوذ إقليمي يتجاوز الجغرافيا
يبدو أن القرار التركي بإلغاء المعاهدة جاء استجابة للمتغيرات الجيوسياسية الجديدة في المنطقة، فبعد “طوفان الأقصى” الذي اندلع في غزة، وما تبعه من تحولات سريعة، سواء كنتيجة مباشرة أو غير مباشرة لهذا الحدث، بدأت تركيا في اتباع سياسات أكثر جرأة وحسمًا، فقد شهدنا، سقوط النظام السوري واستبداله بآخر مقرب من أنقرة، وانحسار الدور الإيراني في المنطقة بعد القضاء على حزب الله اللبناني عسكريًا، إلى جانب الضربة التي تلقتها إيران من قبل الولايات المتحدة و”إسرائيل”، واحتمالية تجدد هذه الضربات في المستقبل القريب.
جاء لاحقًا قرار حزب العمال الكردستاني بحلّ نفسه والتخلي عن العمل العسكري ضد الدولة التركية، فضلًا عن التقارب المتزايد بين أنقرة وواشنطن في عهد الولاية الثانية للرئيس دونالد ترامب، وما نتج عنه من توافق في عدد كبير من ملفات المنطقة، وكل هذه التغيّرات دفعت تركيا إلى ترسيخ موقعها كلاعب إقليمي مؤثر، والسعي لترجمة هذا النفوذ سياسيًا واقتصاديًا، عبر إعادة تشكيل علاقتها مع العراق بما يضمن لها مكاسب أكبر.
في السياق الاقتصادي، ترى أنقرة أن المعاهدة الحالية مع العراق لا تحقق لها عوائد مالية مجزية، إذ لا تتجاوز حصتها نحو 5 دولارات عن كل برميل نفط يُصدَّر من ميناء جيهان، وترى أن دورها لا ينبغي أن يقتصر على كونها ممر عبور للنفط العراقي، بل شريك فعلي في عمليات التصدير، خاصة وأن لديها شراكات طويلة الأمد مع حكومة إقليم كردستان في مجالات التنقيب والإنتاج، تمتد بعضها لأكثر من خمسة عقود.
تضع تركيا نصب عينيها مشروع “طريق التنمية” أو “الممر الاقتصادي”، الذي يربط موانئ البصرة بالحدود التركية عبر خطوط أنابيب وسكك حديدية
تستند تركيا في موقفها التفاوضي إلى عدة عناصر قوة، أبرزها نفوذها السياسي والعسكري في الإقليم من خلال العلاقة الوثيقة بالحزب الديمقراطي الكردستاني (جناح مسعود البارزاني)، وانتشار قواعدها العسكرية في مناطق خاضعة لسيطرة الحزب، كما تمتلك تأثيرًا ملموسًا على بعض الكتل السياسية السنية في العراق، دون الحاجة إلى وجود عسكري مباشر في مناطقها، وإضافة إلى ذلك، تملك أنقرة ورقة ضغط حيوية تتمثل في تحكمها بمنسوب المياه المتدفقة إلى العراق، ما يضع بغداد في موقع تفاوضي ضعيف نسبيًا.
على ضوء هذه المعطيات، تسعى تركيا للحصول على اتفاقية جديدة تُراعي مصالحها وتمنحها دورًا موسّعًا، وهو ما قد يتحقق في ظل موازين القوة الحالية، وفي نظرتها المستقبلية، تضع تركيا نصب عينيها مشروع “طريق التنمية” أو “الممر الاقتصادي”، الذي يربط موانئ البصرة بالحدود التركية عبر خطوط أنابيب وسكك حديدية، إذ تطمح أنقرة إلى لعب دور محوري في هذا المشروع، يتيح لها نقل وتصدير النفط العراقي، وخصوصًا نفط البصرة، إلى جانب النفط والغاز الخليجي، إلى الأسواق العالمية، على أن تكون شريكًا رئيسيًا لا مجرد ممر عبور.
بناءً على ذلك، قدّمت تركيا مسودة مقترح إلى الجانب العراقي لتجديد وتوسيع اتفاقية الطاقة، لتشمل التعاون في مجالات النفط والغاز والبتروكيماويات والكهرباء. ووفقًا لتصريحات مسؤول حكومي عراقي، فإن بغداد بصدد دراسة المسودة والرد عليها.
خسائر الإقليم وبغداد… من يدفع ثمن الانسحاب التركي؟
حكومة إقليم كردستان وحكومة بغداد ستتضرّران اقتصاديًا بشدّة من الإجراء التركي الأخير، فبالنسبة لحكومة الإقليم، فإن قرار إلغاء معاهدة نقل النفط سيقضي على فرصتها في تصدير نفطها عبر تركيا، باعتبار أن تركيا هي المنفذ الوحيد لتصدير نفط الإقليم، ولا سيما إذا علمنا أن توقف صادرات النفط الكردي سيُكبّد إقليم كردستان خسائر اقتصادية كبيرة، إذ يعتمد الإقليم على واردات النفط بنسبة 80% من موازنته السنوية. ومنذ مارس/آذار 2023، خسر الإقليم أكثر من 2 مليار دولار نتيجة توقف الضخ، ما فاقم من أزماته المالية.
أما بغداد، التي تُعاني الأمرّين في موازناتها المالية وتعتمد على الصادرات النفطية بشكل أساسي، فستدخل في حرج كبير في توفير أموال كافية لرفد موازناتها السنوية، وعلى هذا الأساس، وبحكم عدم وجود بدائل جيدة للمعاهدة المُلغاة، فإن حكومة بغداد وحكومة أربيل ربما ستضطران للموافقة على أي معاهدة جديدة مع الجانب التركي، حتى لو لم تكن بالشروط المثالية.
من جانبها، ترى تركيا أن المعاهدة التي ألغتها لم تَعُد تتناسب مع التطورات الجيوسياسية، بالإضافة إلى التغيرات التي يشهدها السوق العالمي في مجال الطاقة، وبالتالي فإن تركيا تسعى للتوصل إلى اتفاقية مع الجانب العراقي تهدف إلى إرساء آلية تعاون متكاملة، ذات منظور استراتيجي ورؤية مشتركة في مجال الطاقة.

بمعنى أنها تسعى إلى “شراكة”، من خلال اتفاقية تُوسّع نطاق التعاون في نقل النفط الخام من العراق إلى الأسواق العالمية عبر تركيا، والتعاون في مشاريع إنتاج وتصدير النفط والغاز الطبيعي، وتطوير الحقول الهيدروكربونية داخل العراق، إلى جانب الشراكة في استثمارات التكرير والبتروكيماويات، ومشاريع توليد الكهرباء ونقلها.
على هذا الأساس، فإن تركيا تسعى إلى تعزيز نفوذها السياسي داخل العراق كبديل عن النفوذ الإيراني، الذي يطغى على مختلف شؤون العراق الاقتصادية والسياسية وحتى العسكرية.
كما نرى أن التوقيت الذي أعلنت فيه تركيا عن إلغائها لمعاهدة نقل النفط العراقي له دلالة كبيرة، فهو يتوافق مع بنود المعاهدة التي تنص على أن أي طرف يرغب في إلغاء الاتفاقية، يتوجب عليه الإبلاغ عن ذلك قبل سنة من انتهائها. وعمليًا، تنتهي المعاهدة في 27 تموز/يوليو 2026، وبالتالي فإن قرار تركيا بإبلاغ العراق عن نيتها إلغاء المعاهدة يتماشى مع نصوص الاتفاقية.
أما السبب الآخر، فهو أن تركيا تستغل الرغبة الأميركية، ومن خلفها الإسرائيلية، في تغيير سلوك الحكومة العراقية في تعاملها مع الجماعات المسلحة التي تُصنّفها الولايات المتحدة كـ”جماعات إرهابية”، وفي هذا السياق، وجّهت واشنطن تحذيرًا تلو الآخر لحكومة بغداد وللكتل السياسية الداعمة لها من مغبة تشريع وجود هذه الجماعات عبر قوانين يصدرها البرلمان العراقي، الذي تُهيمن عليه كتل سياسية شيعية مقرّبة من إيران.
وبالتالي، فإن طرح تركيا لنفسها كبديل للنفوذ الإيراني في العراق يُعدّ أمرًا مُرضيًا للولايات المتحدة، باعتبار أن تركيا عضو في حلف الناتو، ولديها شراكة استراتيجية مع واشنطن، تستطيع من خلالها الأخيرة ضمان مصالحها في العراق.
من جيهان إلى العقبة وبانياس: أين يذهب نفط العراق بعد الانسحاب التركي؟
إذا ما تغافلنا عن الأداء السيئ للمفاوض العراقي مع الجانب التركي، فإن للعراق أوراق ضغط قوية يمكن استخدامها لتقليل استغلال تركيا لحاجة العراق الاقتصادية، سواء في ما يتعلق بتصدير النفط أو بملف الإطلاقات المائية باتجاه الأراضي العراقية.
إذ يمكن تصدير النفط العراقي عبر موانئ البصرة المُطلة على الخليج، بعد تأهيل تلك الموانئ لاستيعاب كميات أكبر من النفط، لكن تبرز هنا مشكلة أن منفذ الخليج، المتمثل بمضيق هرمز، قد يتعرض للإغلاق لفترات زمنية مجهولة في حال نشوب صراع بين إيران و”إسرائيل” أو الولايات المتحدة، وهو ما سيؤثر بشدة على صادرات العراق النفطية، في وقت لا تتحمل فيه الميزانية العراقية أي نقص في الواردات.
ومن الخيارات الأخرى، نقل النفط العراقي إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط عبر سوريا، من خلال الأنبوب الممتد إلى ميناء بانياس، والذي كان يعمل سابقًا قبل أن يتوقف بقرار سوري إبّان الحرب العراقية–الإيرانية، ومع الحكومة السورية الجديدة، التي تُعدّ بأمسّ الحاجة إلى موارد مالية ونفطية، من الممكن التوصّل إلى اتفاقية تُرضي الطرفين، خاصة إذا ما استطاعت السلطات السورية تأمين خط الأنبوب من التخريب، رغم انتشار الجماعات المسلحة في الساحة السورية.

وبالمثل، يمكن مدّ أنبوب نفطي إلى ميناء العقبة الأردني لإيصال النفط العراقي إلى البحر الأحمر، وقد طُرحت سابقًا خطة طموحة بهذا الاتجاه، لكنها اصطدمت برفض صريح من قبل الفصائل المسلحة الموالية لإيران، التي أعلنت أنها ستُعيق أي مشروع من هذا النوع.
كما يمتلك العراق أنبوبًا نفطيًا آخر يمتد نحو الأراضي السعودية وصولًا إلى شواطئ البحر الأحمر، وقد توقف العمل به بعد غزو الكويت عام 1990. هذا الأنبوب تم إنشاؤه بالكامل على نفقة العراق، ومن الممكن التفاوض مع السعودية لإعادة تشغيله لصالح العراق.
على الصعيد الاقتصادي، يمكن للعراق أن يُمارس ضغطًا من خلال الميزان التجاري المائل بشدة لصالح تركيا، حيث يستورد منها بما يقارب 12 مليار دولار سنويًا، وهذا يمنح العراق ورقة ضغط يمكن توظيفها للحصول على شروط أفضل في أي معاهدة جديدة، عبر التهديد بتقليص حجم الواردات التركية.
أما قانونيًا، فيملك العراق الحق في التوجّه إلى غرفة التجارة الدولية في باريس، باعتبارها الجهة المخوّلة بحل النزاعات بموجب المادة (10) من الاتفاقية الموقّعة بين الجانبين، ووفقًا للخبير القانوني علي التميمي، فإن العراق يمكنه كسب هذا النزاع، لأن قرار تركيا يُلحق ضررًا اقتصاديًا جسيمًا بالعراق، ولأنها خالفت صراحةً المادة (10) التي تنص على أن إلغاء الاتفاقية يتم عبر تسوية مباشرة بين الطرفين، لا من طرف واحد كما فعلت أنقرة.
في نهاية المطاف، يمكن القول إن حكومات ما بعد 2003 ساهمت في تفاقم الأزمات الاقتصادية والسياسية في العراق، وجعلت منه ساحة مفتوحة لصراع النفوذ الإقليمي والدولي، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو العسكري. والسياسة، بطبيعتها، لا تقبل الفراغ.
والنظام السياسي الذي يعجز عن فرض سيطرته على دولته سيترك المساحة مشرعة لتدخلات خارجية، كما هو الحال مع النفوذ التركي اليوم، وما سبق أن شهدناه من أدوار إيرانية وأميركية. وعليه، فإن الطريق لحل الأزمات الاقتصادية وغيرها من مشكلات العراق، يبدأ بإصلاح جذري للنظام السياسي الذي نشأ بعد عام 2003 على أسس لا تمتّ للوطنية بصلة.