تشكل سياسة “التوجّه شرقًا”، التي تنتهجها طهران، انعكاسًا لموقعها الجيوسياسي وسعيها للتموضع ضمن المعسكر الشرقي الذي يضمّ الصين وروسيا ودول آسيا الوسطى، وتمثل تحديًا استراتيجيًا مباشرًا للولايات المتحدة؛ إذ إنها، من جهة، تهدد المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، ومن جهة أخرى، تُسهم في إعادة تشكيل النظام العالمي نحو ثنائية قطبية جديدة تُضعف الهيمنة الأمريكية التي ترسّخت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.
لكن ما هي سياسة “التوجه شرقًا”؟ كيف تشكّلت، وما أبرز محدداتها؟ وكيف قرأت واشنطن هذا التحوّل؟ يحاول هذا المقال الإجابة عن هذه الأسئلة، واستعراض أبعاد هذه المقاربة الإيرانية في سياق صراع النفوذ العالمي.
وذلك ضمن ملف “ذاكرة العداء”، حيث نتتبّع مسار العلاقة المتقلّبة بين طهران وواشنطن، وكيف تحوّل العداء إلى مرجعية ناظمة للسياسات الأمريكية في الشرق الأوسط، تُستخدم لتبرير سباق التسلّح وبناء التحالفات وفرض العقوبات، كما نحاول تقديم قراءة استشرافية لمستقبل هذه العلاقة في ضوء التحوّلات الإقليمية والدولية المتسارعة.
استراتيجيات البقاء
بدأت إيران رحلتها، عقب ثورة الخميني، تحت شعار “لا شرقية ولا غربية”، رغبةً في التفرد بتقرير المصير، وبما يعكس الطموحات القيادية لإيران في المنطقة، بعيدًا عن إملاءات القوى العالمية الكبرى؛ غير أنها سرعان ما أدركت صعوبة السباحة منفردة في نظام عالمي قائم على الاستقطاب وتهميش المنفردين.
تشير سياسة “التوجّه شرقًا” عمومًا إلى استراتيجية في السياسة الخارجية تستند إلى توثيق العلاقات الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية مع دول الشرق، وعلى رأسها الصين وروسيا، بوصفهما تقفان على الضفة المقابلة للولايات المتحدة وأوروبا الغربية، ويهدف هذا التوجّه إلى توسيع آفاق العلاقات والتحالفات الدولية من جهة، وتخفيف وطأة تبعية طهران واعتماديتها على الغرب، وعلى رأسه واشنطن، من جهة أخرى.
بدأت سياسة “التوجّه شرقًا” تتبلور في تسعينيات القرن الماضي، بعد أن خرجت طهران منهكة القوى من حرب الخليج الأولى، وبدأت طلائع حملة جديدة لتشكيل الشرق الأوسط تتزايد، مع اعتمادها على الأذرع والميليشيات لرسم حدود النفوذ
طوّرت طهران هذه السياسة باتجاهين متشابكين؛ فمن ناحية، تُعدّ الشراكات العسكرية والاقتصادية التي تعقدها مع المناوئين التقليديين للولايات المتحدة تحديًا لسلطة الأخيرة ونفوذها في المنطقة، وهو ما يتوافق مع شعار نظام الخميني بمعاداة أمريكا ووجودها في البلاد، وانفصال المرشد عن سياسة الشاه الذي أطاحت به ثورة 1979، والتي قامت واستمدت شرعيتها من الانسلاخ عن موروثه الموالي للغرب.
من ناحية أخرى، دفعت الظروف التي خلقتها واشنطن من عقوبات وسياسات خانقة، طهران إلى البحث عن بدائل ومنافذ للحفاظ على وجودها وقدرتها على الصمود في وجه الحصار الأمريكي المتصاعد، وحتى في ظل أكثر الحكومات الإيرانية تعنتًا، ظلّت يد طهران ممدودة لواشنطن بصورة أو بأخرى؛ إلا أن موقف الأخيرة الرافض لأي تقارب، والمفضِّل لمسار العقوبات، دفع بطهران دفعًا نحو الشرق.
وقد بدأت سياسة “التوجّه شرقًا” تتبلور في تسعينيات القرن الماضي، بعد أن خرجت طهران منهكة القوى من حرب الخليج الأولى، وبدأت طلائع حملة جديدة لتشكيل الشرق الأوسط تتزايد، مع اعتمادها على الأذرع والميليشيات لرسم حدود النفوذ، فطهران الفارسية، ذات الغالبية الشيعية، والرازحة تحت عقوبات أمريكية متجددة، كانت تعاني من عزلة متفاقمة في وسط عربي سنّي تحكمه واشنطن إلى حدّ بعيد.
وبطموح تحويل إيران إلى “يابان إسلامية”، بحثت الجمهورية الخارجة من أتون الحرب مع العراق عن أسواق لنفطها وساحات جديدة للاستثمار والتطوير التكنولوجي، ورأت في دول شرق ووسط آسيا، ودول الاتحاد السوفيتي المستقلة حديثًا، فرصةً تاريخية.
ورغم ذلك، لم يتعدَّ شعار “التوجّه شرقًا” في بداياته كونه تكتيكًا في طور التجريب والصياغة، أكثر من كونه سياسة خارجية وازنة؛ إذ حالت عوامل كثيرة دون فاعليته في بادئ الأمر، أهمها التوجه الأيديولوجي لطهران، والتأثير الكبير لواشنطن على دول آسيا، بالإضافة إلى وجود خصوم شرقيين لإيران، كتركيا والسعودية، اللتين تربطهما علاقات هامة بدول شرق ووسط آسيا، ما حال دون استفراد طهران بالشراكة معها.
إن تعنّت واشنطن ورفضها ليد طهران الممدودة أضعف من يُعرفون بالإصلاحيين والمعتدلين، الذين كانوا يأملون في الانفتاح عليها، وقوّى، على حسابهم، الأطراف المتشددة في عدائها للولايات المتحدة
أما بالنسبة للاتحاد السوفيتي، فقد تبلورت فكرة التعاون معه مبكرًا، رغم الامتعاض من الأيديولوجية الماركسية والتدخلات السوفيتية في أفغانستان؛ فقد ألمح المرشد، منذ تولّيه الحكم عقب الثورة، حين التقى المبعوث السوفيتي إلى طهران في فبراير/شباط 1979، إلى إمكانية التعاون بين البلدين، حيث أشار إلى رغبة طهران في تعميق التفاهم والتعاون السياسي والاقتصادي مع الاتحاد السوفيتي على قاعدة من الاحترام المتبادل، واصفًا إياه وروسيا من بعده بأنهما “أقل الشرّين”.
وقد لعب الاتحاد السوفيتي، إبان حرب الخليج الأولى، دورًا مزدوجًا في تسليح كل من بغداد وطهران؛ إلا أن ما طرحه ميخائيل غورباتشوف، في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، من “إطار فكري جديد” للانفتاح في السياسة الخارجية والتقارب مع المختلفين أيديولوجيًا، منح إيران المحاصَرة وذات الاقتصاد المحتضر فرصةً لتعاون أكبر مع الاتحاد.
تحولات السياسة الإيرانية من نجاد إلى رئيسي
شهدت سياسة التوجه شرقًا أوجها في الفترات الرئاسية لأحمدي نجاد (2005–2013)، وحسن روحاني (2013–2021)، وإبراهيم رئيسي (2021–2024)، ورغم التباينات بين السياسات الخارجية للإدارات الثلاث، إلا أنها تتفق في مجملها على رغبة مشتركة في توسيع وتنويع علاقات إيران الخارجية، لتخفيف أثر العقوبات الأمريكية والغربية والتحايل عليها، وهو ما يعكس هيمنة البعد الاقتصادي على هذه السياسات إلى حدّ بعيد.
جاء نجاد في فترة فشلت فيها حكومات أسلافه، رفسنجاني وخاتمي، في التقارب مع الغرب وتخفيف عقوباته؛ إذ إن تعنّت واشنطن ورفضها ليد طهران الممدودة أضعف من يُعرفون بالإصلاحيين والمعتدلين، الذين كانوا يأملون في الانفتاح عليها، وقوّى، على حسابهم، الأطراف المتشددة في عدائها للولايات المتحدة، مما أسهم في فوز نجاد في الانتخابات آنذاك.
كما خشيت طهران، في ذلك الوقت، أن تلقى مصير العراق، بعد أن وصمها جورج بوش الابن بـ”محور الشر”، وأثار زوبعة دولية حول برنامجها النووي الناشئ، فتوجّه نجاد شرقًا بحثًا عن طوق نجاة؛ فعزّز علاقاته الاقتصادية مع الصين، وشراكاته الدفاعية مع روسيا، وأسس علاقات مع قادة اليسار في أمريكا الجنوبية، فتقارب مع شافيز في فنزويلا، وموراليس في بوليفيا، وقوّى صلاته بالنظام الشيوعي في كوبا.
ورغم الجهود الكبيرة التي دفعت بهذه السياسة نحو أفق أعمق، إلا أن نجاد فشل في بناء تحالف يُعتد به فعليًا مع دول الشرق، إذ ظلّت الأخيرة متوجسة من هوية طهران وطموحاتها التوسعية، ولم يكن الانضمام إلى مؤسسات مثل منظمة التعاون الاقتصادي (ECO) ومنظمة التعاون الإسلامي (OIC) خطوة ناجحة في هذا الاتجاه؛ بل على العكس، فقد أعاقت هذه العضويات سياسة التوجه شرقًا، نظرًا إلى علاقات أعضائها الوثيقة بواشنطن.

أما روحاني، فقد تبنّى سياسة مختلفة، ساعيًا إلى تحقيق توازن دقيق بين الشرق والغرب، وقد آتت هذه السياسة ثمارها بتوقيع الاتفاق النووي مع واشنطن ودول أوروبا، ورفع العقوبات عن طهران بشكل كبير عام 2015، وفي الوقت ذاته، توسيع وتعزيز العلاقات مع بكين وموسكو، فخلال عهده، انضمت إيران إلى مبادرات آسيوية عدة، منها البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية (AIIB)، ومبادرة الحزام والطريق (BRI)، والاتحاد الاقتصادي الأوراسي (EAEU).
لكن فترة الصعود لم تدم طويلًا؛ فمع وصول ترامب إلى الحكم وانسحابه من الاتفاق النووي عام 2018، عادت طهران إلى دوامة العقوبات، وتوجس شركاؤها في الشرق من حدود ما قد يذهب إليه ترامب في عناده وعدائه لحلفاء طهران، خاصة بعد فرض عقوبات ثانوية على كل من يتعاون معها، ما زاد من تعقيد المشهد، وقد دفعت سياسة “الضغط الأقصى” حكومة روحاني إلى مزيد من الانغلاق تجاه الغرب، وهو ما عبّر عنه وزير خارجيته محمد جواد ظريف، صاحب نظرية التعاون الآسيوي، بقوله إن مستقبل السياسة الخارجية الإيرانية يتجه كليًا إلى الشرق.
وفي نهاية ولايته، سعى روحاني إلى تأسيس علاقات قوية مع الهند، إلى جانب العلاقات التقليدية مع الصين وروسيا؛ ففي مايو/أيار 2021، وقّع روحاني ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، ومعهما الرئيس الأفغاني أشرف غني، اتفاقًا يربط الهند بأفغانستان وآسيا الوسطى عبر إيران، وتعهدت الهند حينها باستثمار 500 مليون دولار أمريكي لتطوير الممر الموعود.
أما إبراهيم رئيسي، الذي تولى الحكم عام 2021، فقد مثّل عودة إلى التصلب في مواجهة الغرب، وانحاز كليًا إلى سياسة التوجه شرقًا، لا سيما في ظل رفض إدارة بايدن العودة السريعة إلى الاتفاق النووي، مما أضعف أنصار التقارب مع الغرب في الانتخابات، وأفسح المجال أمام المتشددين من أمثال رئيسي للفوز.
ومجددًا، حاول رئيسي توسيع العلاقات إلى ما وراء آسيا وأوراسيا، باتجاه إفريقيا وأمريكا اللاتينية، وانخرط في شراكات ومفاوضات جدية مع روسيا والهند وإندونيسيا، وسعى لاقتحام الأسواق الإفريقية، إلا أن تركيزه الأكبر بقي على دول الجوار والدول الآسيوية، حيث عمل على تحسين العلاقات مع الرياض ودول الخليج، كما نجح في نقل طهران من صفة العضو المراقب إلى العضوية الكاملة في منظمة شنغهاي للتعاون (SCO)، بعد أكثر من عقد ونصف من المحاولات.
الدب الروسي: صداقة غير مأمونة
رغم أن الشرق المقصود في سياسة “التوجّه شرقًا” يتجاوز الصين وروسيا، ويطمح إلى تشكيل تكتل قوي من دول آسيا الوسطى، بما فيها الهند وبنغلاديش، إلا أن ميزان القوى للدولتين الكبريين، الصين وروسيا، جعل كفة العلاقات تميل باتجاههما في مساعي طهران لمناوئة واشنطن والتحلل من ضغوطها.
تقوم العلاقات الإيرانية–الصينية–الروسية على مصلحة مشتركة في رفض القيادة الأحادية التي تمارسها الولايات المتحدة على النظام العالمي القائم، إذ تُعدّ ردّ فعل جماعيًا على معسكر الضغط الذي تقوده واشنطن ضد بكين وموسكو وطهران، ورغم اختلاف الديناميكيات التي تحكم علاقة طهران بكل من بكين وموسكو، إلا أنها ترى في هاتين الدولتين ركيزة لبناء معسكر أوراسي قادر على مجابهة الهيمنة الأمريكية والحد من سطوتها على النظام الدولي.
بالنسبة لموسكو، فقد ظلّ التعاون بين البلدين، في عمومه، محدودًا ورمزيًا لفترة طويلة، ورغم أن اتفاقية عام 2001 الاستراتيجية مع روسيا الخارجة من صدمة تفكك الاتحاد السوفيتي، والباحثة عن موطئ قدمٍ لها في النظام العالمي الجديد، شكّلت أولى الخطوات الرسمية في سياسة التوجّه شرقًا، إلا أن المنحنى التعاوني ارتفع نوعيًا في عام 2005، مع ترسيخ سلطة الحرس الثوري في بنية النظام الإيراني، وصعود أحمدي نجاد إلى سدة الرئاسة؛ حيث تمكّن من تحويل التوجه شرقًا إلى سياسة راسخة، تتكامل مع حالة العداء القائمة للغرب وسياساته.
مع ذلك، لم تُثمر العلاقات الروسية–الإيرانية، رغم امتدادها الزمني، عن تعاون فعلي كفيل بمدّ يد العون لطهران في أزماتها مع واشنطن، فعلى سبيل المثال، ورغم تعهد موسكو في عام 2007 بتزويد طهران بنظام الدفاع الجوي S-300، إلا أنها عادت وجمّدت الصفقة عام 2010 بضغط من واشنطن والأمم المتحدة، ولم تفرج عنها إلا بعد توقيع الاتفاق النووي في 2016.
كذلك، ورغم مساهمة موسكو في تطوير مفاعل بوشهر بين 2005 و2010، إلا أنها عارضت امتلاك طهران لأي قدرة نووية عسكرية، وحصرت التعاون في المجال المدني فقط، بل إنها شاركت بين عامي 2006 و2010 في مساعي الضغط الدولي على طهران، بما في ذلك التصويت لصالح فرض عقوبات أممية، وهو ما شكّل مصدر خيبة أمل كبيرة لدى الإيرانيين.
اتخذت الشراكة العسكرية بين موسكو وطهران منحى أكثر خطورة بعد اندلاع الحرب الروسية–الأوكرانية عام 2022، وكان عنوانها الأبرز “برنامج الطائرات المسيّرة الإيراني”، حيث أبرمت موسكو عدة صفقات مع الحرس الثوري لشراء طائرات مسيرة قتالية، ما دفع واشنطن لفرض عقوبات جديدة، وقد أسهم موقف طهران الداعم لروسيا في الحرب بزيادة حدة التوتر مع الولايات المتحدة، إذ امتنعت إيران عن إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، وحمّلت المسؤولية لحلف الناتو والولايات المتحدة، بل وشاركت في دعم عمليات الكرملين الخاصة.
وقد أفادت تقارير الكونغرس الأميركي بأن طهران نقلت لموسكو ما لا يقل عن ألف طائرة مسيّرة هجومية، إضافة إلى عشرات الطائرات لأغراض أخرى، كما عقدت شراكة مع موسكو لتصنيع مئات الطائرات المسيّرة في مصنع بجنوب شرق روسيا، مقابل حصولها على طائرات مقاتلة وأنظمة دفاع متطورة.
وفي يناير/كانون الثاني من العام الجاري، وقعت طهران اتفاقية تعاون استراتيجية مع موسكو لتعزيز التعاون في مجالات التكنولوجيا والطاقة الذرية والأمن والدفاع، دون أن تتطرّق صراحة للتعاون العسكري، كما وقّعت، في مايو/أيار من العام نفسه، اتفاقية تجارة حرّة مع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي بقيادة روسيا، تستهدف مضاعفة التبادل التجاري ليصل إلى نحو 12 مليار دولار أميركي.
ورغم هذه الاتفاقيات الطموحة، لم يشهد التعاون الروسي–الإيراني تطورًا اقتصاديًا موازيًا للتعاون العسكري، وبقي محدودًا رغم التصريحات المتكررة بشأن التكاتف في وجه العقوبات الأميركية، بل إن العلاقات الاقتصادية كانت تميل بوضوح لصالح موسكو؛ فقد بلغت صادرات روسيا إلى إيران عام 2018 نحو 3.7 مليار دولار، في حين لم تتجاوز وارداتها من طهران 280 مليونًا، ورفضت موسكو فتح أسواقها أمام المنتجات الزراعية الإيرانية، بحجة ضعف جودتها، ما زاد من شعور طهران بأن العلاقة الاقتصادية استغلالية.
أما في قطاع النفط، فمن المستبعد أن تسعى موسكو لتطوير البنية النفطية الإيرانية، نظرًا إلى كونها منافسًا مباشرًا في أسواق الطاقة، وخصوصًا بعد أن واجهت موسكو صعوبات جمّة في تصريف نفطها بسبب العقوبات الغربية بعد حرب أوكرانيا، ورغم ذلك، وقّعت شركات طاقة روسية، في مقدمتها “غازبروم”، اتفاقيات استثمار في القطاع النفطي الإيراني بقيمة 40 مليار دولار.
كما تعهدت روسيا بتزويد إيران بالغاز الطبيعي بما يُقدّر بـ55 مليار دولار، عبر خط أنابيب يمتد من أذربيجان، وضمن مشاريع البنية التحتية، وعدت موسكو بالمشاركة في تطوير “ممر النقل الشمالي–الجنوبي الدولي” (INSTC)، الذي يربط روسيا بالهند عبر إيران، دون المرور بقناة السويس، وتطوير البنية اللوجستية في موانئ مثل بندر عباس وتشابهار.
ومع ذلك، تبقى هذه الوعود مرتبطة بالتطورات الجيوسياسية والضغوط الدولية، وقد لا تتجاوز حدود الدعم اللوجستي المحدود كما هو الحال حاليًا، ما يجعل العلاقات الروسية–الإيرانية محكومة بالحذر والتكتيك أكثر من كونها تحالفًا استراتيجيًا عميقًا.
الصين والولاء المحدود
دارت العلاقة بين بكين وطهران، في جوهرها، حول الاقتصاد وتجارة النفط؛ إذ سعت بكين إلى توسيع حضورها وتأثيرها المالي في الاقتصاد الإيراني، بصفتها الشريك التجاري الأكبر لطهران، وأكبر مستورد للنفط الخام الإيراني، حيث بلغت وارداتها من النفط الإيراني مستويات عالية خلال السنوات القليلة الماضية، في تحدٍّ مباشر للعقوبات الأمريكية.
ورغم انخراط الصين، إلى جانب واشنطن وموسكو، في فرض عقوبات على طهران بين عامي 2006 و2010، إلا أنها عادت لتُشكّل سوقًا ضخمة للنفط الإيراني منذ عام 2010، وقد سعت شركة النفط الوطنية الصينية للاستثمار في عدد من الحقول الإيرانية، مثل يادآوران وآزادغان الشمالية، قبل أن تنسحب لاحقًا من اتفاقية قُدّرت قيمتها بـ5 مليارات دولار، نتيجة للضغوط الأمريكية والعقوبات الغربية، إلا أن بكين عادت إلى السوق الإيرانية عبر قنوات خلفية ووسطاء دوليين، لتتجاوز العقوبات من خلال تجارة غير رسمية تعتمد أساليب تضليلية وشبكات تهريب.
وقد ازداد استيراد الصين للنفط الإيراني بشكل مطرد خلال السنوات الأربع الماضية؛ فمن نحو 600 ألف برميل يوميًا، بقيمة تقديرية تراوحت بين 12 و15 مليار دولار أمريكي في عام 2021، ارتفعت الواردات لتبلغ ما بين 1.2 و1.4 مليون برميل يوميًا في عام 2024، بقيمة تقدر بين 35 و40 مليار دولار أمريكي.
أما على مستوى الاستثمار، فقد بلغت قيمة الاستثمارات الصينية في إيران نحو 52 مليار دولار أمريكي في عام 2014، لكنها تراجعت بشدة تحت وطأة العقوبات الأمريكية المفروضة على المتعاملين مع طهران، لتصل في عام 2022 إلى حوالي 15 مليار دولار فقط، معظمها في مجال صادرات بكين وواردات النفط الإيراني.
وفي عام 2021، وقّعت الصين مع إيران خطة تعاون شاملة تمتد لـ25 عامًا، بهدف تعزيز التعاون في مجالات الاقتصاد والتكنولوجيا والطاقة، وحتى التعاون العسكري، وقد وعدت هذه الخطة باستثمارات صينية تصل إلى 400 مليار دولار أمريكي، تتركز على قطاعات النفط وشبكات النقل والبنية التحتية والتكنولوجيا والقطاع المصرفي.
على التوازي، عمّقت طهران من شراكتها العسكرية مع بكين، وهي شراكة أدت إلى فرض الولايات المتحدة عقوبات ثانوية على الصين، بسبب دعمها لبرنامجي إيران النووي والصاروخي، ومع ذلك، ظل التعاون العسكري بين الجانبين محدودًا، واقتصر في معظمه على مناورات بحرية مشتركة في المحيط الهندي وبحر العرب، ركزت على مكافحة القرصنة والاستكشاف، أكثر من كونها تحمل أهدافًا عسكرية مباشرة، كما بقيت صفقات السلاح بين الطرفين ضئيلة، بحكم حظر الأمم المتحدة، واقتصر الدعم التقني الصيني في الغالب على تكنولوجيا المراقبة ذات الاستخدامات الأمنية الداخلية.
وعليه، أثبتت الصين، على مدى العقود الثلاثة الماضية، أنها ليست المنقذ الحقيقي لطهران؛ فهي لم تزوّد الأخيرة بمعدات عسكرية معتبرة، ولم تحُل دون فرض العقوبات الدولية عليها، بل كانت شريكًا في بعض منها، كما انسحبت مرارًا من عقود استثمارية في قطاعات الطاقة والأسواق الإيرانية الداخلية، وظلّت مستويات التبادل والاستثمار، حتى بعد توقيع اتفاقية التعاون طويلة الأمد، متواضعة للغاية؛ إذ لم تتجاوز قيمة الاستثمارات الصينية في إيران 185 مليون دولار عام 2021، مقابل 690 مليونًا في أفغانستان، و750 مليونًا في باكستان، ومليار دولار في تركيا.
وعلى صعيد التجارة الثنائية، سجّلت عائدات التبادل التجاري بين بكين وطهران عام 2022 مستويات متدنية، لم تتجاوز 15.8 مليار دولار أمريكي، في الوقت الذي بلغت فيه عائدات التجارة بين الصين والسعودية، على سبيل المقارنة، حوالي 87.3 مليار دولار في عام 2021.
الخيبة المتكررة: حدود الدعم الروسي–الصيني لإيران
لا تجمع طهران بموسكو وبكين تحالفات دائمة قائمة على التضامن الأيديولوجي، بقدر ما تربطها علاقات براغماتية تميل إلى الانتهازية واغتنام الفرص والالتفاف على التحديات الراهنة، وقد أثبتت التطورات الأخيرة، عقب حرب الإثني عشر يومًا بين طهران وتل أبيب، هشاشة هذه الشراكة، إذ أظهرت أن العلاقة مع معسكر الشرق هي شراكة ضحلة ومشروطة، لا يحكمها ولاء ثابت، حيث لم تُبدِ أيٌّ من موسكو أو بكين استعدادًا لتعريض أمنها القومي أو مصالحها للخطر في سبيل دعم طهران، وقد ترتّبت على هذه المعادلة تبعات مكلفة وغير متوازنة لإيران، الطرف الأضعف في هذا التشكيل الثلاثي.
تجسّدت بعض من هذه “الخيانات” الموجعة، بحسب التعبير الإيراني، في مواقف موسكو وبكين داخل أروقة مجلس الأمن، لا سيما خلال الفترة ما بين 2006 و2010، حيث صوتتا لصالح حزم العقوبات الأممية التي خنقت الاقتصاد الإيراني وساهمت في إطالة أمد معاناته. صحيح أنهما عادتا لاحقًا لاستخدام حق النقض (الفيتو) ضد محاولات واشنطن تجديد تلك العقوبات، لكن الضرر كان قد وقع بالفعل، وخلّف أثرًا عميقًا في الذاكرة الإيرانية.
كما تماهت موسكو وبكين، في مراحل متعددة، مع مواقف واشنطن؛ فعقب انسحاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من الاتفاق النووي عام 2018، سارعت الصين إلى تقليص وارداتها من النفط الإيراني، في خطوة فسّرها الإيرانيون كخضوع للابتزاز الأمريكي، أما موسكو، فقد ماطلت في تسليم منظومات الدفاع الجوي S-300 مرتين، متذرعةً بحظر بيع الأسلحة الذي فرضته الأمم المتحدة على طهران، وحتى بعد رفع الحظر في أعقاب توقيع الاتفاق النووي عام 2015، لم تُبادر موسكو بإتمام الصفقة، وظلت تماطل حتى عام 2016، حين كانت منظومة S-400 قد حلت محلها في الأسواق.
ورغم ذلك، أسرعت موسكو في بيع منظومة S-400 لتركيا، متحدّيةً بذلك الرفض الأمريكي، وينسحب الأمر ذاته على صفقة مقاتلات “سوخوي-35″، التي لم تُسلَّم لطهران إلا مؤخرًا، بعد سنوات من الوعود والمماطلات، وبذلك، ظلّت موسكو تدير علاقتها مع طهران وفق مبدأ المنفعة البحتة، لا سيما في ملفات حساسة مثل سوريا، حيث حافظت على توازن دقيق يراعي مصالح “إسرائيل”، ونافست إيران على النفوذ في دمشق.
ولا يمكن إغفال الدور الذي تلعبه مصالح موسكو وبكين مع دول الخليج، وعلى رأسها الإمارات والسعودية، في تحديد سقف دعمهما لطهران؛ إذ لا ترغب أيٌّ من العاصمتين في التضحية بهذه العلاقات الاستراتيجية في سبيل مغامرات إيرانية غير مضمونة العواقب، بل تُعدّ “إسرائيل” بدورها خاصرة رخوة في هذا التحالف الهش؛ فقد فشلت موسكو في إظهار أي دعم حقيقي لطهران في مواجهتها الأخيرة مع تل أبيب، بل وامتنعت عن إدانة الهجمات الإسرائيلية، ما دفع بعض المسؤولين الإيرانيين إلى اتهامها صراحة بالخيانة.
تتجلى علاقات موسكو–تل أبيب في التنسيق العسكري داخل سوريا، حيث أبقت موسكو الأجواء السورية مفتوحة أمام الغارات الإسرائيلية ضد المواقع الإيرانية، وتنافس معها على مشاريع إعادة الإعمار والاستثمار في البنية التحتية السورية. بل سرت شائعات حول اتفاق غير معلن بين موسكو وتل أبيب مفاده أن الأولى لن تزود طهران بأسلحة متقدمة إذا التزمت “إسرائيل” الحياد في ما يتعلق بتسليح أوكرانيا.
أما بكين، فقد حافظت على موقف أكثر خجلًا، يوازن بين الحفاظ على علاقات النفط المخفّض مع طهران، وعدم استفزاز دول الخليج أو واشنطن، وتُفَسّر وساطتها بين الرياض وطهران عام 2023 في هذا السياق، كجزء من استراتيجية احتواء متوازن أكثر منها دعمًا صريحًا لطهران، كما تربطها علاقات متينة مع “إسرائيل”، التي كانت لعقود مصدرًا مهمًا للتكنولوجيا العسكرية بالنسبة لبكين.
ورغم ما يبدو من اصطفاف سياسي في بعض الملفات، فإن موسكو وبكين حافظتا على خطوط تواصل فعالة مع الغرب، فهما لا تسعيان إلى مواجهة مباشرة مع واشنطن، ولا تضعان مصالحهما معها على المحك من أجل إيران، كما أن أي طموح إيراني للتحول إلى قوة نووية مهيمنة في الشرق الأوسط لا يُمثل لهما مكسبًا، بل خطرًا موازنًا لهيمنة واشنطن، وبالنسبة لهما، فإن تقوية إيران لا يجب أن تتجاوز الحدّ الذي يخلّ بتوازن القوى القائم.
لذلك، فإن ما يبدو من تحركات منسّقة بين العواصم الثلاث، مثل لقاء بكين في مارس/ آذار الماضي، أو بياناتها المشتركة المطالِبة برفع العقوبات الأمريكية “الجائرة”، أو الاصطفاف العلني في وكالة الطاقة الذرية، لا يتجاوز رمزية التحالف الظرفي، ولا يعكس تحالفًا عضويًا مستقرًا.
في الواقع، فإن ما يُعرف بـ”البطاقة الإيرانية” قد خدم المصالح القومية لبكين وموسكو أكثر مما خدم طهران، حيث استُخدم كأداة للضغط على واشنطن، خاصة في ملفات مثل أوكرانيا بالنسبة لروسيا، وتايوان بالنسبة للصين، وقد وظفت موسكو هذه الورقة مرارًا، كما في قرار مجلس الأمن رقم 1929 لعام 2010، حين وافقت على تمرير العقوبات مقابل عودة واشنطن للتفاوض النووي معها بعد تجميده على إثر غزو جورجيا.
هل يقلق التوجه شرقًا واشنطن؟
عادةً ما يُشار إلى تقارب إيران مع روسيا والصين كأحد الدوافع الرئيسة وراء العداء الأمريكي لطهران؛ فإلى جانب رعايتها لما يُعرف بـ”محور المقاومة”، المصنّف أمريكيًا ضمن المنظمات الإرهابية، وسجلّها الحقوقي المتردي الذي تستخدمه واشنطن ذريعةً لتبرير العقوبات، يشكّل موقع طهران ضمن معسكر الشرق عامل إرباك للاستقرار الإقليمي ولمصالح الولايات المتحدة وحلفائها وشركائها في الشرق الأوسط، وقد رأت واشنطن في سياسة “التوجه شرقًا” ليس مجرد خيار جيوسياسي، بل أيديولوجية تحدٍّ تستهدف تقويض النظام العالمي الذي تتزعمه.
ورغم رمزية بعض التحالفات الاقتصادية التي تقودها طهران، وضآلة أثرها المباشر بالنسبة لصنّاع القرار في واشنطن – مثل انضمامها إلى مجموعة “بريكس” للاقتصادات الناشئة عام 2024، والتي تضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا – إلا أن مصدر القلق الحقيقي بالنسبة للولايات المتحدة هو انتقال سياسة التحدي من العمل السري إلى المجال العلني، بما يعنيه ذلك من شرعنة لخطاب مقاومة النفوذ الأمريكي في النظام الدولي.
وقد مثّل تلويح كل من موسكو وبكين بـ”البطاقة الإيرانية” في وجه واشنطن هاجسًا للبيت الأبيض؛ إذ تخشى الأخيرة أن يؤدي تدهور العلاقات مع روسيا أو الصين إلى دفعهما نحو تشكيل تكتل أوراسي صلب يضم إيران كطرف فاعل، قادر على تهديد المصالح الأمريكية وتقويض الهيمنة الأحادية، حتى وإن كان الرابط الوحيد بين أطراف هذا التكتل هو العداء المشترك لواشنطن، ومما زاد من هذه المخاوف، أن كلًّا من طهران وموسكو أثبتتا، عبر أذرعهما العسكرية، القدرة على زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط وخَلط الأوراق الأمنية والسياسية فيه.
ولذلك، لم تقف واشنطن مكتوفة الأيدي أمام هذا التقارب الثلاثي، رغم طابعه الرمزي في كثير من الأحيان؛ فقد عمدت إلى محاصرة هذا المعسكر عبر بناء توافق دولي داخل أروقة الأمم المتحدة، وهندسة سلسلة عقوبات أممية على إيران بين عامي 2006 و2015، استهدفت قطاعات حساسة كالبنية التحتية للطاقة والاستثمار والنظام المالي، فضلًا عن البرامج التسليحية والعسكرية، وقد نجحت هذه العقوبات إلى حد بعيد في عرقلة طموحات طهران وكبح جماح التعاون بينها وبين شركائها الشرقيين، إلى أن تم توقيع الاتفاق النووي عام 2015، الذي خفّف من حدتها لفترة قصيرة قبل انسحاب ترامب منه لاحقًا.
لكن عودة العقوبات في ظل إدارة ترامب، واتباع سياسة “الضغط الأقصى”، عادت لتبطئ مجددًا وتيرة التعاون بين طهران وبكين وموسكو، خاصة مع فرض واشنطن عقوبات ثانوية على أي طرف دولي يساعد إيران على تجاوز العقوبات الأمريكية، وشملت هذه العقوبات مؤخرًا 20 شركة دولية اتُهمت بتسهيل تجارة النفط بين الصين وإيران، كما استهدفت روسيا بسبب تزويد طهران بتكنولوجيا عسكرية متقدمة.
في الوقت ذاته، عزّزت واشنطن من تحالفاتها الإقليمية، لا سيما مع دول الخليج، في محاولة لتطويق النفوذ الشرقي في المنطقة، وقد ساهمت هذه التحالفات في محاصرة القنوات التي تعتمد عليها طهران في تمويل أنشطتها عبر شراكاتها مع بكين وموسكو، وذلك من خلال مراقبة التحويلات المالية، وتقييد التجارة البحرية، وفرض قيود مصرفية دولية تمنع تسرب الدعم غير المباشر لإيران.