يُخبرنا المؤرخ الأمريكي ألفرد كروسبي أن الأسلحة والتكنولوجيا واستراتيجيات القتال التقليدية ليست وحدها من تحسم المعارك والحروب؛ إذ هناك عوامل أخرى لا تقل أهمية، وربما يفوق تأثيرها على المدى البعيد وقع الرصاصة أو القنبلة أو الصاروخ.
وبحسب كروسبي، الذي شغل مناصب أكاديمية مرموقة كأستاذ للتاريخ والجغرافيا والدراسات الأمريكية في جامعة تكساس في أوستن وجامعة هارفارد وجامعة هلسنكي، فإن نشر الأوبئة وتدمير البنى الصحية وتهيئة الأجواء لتفشي الأمراض، قد يلعب دور البطولة في مسرح الحروب. ويستشهد بما حدث خلال الغزو الإسباني لبلدان أمريكا اللاتينية، حيث كان انتشار الجدري بين السكان الأصليين، وتفكيك البنية العلاجية والطبية، عاملاً حاسمًا في إخضاعهم للاستعمار الإسباني.
فبالإضافة إلى ما ألحقته الأوبئة من دمار بالبنية الاقتصادية والاجتماعية، وزيادة في معدلات الوفيات، فقد أضعفت إلى حد بعيد قدرة السكان الأصليين على المقاومة، لا سيما بعد الوفاة المفاجئة لزعيمهم، هواينا كوباك، ما شكّل ضربة قاصمة للحالة المعنوية، وساهم في تسريع انهيارهم أمام المحتل.
ومنذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، بدا أن قوات الاحتلال قد وضعت المنظومة الصحية ضمن بنك أهدافها الاستراتيجية، وربما في صدارة هذا البنك، وهو ما ظهر جليًّا منذ اليوم الأول، حيث كانت المستشفيات والمراكز الصحية والطواقم الطبية والمسعفون والمرضى ومرافقيهم والنازحون الذين احتموا بهذه المنشآت، في مقدمة أهداف القصف والاستهداف المباشر.
ورغم أن القانون الدولي يمنح حماية خاصة للمنشآت الصحية والطواقم الطبية خلال النزاعات، وفقًا لاتفاقية جنيف الرابعة، والبروتوكولين الإضافيين الأول والثاني لعام 1977، واتفاقية لاهاي لعام 1954، إلا أن إصرار “إسرائيل” على اعتبار المنظومة الصحية بأكملها هدفًا مشروعًا، واستمرارها في هذا المسار على مرأى ومسمع من العالم، متجاهلة الانتقادات الحقوقية الدولية، يفتح الباب واسعًا أمام تساؤلات جدية حول العقيدة القتالية الإسرائيلية، والأهداف الاستراتيجية التي تسعى لتحقيقها من وراء هذه العربدة العسكرية.
نسف المنظومة الصحية بأكملها
لم يكن تدمير قوات الاحتلال للمستشفيات والمراكز التي تقدّم خدمات طبية وعلاجية في قطاع غزة أمرًا عشوائيًا أو اعتباطيًا، بل هو تنفيذ دقيق لاستراتيجية واضحة المعالم، مدروسة بعناية ومنسّقة بين مختلف المؤسسات السياسية والعسكرية والأمنية، تستهدف نسف المنظومة الصحية من جذورها، وتفكيك القطاع طبيًا وعلاجيًا ودوائيًا.
شمال القطاع
يمكن القول إن آلة الحرب الإسرائيلية سوّت شمال القطاع صحيًا بالأرض. معظم المستشفيات والمراكز هناك خرجت عن الخدمة بشكل شبه كامل، والبداية كانت بمستشفى “كمال عدوان” في بيت لاهيا، الذي تعرّض لعدة استهدافات، كان أعنفها في ديسمبر/كانون الأول 2024، حين اقتحمه جيش الاحتلال بعد حصار استمر لساعات، أعقبه حرق لمرافقه وإجبار الطواقم الطبية والمرضى على خلع ملابسهم في البرد القارس، ثم اقتيادهم إلى جهة مجهولة، وكان في المستشفى حينها نحو 350 شخصًا، بينهم 75 مصابًا و180 من الطواقم الطبية والعاملين.
وفي المدينة نفسها، وفي التوقيت ذاته، استُهدف “المستشفى الإندونيسي”، حيث دُمّر جهاز التصوير الطبقي ومحطتا الأكسجين والكهرباء، وأُجبر المرضى والجرحى والنازحون على الإخلاء قسرًا قبيل اقتحامه، ليخرج المستشفى عن الخدمة بالكامل في يناير/كانون الثاني 2025.
وفي بداية العام الجاري، حاصرت قوات الاحتلال مستشفى “العودة” في منطقة تل الزعتر بمخيم جباليا، ومنعت وصول الأدوية والوقود إليه، بعد أن أحرقت المنازل المحيطة به. وقبل ذلك، أنذرت الطواقم الطبية بإخلائه تحت تهديد القصف، وهو ما نُفذ بالفعل.
مدينة غزة ووسط القطاع
في المدينة، تعرّض “مجمع الشفاء الطبي” للاستهداف المتكرر، كان أبرزها الحصار الذي فُرض عليه في مارس/آذار 2024، واستمر أسبوعين. وبعد انسحاب الاحتلال، خَلّف المجمع وراءه مئات الشهداء ودمارًا واسعًا، إذ أُحرقت أقسامه بالكامل ودُمّرت معداته، وأفادت مصادر فلسطينية بانتشال أكثر من 300 جثة من داخل المستشفى، ظهرت على بعضها علامات التحلّل.
وفي حي الزيتون، تعرّض “المستشفى المعمداني” في 17 أكتوبر/تشرين الأول 2023 لقصف دموي أودى بحياة نحو 500 شخص من المرضى والجرحى والمدنيين الذين احتموا بالمستشفى، ثم استُهدف مجددًا بعد 18 شهرًا، ما أدى إلى تعطيله بالكامل واضطرار المرضى إلى افتراش الشوارع.
أما “مستشفى الرنتيسي” للأطفال، المتخصص في غسيل الكلى للأطفال دون 14 عامًا، فقد خرج عن الخدمة بعد تدمير قسم الغسيل الكلوي بالكامل، ما أدى إلى وفاة عدد من الأطفال الذين كانوا يتلقّون العلاج.
كذلك، استهدفت طائرات الاحتلال “مستشفى الصداقة التركي”، المخصّص لعلاج مرضى السرطان، بسلسلة غارات في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، ألحقت به أضرارًا جسيمة وأوقفت خدماته، وكان حينها يقدّم العلاج لنحو 80 مريضًا.
جنوب القطاع
في خان يونس، تعرّض “مجمع ناصر الطبي” للقصف المتكرر، كان آخرها في 23 مارس/آذار 2025. اقتحمته قوات الاحتلال بعد حصار، ودمّرت محتوياته بالكامل، بما في ذلك شبكات المياه والكهرباء والصرف الصحي ومحطة الأكسجين، ما جعله غير صالح للاستخدام نهائيًا.
وفي المدينة ذاتها، اقتحم جيش الاحتلال مستشفى “الأمل” التابع لجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني في مارس/آذار 2024، وأجبر الطواقم الطبية على الإخلاء، وأغلق مداخله بسواتر ترابية، وبعد إعادة تشغيل جزئي في أقسام الطوارئ والولادة، تم استهدافه مجددًا لاحقًا.
أما “مستشفى الكويت التخصصي” في مدينة رفح، فقد خرج عن الخدمة في مايو/أيار 2024 بعد استهداف متكرر، ما اضطر إلى نقل طواقمه إلى المستشفى الميداني في منطقة المواصي، التي لم تسلم بدورها من القصف.
استهداف الأطقم الطبية
لم يقتصر استهداف الاحتلال للمنظومة الصحية في قطاع غزة على تدمير المستشفيات والبنية التحتية فحسب، بل تم اعتبار كل ما يتصل بهذه المنظومة هدفًا مشروعًا للهجوم، فقد دُمّرت 180 مركبة إسعاف، واستُشهد أكثر من 1600 من الكوادر الطبية، من أطباء وممرضين وفنيين ومسعفين، فيما أُصيب نحو 1400 آخرين، بينهم حالات حرجة. أما عدد المعتقلين من العاملين في القطاع الصحي، فقد بلغ نحو 362، إضافة إلى آلاف آخرين أُجبروا على التوقف عن العمل قسرًا.
وقد كشف الفيلم الوثائقي “أطباء تحت الهجوم”، الذي عرضته القناة الرابعة البريطانية، عن بعض جوانب المأساة التي تعيشها الطواقم الطبية في غزة، وذلك بعد أن امتنعت هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) عن بثه، رغم أنها هي الجهة التي طلبت إنتاجه في الأساس، بحجة الخوف من اتهامات “التحيّز”.
الطبيب همام اللوح، استشهد هو ووالده في قصف إسرائيلي على محيط مجمع الشفاء..
في أحد مقابلاته سُئل عن امتناعه عن النزوح للجنوب، فأجاب: “إن ذهبت فمن سيعالج مرضاي؟ هل تعتقدين أنني درست لمدة 14 عاماً كي أفكر فقط في حياتي؟”.#غزة_تنزف #مستشفى_الشفاء pic.twitter.com/qCXAFtyaFM
— نون بوست (@NoonPost) November 13, 2023
الفيلم، الذي لا تتجاوز مدته 30 دقيقة، يُعد تحقيقًا استقصائيًا موثّقًا عن الاستهداف الممنهج لأفراد المنظومة الصحية في غزة، والتي تضم 36 مستشفى، وقد استند إلى شهادات عدد من الأطباء الفلسطينيين الذين تعرّضوا لانتهاكات جسيمة، سواء في مواقع عملهم أو خارجها.
من بين هذه الشهادات ما رواه الدكتور خالد حمودة، الذي تحدّث عن قصف منزله ومقتل عشرة من أفراد عائلته، ثم استهداف المنزل الذي لجأ إليه من نجا من القصف الأول، بالإضافة إلى اعتقاله مع 70 طبيبًا آخر، وتعرّضه للضرب أثناء الاحتجاز.
كما عرض الفيلم شهادة مؤلمة للدكتور عدنان البرش، الذي اعتُقل، وجُرّد من ملابسه، وتعرّض للتعذيب قبل الإعلان عن وفاته داخل السجن، كذلك تضمّن مشاهد ولقطات لما قيل إنها “هجمات متعمدة واعتقالات في مواقع سرّية”، وشهادات عن سوء معاملة وتعذيب، بما في ذلك لقطات مروّعة لجرائم اغتصاب جماعي نُسبت لجنود إسرائيليين.
لماذا؟
تدمير الملاذ الأخير للغزيين
في أوقات الحرب، تكون المستشفيات ومراكز الإيواء التي تقدّم خدمات صحية وإغاثية هي الملاذ الأخير أمام المدنيين، لا سيما الأطفال والنساء، فهي الأماكن التي يُفترض أن تكون محصنة وبعيدة عن أي استهداف عسكري، استنادًا إلى الاتفاقيات الدولية والمواثيق الحقوقية التي منحتها مكانة شبه مقدسة، باعتبارها الضمانة الوحيدة لحماية المدنيين أثناء المعارك والنزاعات.
وعندما يلجأ المدني إلى المستشفيات أو مراكز الإيواء التابعة للمنظمات الأممية، فإنه يفعل ذلك بقناعة راسخة بأنه في مأمن نسبي، ولا يتخذ الاحتياطات التي يتخذها من هم خارج تلك الجدران، ولذك فإن استهداف هذه الأماكن تكون آثاره مضاعفة وكارثية مقارنة بأي أهداف أخرى؛ فهي غالبًا ما تكون مكتظة بالنازحين، ما يؤدي إلى ارتفاع كبير في أعداد الضحايا.
يده ترتجف والجوع أنهك قواه.. صحفي فلسطيني يروي كيف اضطر مرافق أحد المرضى في قطاع #غزة لشراء قطعة حلوى محلية لأحد الأطباء، بعد أن أنهكه الجوع واستنزفت قواه#غزة_تموت_جوعًا pic.twitter.com/XHomS6kJzq
— نون بوست (@NoonPost) July 24, 2025
وباستهداف المستشفيات والمراكز الطبية على النحو المنهجي الذي تمارسه قوات الاحتلال الإسرائيلي، فإنها بذلك تدمر سبل النجاة والملاذات الأخيرة المتاحة للسكان، بحسب وصف المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، الذي شدّد على أن استمرار استهداف المنشآت الصحية والبنية التحتية الطبية في قطاع غزة يُشكّل “جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية”.
ووصف المرصد ذلك بأنه “مرحلة خطيرة في استراتيجية مُمنهجة للقضاء على أماكن الملاذ الأخير التي يلجأ إليها المدنيون الفلسطينيون، بمن فيهم المرضى والجرحى الذين يُفترض أن يتمتعوا بالحماية في جميع الظروف، إلى جانب الطواقم الطبية التي تواصل عملها في ظروف كارثية، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الأرواح”.
دعم مخطط التهجير
استخدم الاحتلال عدة استراتيجيات لتنفيذ هذا المخطط، بدأها بالقصف العنيف وتدمير البنية التحتية، ثم بالحصار المطبق والتجويع الممنهج، إلا أن صمود الفلسطينيين كان دائمًا حائط الصد الأكبر في مواجهة هذا المخطط، حيث تفاجأ الاحتلال مرارًا بعودة السكان إلى مناطقهم بعد انسحابه منها، ما أعاد الكرة إلى نقطة الصفر في كل مرة.
هذا ما دفعه إلى تبنّي استراتيجية “التجريف الكامل”، والتي شملت نسف المنظومة الصحية ومراكز الإيواء، التي كانت تمثل الخيار الأخير والملاذ الوحيد المتبقي للمدنيين في غزة، وقد وثّق الفيلم التسجيلي “حرب المستشفيات.. عقيدة تهجير” هذه الاستراتيجية، مشيرًا إلى أن استهداف المستشفيات يرتبط بعقيدة التهجير التي ينتهجها الاحتلال، وهي العقيدة نفسها التي مورست ضد الفلسطينيين عام 1948.
هل بقي بند في القانون الدولي لم ينتهكه الاحتلال؟.. د. حسام أبو صفية، يقبع في سجون الاحتلال بلا تهم واضحة، ودون مصير معروف. pic.twitter.com/uCSo9Snk4A
— نون بوست (@NoonPost) July 5, 2025
الفيلم، الذي استند إلى تحليل بياني ورصد رقمي وتتبع صور الأقمار الصناعية، كشف أن الهدف الإسرائيلي من إفراغ المستشفيات من النازحين، الذين فرّوا إليها من القصف، يتمثل في فرض التهجير القسري. وربط المؤرخ والمحاضر في قسم دراسات التاريخ بالكلية الأكاديمية في بيت بيرل، جوني منصور، بين ما يجري اليوم في غزة وما اقترفته العصابات الصهيونية خلال النكبة، مشيرًا إلى أن مجازر عديدة ارتُكبت بحق الفلسطينيين عام 1948، واستهدفت مستشفيات ومستوصفات وعيادات طبية، كما أُلقيت منشورات من الطائرات كما يحدث اليوم تدعو الفلسطينيين إلى مغادرة بيوتهم وقراهم.
وتتفق المحامية إليز بيكر، من مشروع التقاضي الاستراتيجي في المجلس الأطلسي، مع ما ذهب إليه منصور، مؤكدة أن استهداف المراكز والمنشآت الطبية والعاملين في القطاع الصحي، إلى جانب المطالب المتكررة بإخلاء المرافق الصحية، كلها مؤشرات واضحة على وجود استراتيجية إسرائيلية ممنهجة للتهجير القسري.
الهروب من العدالة بطمس الأدلة
في علم الإجرام، غالبًا ما يلجأ المجرم إلى طمس ملامح جريمته، إما بتغيير معالم مسرحها، أو بالتخلص من شهود العيان، الذين يمثلون سيفًا مسلطًا على رقبته في أي لحظة، مهما بلغت الضمانات الظرفية، وهذا بالضبط ما تحاول “إسرائيل” فعله من خلال استهداف الأطباء وبقية الطواقم الطبية، فهم شهود عيان ثقات على الجرائم المرتكبة بحق المنظومة الصحية في قطاع غزة.
وغالبًا ما يحظى الأطباء والعاملون في القطاع الصحي بمصداقية عالية لدى الجهات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، فهم في آنٍ واحد ضحايا وشهود عيان، والطبيعة الإنسانية لمهنتهم، خصوصًا خلال فترات الحرب، تمنحهم مكانة خاصة في منظومة الشهادات الدولية، كما أن المواثيق والقوانين الدولية قد أقرّت صراحةً حمايتهم، ودعت إلى تحييدهم عن أي أعمال عدائية.
ومن هنا، يسعى الاحتلال الإسرائيلي إلى الإفلات من جرائمه بحق المنظومة الصحية، عبر استهداف عناصرها البشرية من أطباء ومسعفين وممرضين، عبر القتل أو الاعتقال أو التهديد، ظنًا منه أن ذلك سيقيه مستقبلاً من أي ملاحقة قانونية أمام المحاكم الدولية، وهو الهاجس الذي يؤرق قادة الجيش الإسرائيلي في الآونة الأخيرة، خصوصًا مع تصاعد الدعوات لتوقيف المسؤولين عن جرائم الحرب المرتكبة في غزة.