لم تكن العلاقات التركية–الإسرائيلية يومًا مستقرةً أو سهلة التوصيف، إذ لطالما اتَّسمت بطابع متقلب، تتناوب فيه موجات التوتر والقطيعة مع فترات تقارب محسوبة، ففي الوقت الذي تربط البلدين مصالح استراتيجية وتجارية وأمنية ممتدة منذ السنوات الأولى لقيام “إسرائيل”، إلا أن هذه العلاقة كثيرًا ما انجرفت إلى منعطفات حادة، وصلت في بعض الأحيان إلى حد سحب السفراء وتبادل التصريحات النارية، كما حدث مؤخرًا في أعقاب الضربات الإسرائيلية المتكررة على الأراضي السورية.
تتشابك هذه العلاقة ضمن سياقات معقدة، تتداخل فيها اعتبارات الهوية والانتماء الديني، والحسابات الإقليمية، والمشاريع الاقتصادية الكبرى، فضلًا عن موقع كل من أنقرة و”تل أبيب” في منظومة التحالفات الدولية، لا سيما في علاقتهما الاستراتيجية مع واشنطن.
وعلى الرغم من التوتر الظاهري، فإن طرفَي العلاقة غالبًا ما يضبطان الإيقاع وفق معادلة دقيقة، توازِن بين الاحتواء والاشتباك السياسي، بما يمنع الانفجار الكامل ويحافظ على الحد الأدنى من التنسيق في الملفات الحساسة.
تاريخ من التوتر بين أنقرة و”تل أبيب”
منذ مطلع الألفية، دخلت العلاقات التركية–الإسرائيلية في دوامة من التوترات المتعاقبة، تراوحت بين الاشتباك الدبلوماسي العلني وتراجع مستوى التنسيق، دون أن تصل بالضرورة إلى القطيعة الكاملة، وقد لعبت السياسة الإسرائيلية، خاصةً في عهد رئيس الوزراء السابق، أرييل شارون، دورًا حاسمًا في تغذية هذه التوترات، بعد أن أطاحت بآمال التقارب التي ظهرت في أعقاب انطلاق “عملية السلام في الشرق الأوسط”.
وكانت زيارة شارون الاستفزازية إلى المسجد الأقصى في سبتمبر/أيلول 2000 بمثابة الشرارة التي أشعلت الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وأحدثت ارتداداتٍ حادةً في العلاقة مع أنقرة، التي رأت في السياسات القمعية الإسرائيلية تهديدًا مباشرًا للاستقرار الإقليمي.
وعلى الرغم من محاولات حثيثة لإعادة ضبط المسار، تمثَّلت بزيارات رسمية لكل من عبد الله غل ورجب طيب أردوغان للأراضي الفلسطينية المحتلة عام 2005، فإن سلسلة من الأحداث المتتالية أعادت العلاقات إلى حالة من التدهور السريع، بدءًا من العدوان على لبنان عام 2006، ثم على قطاع غزة في 2008، وصولًا إلى مشهد المواجهة الشهيرة في منتدى دافوس عام 2009، عندما انسحب أردوغان غاضبًا من الجلسة بعد مشادة حادة مع شمعون بيريز، في لحظة رمزية رفعت أسهم تركيا لدى الرأي العام العربي.
لاحقًا، تصاعدت التوترات إثر خلافات مرتبطة بالمحتوى الإعلامي، بعد احتجاجات “إسرائيل” على مسلسلات تركية، وبلغ الغضب ذروته في يناير/كانون الثاني 2010 عندما استدعت الخارجية الإسرائيلية السفير التركي بطريقة مهينة، أثارت ردود فعل غاضبة في أنقرة.

إلا أن التحول الأهم جاء في 31 مايو/أيار 2010، عندما شنَّت القوات الإسرائيلية هجومًا على سفينة “مافي مرمرة“، التي كانت تبحر ضمن “أسطول الحرية” لكسر الحصار عن غزة، ما أدى إلى استشهاد 9 نشطاء أتراك، ولاحقًا جريح عاشر، وخلَّف أزمة غير مسبوقة في العلاقات. وقد ردَّت أنقرة حينها بسحب السفير، وتجميد العلاقات العسكرية، والمطالبة باعتذار رسمي وتعويضات ورفع الحصار عن القطاع.
ورغم تجاهل “إسرائيل” للمطالب، فقد شهد مارس/آذار 2013 تحولًا مفاجئًا، عندما قدَّم بنيامين نتنياهو اعتذارًا رسميًّا لأردوغان في خلال اتصال هاتفي، بوساطة أمريكية. بعد ذلك، بدأت مفاوضات مطوَّلة أفضت إلى اتفاق تطبيع شامل في يونيو/حزيران 2016، تضمَّن دفع 20 مليون دولار كتعويضات لأسر الضحايا، واستئناف تبادل السفراء، وإرسال مساعدات تركية إلى قطاع غزة.
لكن العلاقات لم تلبث أن عادت إلى دائرة التوتر مجددًا في مايو/أيار 2017، عقب تصريحات حادة لأردوغان رفض فيها المساس بالأذان في القدس، وشبَّه السياسات الإسرائيلية بالفصل العنصري، استدعت “إسرائيل” على إثرها السفير التركي، في مشهد آخر يعكس هشاشة العلاقة، وقابليتها الدائمة للانفجار عند كل منعطف.
حبل لم ينقطع
على الرغم من الأزمات الحادة والمشاحنات السياسية التي ميَّزت العلاقات التركية–الإسرائيلية، إلا أن هذه العلاقات لم تصل يومًا إلى القطيعة الكاملة، بل ظلَّت تدور في فلك “الخلاف القابل للإدارة”، إذ إن أنقرة و”تل أبيب” غالبًا ما تتجاوزان ذروة التوتر وتعودان إلى صيغة براغماتية تحفظ المصالح المشتركة.
تعود جذور هذه العلاقة إلى عام 1949، عندما اعترفت تركيا رسميًّا بـ”إسرائيل”، لتصبح أول دولة ذات غالبية مسلمة تُقيم معها علاقات دبلوماسية. وفي خمسينيات القرن الماضي، وقعت الدولتان اتفاقيات تجارية مهمة، إذ لبَّت الصادرات الزراعية التركية نصف احتياجات “إسرائيل” من الحبوب، فيما ردَّت الأخيرة بلفتة رمزية عبر تسمية غابة قرب حيفا باسم “أتاتورك”.
لكن مسار العلاقات لم يكن خاليًا من التوتر، ففي عام 1956، على خلفية العدوان الثلاثي على مصر، خفَّضت أنقرة تمثيلها الدبلوماسي إلى مستوى القائم بالأعمال، ولم تستعد العلاقات مستواها الطبيعي إلا بعد سبع سنوات. وفي خلال حرب يونيو/حزيران 1967، دعمت تركيا الموقف العربي، ودعت “إسرائيل” إلى الانسحاب من الأراضي المحتلة، لتعود أجواء الفتور وتتصاعد في سبعينيات القرن الماضي، مع تصويت أنقرة عام 1975 لصالح قرار الأمم المتحدة الذي يساوي بين الصهيونية والعنصرية، واعترافها بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعيًّا للفلسطينيين.
وفي يناير/كانون الثاني 1980، رفعت تركيا مستوى تمثيلها الدبلوماسي إلى درجة السفراء، لكن إعلان “إسرائيل” ضم القدس الشرقية دفعها سريعًا إلى خفض التمثيل وإغلاق قنصليتها في القدس. لاحقًا، وعلى الرغم من رفع التمثيل إلى مستوى القائم بالأعمال عام 1986، إلا أن اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987) واعتراف تركيا بدولة فلسطين (1988) أعادا العلاقة إلى حالة من الجمود، إلى أن أعيد التمثيل إلى مستوى السفراء عام 1992.
المفارقة أن “إسرائيل”، التي طالما تعاملت مع التواجد الإيراني في سوريا كتهديد لاعتبارات سياسية، باتت الآن ترى في الحضور التركي خطرًا مزدوجًا: أولًا لأنه يُعيد ترسيم النفوذ داخل سوريا؛ وثانيًا لأنه يأتي من عضو في الناتو
وشهدت تسعينيات القرن الماضي مرحلة تقارب لافت، مدفوعة بمناخ عملية السلام ومؤتمر مدريد (1991)، إذ رُفعت مستويات التمثيل الدبلوماسي، وأُعيد افتتاح القنصليات. ووقَّعت الدولتان اتفاقيات للتعاون الأمني والعسكري، كان أبرزها اتفاقية التدريب العسكري عام 1996، تلاها تعاون دفاعي وصل إلى ذروته بمناورات بحرية مشتركة عام 1998 ضمَّت القوات التركية والإسرائيلية والأميركية.
في العقد الأخير، اتسمت العلاقة بمد وجزر جديدين، لكن دون قطع حبال الاتصال نهائيًّا، ففي مارس/آذار 2022، زار الرئيس الإسرائيلي يتسحاق هرتسوغ أنقرة، في أول زيارة من نوعها منذ 14 عامًا، لتدشين مرحلة تطبيع أعقبتها عودة السفراء في أغسطس/آب من العام ذاته. وتكرست مؤشرات التقارب بلقاء أردوغان ونتنياهو في نيويورك على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول 2023، في خطوة عكست رغبة الطرفين في تجاوز عقدة الخلافات وفتح صفحة جديدة.
“طوفان الأقصى” يعيد العلاقة إلى مربع التوتر
لم يدُم مسار الانفراج طويلًا، فمع اندلاع عملية “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وما تبعها من حرب إبادة شنَّها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، انقلبت المعادلة مجددًا بين أنقرة و”تل أبيب”، لتعود العلاقات إلى حالة من التوتر الحاد والقطيعة الفعلية على مختلف المستويات.
باشرت “إسرائيل” بسحب دبلوماسييها من أنقرة مع بداية الحرب، بينما استدعت تركيا سفيرها للتشاور، احتجاجًا على استمرار العدوان ورفض “إسرائيل” دعوات وقف إطلاق النار، وسرعان ما ارتفعت نبرة التصريحات التركية، إذ أعلن الرئيس رجب طيب أردوغان أن حركة “حماس” ليست منظمة إرهابية، بل “حركة مقاومة تدافع عن أرضها”، فيما وصف “إسرائيل” بأنها “دولة مجرمة ترتكب إبادة جماعية”، متوعدًا بملاحقتها دوليًّا.
في مارس/آذار 2024، بلغت الأزمة ذروتها مع تصعيد أردوغان لهجته، واتهامه العلني لـ”إسرائيل” بارتكاب “جرائم إبادة بحق الشعب الفلسطيني”، إلى جانب تنديده بالدعم الغربي المطلق لـ”تل أبيب”.
وفي مايو/أيار، بدأت تركيا خطوات فعلية لقطع العلاقات الاقتصادية، حين علَّقت مشاريع التعاون في قطاع الطاقة، وألغت زيارة كان من المفترض أن يجريها وزير الطاقة التركي ألب أرسلان بيرقدار إلى “إسرائيل”، مع حديث عن تجميد خطط مشتركة للتنقيب عن الغاز شرق المتوسط وربطه بأوروبا عبر تركيا.
وفي خطوة غير مسبوقة، أعلنت أنقرة في أغسطس/آب 2024 انضمامها رسميًّا إلى الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية ضد “إسرائيل”، متعهدة بتقديم وثائق وأدلة تتعلق بـ”التطهير العرقي وجرائم الحرب في غزة”، في مؤشر واضح على التوجه التركي لتدويل المواجهة.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني من العام ذاته، أعلن أردوغان أن بلاده قطعت أشكال التجارة والعلاقات مع “إسرائيل” كافة، مؤكدًا أن “تركيا تقف مع فلسطين حتى النهاية”. وبالتوازي، شنَّت الأجهزة الأمنية التركية حملات مكثفة ضد ما قالت إنها خلايا مرتبطة بـ”الموساد”، واعتقلت عدة أشخاص بتهم تتعلق بالتجسس.
📌 الصحافة العبرية: “أصبحت #تركيا أقوى دولة مسلمة في المنطقة”، وأشارت إلى قلق “إسرائيل” من تزايد القوة العسكرية والدبلوماسية لأنقرة.
📌 أستاذ في جامعة تل أبيب: “تركيا المجهزة بطائرات F-35 تمثل تحدياً كبيراً لـ “إسرائيل”. حتى #اليونان منزعجة من ذلك”.
📌 قالت صحيفة “معاريف”: “… pic.twitter.com/KiWRWApD28
— نون بوست (@NoonPost) July 7, 2025
في السياق الأمني، عبَّرت “إسرائيل” عن قلقها المتزايد من استمرار أنقرة في احتضان قيادات من حركة “حماس”، وعدَّت ذلك بمثابة “توفير ملاذ آمن لخصومها”، بل ذهبت أبعد من ذلك بتسريب معلومات عبر وسائل إعلامها تشير إلى أن أنقرة تسمح لفصائل فلسطينية، بينها “حماس” والجهاد الإسلامي، بإجراء تدريبات عسكرية داخل الأراضي السورية، بدعم مباشر من أردوغان.
ونقلت قناة “I24news” عن مصادر إسرائيلية قولها إن هذه التدريبات تجري بموافقة تركية، وتشمل حضورًا متناميًا للفصائل الفلسطينية في سوريا، ما تعدُّه “تل أبيب” تطورًا خطيرًا، يقترب من خطوطها الحمراء.
سوريا.. ساحة الاشتباك الجديد؟
برزت الساحة السورية في الأشهر الأخيرة كأخطر بؤرة للتوتر بين تركيا و”إسرائيل”، وسط تحولات ميدانية وسياسية عميقة أعقبت انهيار نظام بشار الأسد، ومعطيات تفتح الباب على احتمال تطور التباين الاستراتيجي إلى مواجهة مباشرة أو غير مباشرة بين أنقرة و”تل أبيب”، للمرة الأولى في تاريخ علاقتهما.
الرسالة الأوضح جاءت في ليلة الثالث من أبريل/نيسان 2025، عندما شنَّت “إسرائيل” واحدة من أعنف ضرباتها الجوية في سوريا، استهدفت ثلاث قواعد جوية وسط البلاد، قالت مصادر إسرائيلية إنها كانت ضمن مواقع تفقدتها فرق عسكرية تركية مؤخرًا تمهيدًا لنشر قوات في إطار “اتفاق دفاع مشترك” مزمع مع الإدارة الجديدة في دمشق.
أثار القصف غضب أنقرة، وأعقبته الخارجية التركية ببيان شديد اللهجة وصف “إسرائيل” بأنها “التهديد الأكبر للاستقرار في المنطقة”، محمِّلةً حكومة نتنياهو “مسؤولية تقويض الجهود السياسية في سوريا”، في حين وصف البيان تصريحات الوزراء الإسرائيليين بـ”الاستفزازية والعنصرية”، في إشارة إلى تصريحات يسرائيل كاتس وجدعون ساعر، اللذين هاجما تركيا واتهماها بمحاولة إقامة “محمية عثمانية” داخل سوريا.
ونقلت صحيفة “جيروزاليم بوست” عن مسؤول إسرائيلي أن الضربات الجوية كانت “رسالة تحذير مباشرة” لأنقرة، فـ”أي وجود عسكري تركي دائم في سوريا سيمثِّل تهديدًا للعمليات الجوية الإسرائيلية، ولن يُسمح بتمريره”.
على الرغم من التصعيد، بدت أنقرة حريصة على احتواء الموقف. فبعد أيام، صرَّح وزير الخارجية التركي هاكان فيدان من بروكسل بأن بلاده لا تسعى لأية مواجهة مع “إسرائيل” في سوريا، موضحًا أن “سوريا ملك للسوريين”، وأن أية تفاهمات محتملة بين دمشق و”تل أبيب” “شأن داخلي”، في تصريحات عكست تراجعًا واضحًا في اللهجة التركية، وأظهرت حرصًا على منع انفجار الموقف عسكريًا.
لكن المتابعة الدقيقة لمسار الأحداث لا يجب أن تغفل أن الحذر الإسرائيلي تجاه الدور التركي في سوريا بدأ قبل هذه الحادثة بوقت طويل، ففي يناير/كانون الثاني 2025، كشفت “جيروزاليم بوست” عن تقرير داخلي أعدَّته لجنة “ناغل” –وهي لجنة استراتيجية شكَّلها مجلس الأمن القومي الإسرائيلي عام 2023– حذَّرت فيه من احتمال نشوب حرب مستقبلية مع تركيا، إذ رأى التقرير أن “تحالفًا ناشئًا بين أنقرة والإدارة السورية الجديدة قد يُشكِّل تهديدًا أخطر حتى من المحور الإيراني”.
وقد أوصى التقرير بزيادة ميزانية الدفاع بقيمة 15 مليار شيكل سنويًّا على مدى خمس سنوات (نحو 4.1 مليار دولار)، مع التركيز على:
- تعزيز سلاح الجو بطائرات F-15 إضافية، وطائرات تزويد بالوقود، ومسيرات بعيدة المدى.
- تطوير الدفاعات الجوية، بتوسيع أنظمة “القبة الحديدية”، و”مقلاع داود”، ومنظومات “السهم”، والدفاع بالليزر.
- تعزيز أمن الحدود الشرقية، عبر إنشاء حاجز دفاعي محصَّن على طول وادي الأردن، على الرغم مما قد يخلقه من أزمة دبلوماسية مع الأردن.
والمفارقة أن “إسرائيل”، التي طالما تعاملت مع التواجد الإيراني في سوريا كتهديد لاعتبارات سياسية أو عملياتية مرتبطة بمعادلات الاشتباك والمواجهة، باتت الآن ترى في الحضور التركي خطرًا مزدوجًا: أولًا لأنه يُعيد ترسيم النفوذ داخل سوريا؛ وثانيًا لأنه يأتي من عضو في الناتو يُفترض أنه حليف تقليدي للغرب، ما يُصعِّب احتواءه بوسائل الضغط المعتادة والضربات العسكرية المباشرة.
السيطرة والاحتواء: معادلة الصراع المتحكم به
على الرغم من سخونة المشهد وتعدُّد جبهات التوتر، ما تزال معادلة “السيطرة والاحتواء” الإطار الحاكم للعلاقات التركية–الإسرائيلية، فأنقرة، على الرغم من تصعيدها الكلامي وحرصها على إظهار حضور قوي في الملفات الإقليمية، تتبع نهجًا براغماتيًّا يحكمه إدراك دقيق لحدود الاشتباك الممكن، ولحسابات الدور الإقليمي ضمن توازنات معقدة.
تسعى تركيا إلى التموضع كلاعب لا غنى عنه في ملفات المنطقة الحساسة، من فلسطين إلى سوريا والعراق، دون الانجرار إلى مواجهات مباشرة تُربك استراتيجيتها أو تفتح عليها أبوابًا لا ترغب فيها. في المقابل، تدرك “إسرائيل” أن تركيا عضو مؤسس في حلف شمال الأطلسي “الناتو”، وحليف استراتيجي للولايات المتحدة، وأن الصدام معها يفتح على احتمالات إقليمية ودولية غير محسوبة.
لهذا، يتبادل الطرفان إدارة العلاقة بمنطق “الشد والرخي”، إذ يُضبط الخلاف ضمن مستوى مسيطر عليه. وقد كشفت التطورات في السويداء عن حجم هذا الحذر التركي، فعلى الرغم من الضربات الإسرائيلية على مواقع تمس نفوذ النظام السوري الجديد مساسًا مباشرًا، امتنعت أنقرة عن أي رد فعل ميداني مباشر، واختارت بدلًا من ذلك خيار التهدئة عبر رعاية محادثات سورية غير مباشرة مع “إسرائيل”، تطورت لاحقًا –بمشاركة أمريكية– إلى اتصالات مباشرة تهدف إلى لبلورة آلية خفض تصعيد وقواعد اشتباك واضحة.
وأكد وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، في ختام منتدى أنطاليا الدبلوماسي الرابع، أن بلاده “لا ترغب في صراع مع أي طرف داخل سوريا”، وأن المحادثات الفنية مع “إسرائيل” ستُستأنف عند الضرورة، بما يضمن تجنب الاحتكاك العسكري المباشر.
وقد مثَّلت محادثات “باكو” بين الوفدين التركي والإسرائيلي نقطة تحول في هذا الاتجاه، إذ أفضت –وفق ما كشفته تطورات السويداء– إلى تفاهم غير معلن حول تقاسم النفوذ داخل سوريا بحيث تلتزم تركيا بعدم التمدد في مناطق النفوذ الإسرائيلي، مقابل إقرار ضمني من “تل أبيب” بنفوذ أنقرة، وذلك بضغط مباشر من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي يحتفظ بعلاقة خاصة مع الرئيس التركي أردوغان.
قالت مصادر لصحيفة “إسرائيل اليوم”:
📌 “إسرائيل” نقلت رسائل دبلوماسية إلى تركيا لوقف صراع عسكري مباشر أو غير مباشر محتمل في سوريا.
📌 “إسرائيل” نقلت رسائل مهدئة إلى #تركيا لعدم إقامة ثلاثة قواعد جديدة في أنحاء #سوريا ولمنع إنشاء تنظيمات معادية لإسرائيل في سوريا pic.twitter.com/GCYK9aCxU6— نون بوست (@NoonPost) March 4, 2025
وفي هذا السياق، قالت الباحثة في معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، غاليا ليندنشتراوس، لموقع “تايمز أوف إسرائيل”: “تهتم تركيا بسوريا أكثر من “إسرائيل”، وتستثمر تبعًا لذلك، وهذا يمنحها أفضلية في رسم قواعد الاشتباك”، وأضافت أن دعم ترامب لأردوغان يقيِّد خيارات “إسرائيل” في الرد، إذ أوضح الرئيس الأمريكي أن بإمكانه المساعدة “لكن على إسرائيل أن تُظهر مطالب معقولة”، ما يعني دفع “تل أبيب” إلى تبني سياسة الحد الأدنى في سوريا، والتركيز فقط على خطوطها الحمراء الحيوية مثل منع نقل السلاح الإيراني إلى “حزب الله”.
بناءً على ما سبق، يبدو أن أي توتر جديد بين أنقرة و”تل أبيب” –مهما بلغ حجمه– سيظل محكومًا بحدود اللعبة القديمة نفسها: لا قطيعة شاملة، ولا مواجهة مباشرة، ما يبقيها علاقةً تقف على حافة الاشتباك، دون أن تقفز إلى الانفجار.