طوال عقود، واجه أساتذة الجامعات في سوريا تحديات تتعلق بتهميش دورهم في رسم السياسات العامة، حيث اقتصرت مشاركتهم غالبًا على أدوار تنفيذية أو استشارية غير مؤثرة، بينما شغلت المواقع القيادية شخصيات أمنية وعسكرية واقتصادية ذات صلة مباشرة بالسلطة أيام النظام البائد
وانعكس هذا التهميش على الوضع الاقتصادي والمعنوي لشريحة واسعة من الأساتذة، ما دفع العديد منهم – لا سيما الكفاءات – إلى الهجرة بحثًا عن بيئة أكاديمية أو معيشية أفضل.
ومع اندلاع الثورة السورية عام 2011، توزعت مواقف الأساتذة بين مؤيد للنظام البائد ومعارض ومحايد، وازدادت هذه الانقسامات مع التحولات التي شهدها المشهد السياسي بعد سقوط النظام.
في ضوء ذلك، يُطرح تساؤل حول موقع أساتذة الجامعات من التحولات الجارية، وأسباب غيابهم النسبي عن مراكز التأثير في المرحلة الحالية.
قبل التحرير
بالنظر إلى غياب إحصائيات رسمية حديثة ودقيقة حول عدد أساتذة الجامعات في سوريا، يصعب تحديد الرقم الفعلي في الوقت الراهن. إلا أنه، استنادًا إلى بيانات سابقة وتقارير غير رسمية، كان عددهم قبل عام 2011 يُقدّر بنحو 12,000 إلى 15,000 أستاذ جامعي موزعين بين الجامعات الحكومية والخاصة.
أما خلال الفترة الممتدة حتى عام 2024، فقد شهد هذا العدد انخفاضًا ملحوظًا، وتُشير التقديرات الحالية إلى أن عددهم يتراوح بين 7,000 و10,000 أستاذ، بما في ذلك العاملون في الجامعات الخاصة.
ورغم التحسن النسبي في الوضع الاقتصادي للأستاذ الجامعي بعد صدور قانون تنظيم الجامعات عام 2006، فإن مشاركته الفعلية في صنع القرار بقيت محدودة. وعلى الرغم من ازدياد تمثيل الأكاديميين في مواقع مثل مجلس الوزراء ومجلس الشعب مقارنة بما قبل 2006، إلا أن تركيبة السلطة في النظام البائد والتي كانت القائمة على هيمنة الحزب الواحد، والقبضة الأمنية، والنفوذ الاقتصادي لم تسمح بوصول القرار الحقيقي إلى أصحاب الاختصاص الأكاديمي، حتى وإن ظهر بعضهم في الواجهة الشكلية.
ومع بداية الصراع في سوريا عام 2011، تباينت مواقف الأساتذة من الأحداث بين مؤيّد للنظام البائد، ومؤيّد للثورة، وبين من التزم الحياد والصمت وتابع عمله التدريسي دون أن يتدخل في الشأن السياسي.
وحسب فلك صبيرة، المُدرّسة في قسم الصحافة والنشر – كلية الإعلام بجامعة دمشق: “يمكن من الناحية النظرية القول إن آراء أساتذة الجامعات السورية تفاوتت بعد عام 2011 بين مؤيد ومعارض لنظام الحكم السابق، مع وجود فئة من أساتذة الجامعات لم تُبدِ أي موقف علني أو صريح، سواء بالمعارضة أو التأييد، وهذا ربما يرجع لأسباب شخصية أو أمنية، وعدم الرغبة في أن يُحسب مع طرف ضد طرف آخر، واعتقدت هذه الفئة أن الصمت هو السلوك الأنسب، حفاظًا على مبدأ الحيادية، والوقوف على مسافة واحدة من الصراع الذي كان دائرًا خلال 14 عامًا”.
وترجع صبيرة سبب غياب الأساتذة عن المشهد السياسي خلال السنوات الماضية إلى أن: “الغياب جزء منه قرار شخصي بالابتعاد عن الشأن السياسي، رغم بروز أسماء لأساتذة جامعات كان لها حضورها بالتأييد أو المعارضة. كما أن الجو السائد لم يكن يتيح ممارسة النقاش السياسي الحر والمتعدد تحت مظلة الحرية الأكاديمية. وأن الاستقطاب، بالرأي الواضح أو المخفي، كان يمنع أي حوار ديمقراطي ويهدده بتحويله إلى نقاش غير سياسي. بالإضافة إلى أن وسائل الإعلام المحلية، خصوصًا الرسمية، لم تفتح منابرها للرأي والرأي الآخر. ولا يمكن إغفال مسألة التخصص الأكاديمي، التي تحتاج إلى أن يكون الأستاذ مطّلعًا وقادرًا على المشاركة والإفادة بآرائه”.
بينما يعزو نقيب المعلمين السابق في جامعة حلب ضعف مشاركة الأساتذة الجامعيين في صنع القرار إلى غياب نقابة خاصة بهم باسم “أساتذة الجامعات”، تدافع عنهم وتوصل صوتهم وآراءهم، وأن المعلمين كانوا أكثر عددًا في مجلس النقابة، وكل القرارات في الغالب لصالح العدد الأكبر، وهو من المعلمين. أضف إلى ذلك أن الأستاذ الجامعي، ومنذ الثمانينيات، مُكلّف بالعمل العلمي في الجامعة فقط.
وهذا يتفق مع الرأي القائل بأن سوريا لم تشهد ظهور كيانات أكاديمية منظمة قادرة على تمثيل الأساتذة في المشهد السياسي. لأنه خلال عقود حكم نظام الأسد البائد، تم تهميش النخب الأكاديمية عن التفكير السياسي النقدي، إلى جانب قمع أي نشاط سياسي مستقل، مما أدى إلى افتقاد الأساتذة للخبرة في الممارسة السياسية أو إدارة الحكم. كما أن معظم القيادات السياسية المعارضة كانت في المنفى مما قلّل من فرص الأساتذة للعب دور سياسي بارز.
ويرى طالب الدراسات العليا حسن نصر أن جزءًا من الأساتذة التزموا بموقف النظام البائد، إما بدافع الولاء أو الخوف من العقوبات، مثل الفصل أو الاعتقال. وأصبح كثيرون منهم جزءًا من الخطاب الرسمي المؤيد للحكومة، في حين أن هناك أساتذة وقفوا إلى جانب الثورة، بينما فضّل آخرون الصمت خوفًا من الملاحقة الأمنية.
بعد التحرير
رغم أن غالبية أساتذة الجامعات كانوا بعيدين عن المشاركة المباشرة في المشهدين السياسي والإعلامي في سوريا منذ عام 2011، مفضلين الاستمرار في أدوارهم الأكاديمية دون انخراط ظاهر في الشأن العام، فإن المشهد تغيّر بعد سقوط النظام وتولي أحمد الشرع رئاسة المرحلة الانتقالية.
هذا التحول كشف تباينات واضحة في مواقف هؤلاء الأساتذة وتعاملهم مع الواقع الجديد، وهو ما بدأ ينعكس على المناخ العام داخل الجامعات. ويمكن تصنيف أساتذة الجامعات في هذه المرحلة إلى أربعة أنماط رئيسية:
القسم الأول: الأساتذة المحسوبون على النظام السابق، وهم اليوم إما مُهمّشون بفعل الواقع الجديد أو نتيجة خيار شخصي بالابتعاد. ورغم استمرار وجود بعضهم في المشهد الأكاديمي، فإن علاقتهم بالطلاب تشوبها الفجوة وانعدام الثقة، نظرًا لمواقفهم السابقة الداعمة بشكل واضح لسياسات النظام السابق داخل الجامعات وخارجها.
القسم الثاني: الأساتذة الذين يُعبّرون اليوم عن انتمائهم للثورة، رغم أنهم استمروا في مواقعهم الأكاديمية طوال الفترة الماضية في ظل حكم النظام البائد دون أن يتأثروا مباشرة بتبعات الصراع. حيث يتبنّى بعضهم خطابًا سياسيًا واضحًا داخل الحرم الجامعي ويوزعون الاتهامات ويتّسم خطابهم بالعنصرية والمناطقيّة والطائفية، ما أثار جدلًا بين الطلاب حول دور الأستاذ الجامعي في توجيه الخطاب العام. ويرى بعض الطلبة أن هذا الخطاب قد يتسم أحيانًا بالحدة أو الاصطفاف، مما يؤثر على البيئة التعليمية ويطرح تساؤلات حول التوازن بين الدور الأكاديمي والدور السياسي في الجامعة.
القسم الثالث: الأساتذة القادمون من مناطق خارجة سابقًا عن سيطرة النظام السابق، والتحقوا بالمؤسسات التعليمية بعد التغيير السياسي، ويُعرف عنهم التزامهم الأخلاقي ومؤهلاتهم العلمية المقبولة بحسب تقييم طلابهم وزملائهم. إلا أنهم يواجهون تحديات بيروقراطية وإدارية داخل الجامعات، من ضعف التعاون إلى تعقيدات في الأنظمة الداخلية، ما يعيق اندماجهم الكامل ويؤثر على أدائهم. وتُسجَّل شهادات طلابية إيجابية بحق بعضهم، وخاصة من تولّى مناصب إدارية، لأسلوبهم المتوازن في التعامل والانفتاح على محيطهم الأكاديمي.
القسم الرابع: يشمل أساتذة يحرصون على إبقاء دور الجامعة أكاديميًا بحتًا، ويرون أن العمل السياسي لا ينبغي أن يهيمن على الحرم الجامعي أو يُستَخدم للتأثير على الطلاب. هؤلاء ظلوا بعيدين عن الأدوار الإدارية أو المواقف العامة في عهد النظام السابق، رغم مساهمتهم الأساسية في استمرار العملية التعليمية. واليوم، لا يزال حضورهم محدودًا في مواقع القرار، نتيجة رفضهم الدخول في علاقات نفعية أو سعيهم للمناصب، مع التزامهم بالتركيز على رسالتهم الأكاديمية.
هل من أمل بتصحيح المسار؟
ترى الدكتورة فلك أن هناك مساعٍ حكومية حقيقية لدعم الأستاذ الجامعي، من خلال اللقاءات المستمرة مع الكوادر التدريسية، للنهوض بالواقع الأكاديمي والعملي. وحاليًا، هناك دراسة جديدة لإقرار قانون جديد لتنظيم الجامعات، والذي يأمل الكثيرون أن يُنصف الأستاذ الجامعي وقيمته المعنوية في المجتمع. وفي ذات الوقت، برزت مسألة المحاسبة وتفعيل تطبيق القانون بحق من يثبت إساءته للمهنة.
من جهته، يرى نقيب معلمي جامعة حلب السابق أن فصل الأكاديميين عن الإداريين، وإنشاء نقابة خاصة بالأساتذة باسم “نقابة الأكاديميين”، خطوة مهمة في الاتجاه الصحيح.
وهذا التفاؤل تدعمه تصريحات مسؤولي الحكومة الانتقالية، والذين يؤكدون بأن وضع الأستاذ الجامعي، ومعلمي ومدرسي المرحلة قبل الجامعية، سيكون أفضل في القريب العاجل.
ومقابل هذا التفاؤل، يرى طالب الدراسات العليا حسن نصر أن مستقبل المشهد الأكاديمي لأساتذة الجامعات ما زال ضبابيًا إلى حد ما، وأن دخول كوادر جديدة إلى الحرم الجامعي – والذي كان محدودًا واقتصر على استلام المناصب الإدارية بشكل أساسي – قد يشكل فتيلًا قابلًا للاشتعال، إذا ما قرر هؤلاء الأساتذة الجدد دخول الساحة السياسية، ليتحوّل الحرم الجامعي إلى ساحة لتراشق التهم الوطنية، لمن استمر في العمل ضمن مناطق سيطرة النظام السابق، خاصة أن بعض هذه المشاهد يتم تناقلها في الأوساط الإعلامية بين الحين والآخر.
وكما انقسمت الآراء بين متفائل وحذر، انقسمت أيضًا بين من لا يفضل مشاركة الأساتذة في الحياة السياسية، ويرون أن دورهم الأهم هو في تنشئة جيل قادر على بناء سوريا القوية، وأن مشاركتهم في الحياة السياسية – إذا ما انتقلت إلى أروقة الجامعة ومدرّجاتها – ستؤدي إلى الانقسام بين طلابهم بسبب تأثرهم الكبير بهم، وهذا لا يخدم الواقع السوري الحالي.
وبين من يرى أن الأستاذ الجامعي يمكن أن يشارك في الحياة السياسية، كونها جزءًا من الحياة العامة، التي تتطلب مشاركة الجميع من سلطة ومواطنين وإعلام. ولكن يُفضّل أن تكون هناك معايير، لكي تكون مشاركة فعّالة ومثمرة في المستقبل. وأن الأستاذ الجامعي يمكن أن يُقدّم خبرته ضمن مجال تخصصه، بعيدًا عن الانتماءات الحزبية والإيديولوجية، كما يمكنه التعبير عن رأيه، وممارسة النقد البنّاء في أي مشاركة في اللجان الحكومية أو المنظمات المحلية أو الدولية.
إن مستقبل مشاركة الأساتذة الجامعيين في الحياة السياسية والعامة في سوريا، مرهون – بشكل أو بآخر – بنجاح الحكومة الانتقالية، وقدرتها على خلق بيئة سياسية واقتصادية مستقرة تُشجّع على مشاركتهم، ورغبتها في الاستفادة من خبراتهم واختصاصاتهم في بناء سوريا المستقبل.