تعاني السياسة الخارجية الفرنسية خلال العشريتين الأخيرتين تحديدًا حالة من الارتباك والتأرجح وفقدان الاتزان، إذ تتقاطع عبر محطات عدة مع العقيدة الفرنسية الراسخة منذ عقود طويلة، والتي في مرتكزها الأهم تحقيق التوازن والمواربة في المواقف والاتجاهات إزاء الملفات والقضايا الشائكة ذات الأبعاد التاريخية والجيوسياسية المعقدة، وعلى رأسها ملف الصراع العربي الإسرائيلي وفي المقدمة منه القضية الفلسطينية.
وتأرجحت باريس في تعاطيها مع الملف الفلسطيني، يمينًا ويسارًا على أحبال التوازنات، من دعم خيار حل الدولتين إلى الاصطفاف بشكل أكثر صراحة مع الرؤية والسردية الإسرائيلية، ومن رفض الاعتراف بقرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بجعل القدس عاصمة لإسرائيل إلى الدعم المطلق لتل أبيب واقتراح تشكيل تحالف دولي ضد المقاومة الفلسطينية.
ثم جاءت حرب غزة الراهنة كتتويج لتلك الضبابية التي خيمت على سياسة فرنسا الخارجية إزاء القضية الفلسطينية، حيث شهدت تحولات وتغيرات أقرب للتناقضات، صعودًا وهبوطًا، تحول جذري في بوصلة التعاطي، من تقديم كل سبل العون العسكري والسياسي واللوجستي لجيش الاحتلال في حرب الإبادة التي يشنها ضد المدنيين العزل في غزة، إلى الإعلان بشكل مفاجئ عن الاعتراف الفرنسي بالدولة الفلسطينية المستقلة، وإيداع هذا القرار في الأمم المتحدة سبتمبر/أيلول المقبل.
نستعرض في التقرير أبرز المحطات في تاريخ العلاقة بين فرنسا والقضية الفلسطينية، والتغيرات التي شهدتها على مدار ما يقرب من 70 عامًا، منذ تأسيس الجنرال شارل ديغول للجمهورية الخامسة عام 1959 وصولًا إلى المرحلة الماكرونية التي بدأها الرئيس الحالي في 2017 وما بينهما من ستة عهد رئاسية متباينة.
ما قبل الجمهورية الخامسة
ترجع العلاقة بين فرنسا والقضية الفلسطينية إلى اتفاقية سايكس – بيكو عام 1916 وما تلاها من وعد بلفور عام 1917 حيث كانت فرنسا وبريطانيا على رأس الدول التي وافقت على التمهيد لظهور الكيان الصهيوني من خلال الدعوة لتدشين وطن خاص بهم في الأراضي الفلسطينية.
غير أن العلاقة الرسمية تعود إلى نوفمبر/تشرين الثاني عام 1947 حين صوتت الجمهورية الفرنسية لصالح قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة، والذي أسفر عن ولادة الكيان الإسرائيلي كوطن لليهود، وكانت باريس من أوائل الدول التي اعترفت به، ومع حلول الخمسينيات كان الفرنسيون الحليف الأبرز والأهم لدولة الاحتلال.
ومنذ قرار التقسيم كانت فرنسا المورد الرئيسي للأسلحة والعتاد للكيان الإسرائيلي، وساهمت بشكل كبير في تكوين جيشه وتدريبه على أيدي جنرالات الجيش الفرنسي، كما انخرطت في العدوان الثلاثي إلى جانب بريطانيا عام 1956 لخدمة الأجندة الإسرائيلية والإطاحة بنظام الرئيس جمال عبد الناصر في مصر.
كما كانت باريس كلمة السر وراء بناء مفاعل ديمونة في صحرا النقب، في ستينات القرن الماضي، حيث ساعدت الكيان في إخراج هذا المشروع للنور، بمعزل عن الولايات المتحدة التي كانت تعارض بناء المفاعل في ذلك الوقت، ولولا فرنسا التي زودت الصهاينة بالمكونين التكنولوجيين الأساسيين لبرنامج الأسلحة النووية، مفاعل إنتاج ومنشأة لفصل البلوتونيوم، لما نجحت تل أبيب في الدخول للنادي النووي.
شارل ديغول.. الحياد الدبلوماسي
دخلت العلاقات بين فرنسا والقضية الفلسطينية مرحلة جديدة بعد دحر الاحتلال النازي وتأسيس الجنرال شارل ديغول ( 1890 – 1970) الجمهورية الخامسة عام 1958، حيث تبنى الرئيس الفرنسي الجديد سياسة مغايرة، مغردة بشكل كبير بعيدًا عن السرب الأمريكي السوفيتي في ذلك الوقت، أكثر اتزانا وحيادية إزاء طرفي الصراع، الإسرائيليين والعرب.
ثم جاءت حرب يونيو/حزيران 1967 لتمثل نقطة تحول جذرية في مسار تلك العلاقات، حيث تبنى ديغول خطابًا مناوئًا لتل أبيب، متهما إياها باحتلال أراضي عربية بالقوة، سيناء والجولان وأراضي فلسطينية، وأن هذا الأمر غير مقبول، وطالب بضرورة الانسحاب الكامل وفقًا للقرار 242 الصادر عن مجلس الأمن.
كما وصف اليهود بأنهم شعب نخبوي محتل كما جاء في مؤتمر صحفي له في نوفمبر/تشرين الأول 1967، مما أثار غضب وحفيظة الجاليات اليهودية في مختلف دول العالم، إيذانا بدخول العلاقات بين باريس وتل أبيب مرحلة من التوتر المنضبط بطبيعة الحال بجداريات صلبة من المصالح والأيديولوجيات المشتركة.
وكان لأول مرة لفرنسا أن تتخذ إجراءات ملموسة ضد الكيان اللقيط، فأوقف ديغول شحنات الأسلحة الفرنسية لإسرائيل بعد الحرب، رغم أن فرنسا كانت حتى ذلك الوقت من أبرز مورّدي السلاح لها، وفي المقابل دعم حق الشعوب العربية في استعادة أراضيها المحتلة، مؤيدًا فكرة تسوية شاملة تشمل حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة أو التعويض، وهو ما ورد لاحقًا في قرارات الأمم المتحدة.
نجح ديغول في تأسيس نهج فرنسي مستقل تمامًا عن نهج الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، قائمًا على احترام القانون الدولي وحق الشعوب في تقرير مصيرها، وهو النهج الذي اتخذه الفرنسيون عقيدة أساسية، تتأرجح الأنظمة الحاكمة لاحقًا حوله، اقترابًا وابتعادًا، وبدرجات متفاوتة.
جورج بومبيدو.. ديغولية أكثر واقعية
تسلم جورج بومبيدو (1911 – 1974) مقاليد الحكم في فرنسا بعد وفاة ديغول عام 1969، ورغم استمراره على النهج الفرنسي الديغولي في التعاطي مع القضية الفلسطينية لكنه كان أثر واقعية، حيث حافظ على علاقات جيدة مع تل أبيب وفي ذات الوقت حاول تعميق العلاقات مع العالم العربي.
تولى بومبيدو السلطة في وقت لم تستفق فيه منطقة الشرق الأوسط من صدمة حرب 1967، ليسير على نهج سلفه ديغول في نقد الاحتلال الإسرائيلي ورفض سياسة فرض الأمر الواقع، ومعارضة التوسع الاستيطاني الذي بدأ الاحتلال في شرعنته في ذلك الوقت، كما تمسك بالقرار 242 الصادر عن مجلس الأمن والذي تضمن الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي المحتلة كشرط للسلام في المنطقة.
كانت العلاقات بين باريس وتل أبيب في عهد بومبيدو شبه باردة لكنها لم تنقطع، فأثناء زيارته للولايات المتحدة عام 1970 دشن اليهود الأمريكيون تظاهرة حاشدة في نيويورك، احتجاجا على ما اعتبره تحاملًا فرنسيًا ضد إسرائيل، حينا وُصف الرئيس الفرنسي في الإعلام الأمريكي والإسرائيلي بأنه غير صديق لإسرائيل، على خلفية مواصلته حظر تصدير الأسلحة الفرنسية إلى تل أبيب، الذي بدأه ديغول بعد حرب 1967.
ورغم أنه لم يتخذ خطوات ملموسة وجدية لصالح الفلسطينيين، لكن ثبّت الموقف الفرنسي الداعم للانسحاب من الأراضي المحتلة وضرورة التوصل إلى حل سياسي دائم، وحاول بقدر نسبي التوازن بين دعم الشرعية الدولية ورفض التطرف، دون أن ينجرف نحو الاصطفاف الكامل مع أي طرف.
ديستان.. بداية اعتراف أوروبا بحقوق الفلسطينيين
يعد عهد فاليري جيسكار ديستان (1926 – 2020) مرحلة انتقالية في الموقف الفرنسي من القضية الفلسطينية، حيث يٌنسب له فتح الباب وتمهيد الطريق نحو الاعتراف الأوروبي بالقضية الفلسطينية كقضية سياسية لا يمكن غض الطرف عنها أو تجاهلها، وفي الوقت الذي حافظ فيه على علاقات مع إسرائيل، تبنّى نهجًا أكثر انفتاحًا تجاه منظمة التحرير الفلسطينية، وساهم بشكل كبير في إصدار إعلان البندقية، الذي يُعد أساسًا مهمًا للتوجه الأوروبي في دعم حل الدولتين وحق الفلسطينيين في تقرير المصير.
شهدت فترة رئاسته العديد من التطورات السياسية في الشرق الأوسط التي أثرت بطبيعة الحال على الموقف الفرنسي من الصراع العربي الإسرائيلي ككل، أبرزها الحرب الأهلية اللبنانية، مفاوضات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل (1978)، صعود دور منظمة التحرير دوليًا، خاصة بعد خطاب ياسر عرفات أمام الأمم المتحدة عام 1974، ثم الثورة الإيرانية (1979) وتأثيرها على العلاقات الغربية بالمنطقة.
حافظ ديستان على علاقات دبلوماسية جيدة مع تل أبيب، لكنه لم يكن منحازًا لها كما بعض القادة الغربيين، وأيد حقها في العيش ضمن حدود آمنة ومعترف بها، لكنه في الوقت ذاته دعاها مرارًا إلى الامتثال لقرارات مجلس الأمن، خصوصًا القرار 242 القاضي بالانسحاب من الأراضي المحتلة.
كما قاد المجموعة الأوروبية لإصدار ما عرف بـ “إعلان البندقية” في يونيو/حزيران 1980 والذي أكد حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، ضرورة إشراك منظمة التحرير الفلسطينية في أي مفاوضات، ورفض استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية، وكان سابقة دبلوماسية مفاجئة نحو الاعتراف الغربي بحقوق الشعب الفلسطيني.
ميتران.. الواقعية الدبلوماسية
تميز موقف فرانسوا ميتران ( 1916 – 1996) من القضية الفلسطينية بصفة عامة بالتوازن والواقعية، حيث حافظ على علاقات متوازنة بين فلسطين وإسرائيل، فبينما قاد موجة الانفتاح على الكيان المحتل كان في الوقت ذاته من أوائل الزعماء الغربيين الذين اعترفوا بالحقوق السياسية للشعب الفلسطيني، ساعيًا إلى تسوية سلمية متوازنة تقوم على القانون الدولي والعدالة.
في فبراير/شباط عام 1982، أجرى زيارة تاريخية إلى إسرائيل، وكان أول رئيس فرنسي يلقي خطابًا في الكنيست، حيث أكد حينها على التزام بلاده بأمن إسرائيل وحقها في العيش بسلام داخل حدود آمنة، رافضًا أعمال المقاومة التي قام بها الفلسطينيون، وفي الوقت ذاته دعا من قبل البرلمان الإسرائيلي إلى مفاوضات سلام شاملة تشارك فيها جميع الأطراف، بما فيهم منظمة التحرير الفلسطينية، كما فجر مفاجأة حين أعلن بوجوب أن يُمنح الفلسطينيون الحق في إقامة دولتهم.
كان ميتران من أوائل القادة الأوروبيين الذين فتحوا قنوات حوار رسمية مع منظمة التحرير الفلسطينية (ممثلةً آنذاك بزعامة ياسر عرفات) حيث استقبل عرفات في باريس عدة مرات، مؤكدًا له على الاعتراف بالمنظمة كممثل شرعي للفلسطينيين، وإيمانه بضرورة حل الدولتين كأساس لحل النزاع ودعمه لهذا الخيار، كذلك ضرورة التفاوض المباشر بين إسرائيل والفلسطينيين برعاية دولية.
وأثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، الذي استهدف منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت، انتقد ميتران الوحشية المفرطة في الرد الإسرائيلي، لكنه لم يقطع العلاقات مع تل أبيب، كما شاركت قواته كجزء من قوات حفظ السلام الدولية في لبنان، وساهم في تأمين خروج آمن للمقاتلين الفلسطينيين من بيروت، في صفقة رعتها فرنسا والولايات المتحدة
كثير من المتابعين يرون أن ميتران يمثل توجهًا فرنسيًا أكثر استقلالية عن الولايات المتحدة فيما يتعلق بالشرق الأوسط، إذ رفض الانجرار خلف سياسات واشنطن المطْلقة لإسرائيل، داعيًا إلى دور أوروبي فاعل في عملية السلام، مؤيدًا بشكل كبير مبدأ العدالة الدولية وحق تقرير المصير.
جاك شيراك.. الداعم الأبرز لإقامة الدولة الفلسطينية
يٌنظر للرئيس جاك شيراك (1995–2007) على أنه أول من فتح الباب على مصراعيه أمام إقامة دولة فلسطينية مستقلة، وعاصمتها القدس الشرقية، كما كان من القلائل من القادة الأوروبيين الذين اتسمت مواقفهم تجاه القضية الفلسطينية بالوضوح والصراحة وتبني المواقف الجريئة، والتغريد خارج السرب الأمريكي الذي كان مهيمنًا في ذلك الوقت على الشرق الأوسط.
خاض معارك دبلوماسية مع تل أبيب جراء مواقفه المناوئة للاحتلال والتي من أبرزها رفضه المعلن للاستيطان الإسرائيلي واعتبره عقبة رئيسية أمام السلام، انتقاده لانتهاكات جيش الاحتلال بحق الفلسطينيين، خصوصًا خلال الانتفاضة الثانية (2000–2005)، كما دعا مرارًا إلى انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة عام 1967 بما فيها القدس الشرقية.
دعم شيراك حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولة مستقلة عاصمتها القدس الشرقية، وطالب بحماية المدنيين الفلسطينيين، وندد بالحصار المفروض على مناطق السلطة الفلسطينية، كما حافظ على علاقة وثيقة مع ياسر عرفات، ورفض عزله رغم الضغوط الأمريكية والإسرائيلية.
خلال زيارته للقدس الشرقية في أكتوبر/تشرين الأول عام 1996، تعرض الوفد الصحفي المرافق له لمضايقات من جنود الاحتلال أثناء جولة تفقدية في البلدة القديمة، حينها انفعل شيراك بشدة على أحد الضباط الإسرائيليين، وقال جملته الشهيرة “إذا لم يكن لكم احترام لي، فسأغادر! هذا ليس أسلوب معاملة، هذه ليست ديمقراطية” وهو ما زاد من شعبيته لاحقًا في الأوساط العربية.
رفض الانخراط في سياسة الإملاءات الأمريكية بخصوص خارطة الطريق وخطط السلام غير المتوازنة، داعيًا إلى دور أوروبي فعال ومحايد في عملية السلام، مؤمنًا بأن السلام العادل لا يمكن تحقيقه دون احترام حقوق الفلسطينيين الكاملة، لذا اعتبره كثيرون صوتًا فرنسيًا قويًا في دعم الحق الفلسطيني والعدالة الدولية.
ساركوزي.. تقارب غير مسبوق مع الاحتلال
يُعد نيكولا ساركوزي الذي حكم فرنسا من عام 2007 حتى عام 2012 أحد أبرز القادة الفرنسيين الداعمين للكيان المحتل، فرغم محاولته انتهاج سياسة دبلوماسية معتدلة لكنها كانت تميل وبشدة نحو الاصطفاف إلى الرؤية الإسرائيلية ودعم الأجندة الصهيونية في مواجهة حقوق الشعب الفلسطيني.
زار تل أبيب عام 2008 وكان أول رئيس فرنسي يزورها منذ زيارة شيراك عام 1996، وفي خطابه أمام الكنيست أكد على دعم بلاده القوي لأمن الكيان وحقه في الوجود داخل حدود آمنة، كما أعلن تضامنه مع الإسرائيليين في مواجهة ما أسماها “التهديدات الإرهابية”، مؤكدًا أن معاداة السامية لن تُغتفر أبدًا في فرنسا، وهو الخطاب الذي نال استحسانًا إسرائيليًا واسعًا واستعاد به مجددًا الحضور الفرنسي في الداخل الإسرائيلي بعد الهزة التي أحدثها شيراك.
غازل ساركوزي الشارع اليهودي في الداخل الفرنسي وخارجه من خلال مواقفه التي قدّم نفسه من خلالها كحليف موثوق به للكيان الإسرائيلي، ومن أبرز المواقف التي تبناها في هذا الشأن رفض طلب فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة عام 2011، حيث دعا بدلًا من ذلك إلى الاعتراف بـ”دولة مراقب” وتحقيق تسوية عبر المفاوضات.
ورغم هذا الدعم تمسك بالحد الأدنى من العقيدة الفرنسية في التعاطي مع هذا الملف، معلنا أن حل الدولتين هو الطريق الوحيد المقبول لحل النزاع، وأن تكون الدولة الفلسطينية قابلة للحياة وذات سيادة، مع التأكيد على أن القدس يجب أن تكون عاصمة للدولتين، وهي من الملفات التي شدد على حلها عبر المفاوضات، كما صوتت بلاده لصالح منح فلسطين عضوية كاملة في منظمة اليونسكو.
ويمكن وصف عهد ساركوزي بالأكثر برغماتية في التعامل مع الملف الفلسطيني، فبينما قدم غطاءً سياسيًا وعسكريًا لإسرائيل هو الأقوى مقارنة بأسلافه من الرؤساء السابقين، لكنه في الوقت ذاته لم يتخل عن الموقف الفرنسي التقليدي في دعم حل الدولتين وحقوق الفلسطينيين.
هولاند.. السقوط في فخ التوازنات
التزم فرانسوا هولاند الذي حكم فرنسا بين 2012 – 2017 بالعقيدة الفرنسية المتزنة في التعاطي مع الملف الفلسطيني، حيث إدانة الاستيطان ودعم حل الدولتين مع إبقاء العلاقات مع كل من رام الله وتل أبيب جيدة وذات أبوابة مفتوحة على مصراعيها، لكنه في ذات الوقت تبنى خطابًا محايدًا أكثر ميوعة، كان له أثره في تقليل النفوذ الفرنسي في هذا الملف.
تولى الحكم في وقت كانت تشهد فيه المنطقة حالة سيولة سياسية معقدة، تعثّر مفاوضات السلام، تصاعد الاستيطان الإسرائيلي، والانقسام الفلسطيني الداخلي، فحاول السير على خطى أسلافه في دعم حل الدولتين وحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، لكنه التزم دبلوماسية هادئة ومواقف محسوبة، حرصًا على عدم الإضرار بالعلاقات القوية مع إسرائيل، ولا سيما مع الجالية اليهودية في فرنسا، ففقد حضوره ومن ثم تأثير بلاده.
حافظ بحذر على علاقات دافئة مع إسرائيل، وقام بزيارة رسمية إلى تل أبيب والقدس عام 2013، عبر خلالها عن دعم فرنسا لأمن الكيان ورفضه لأي تهديد وجودي لها، كما شدد في خطاب له داخل الكنيست على أن بلاده “صديقة لإسرائيل”، لكنه دعاها أيضًا إلى وقف الاستيطان واستئناف المفاوضات.
دعّم حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم، وإن لم يتبنَّ مواقف سياسية قوية أو مبادرات فرنسية حاسمة، وخلال ولايته رفض الاعتراف الأحادي بالدولة الفلسطينية المستقلة، مفضّلًا الحل عبر التفاوض، إلا أنه سمح للبرلمان الفرنسي في 2014 بالتصويت الرمزي لصالح الاعتراف بفلسطين، لكنه لم يفعّل القرار على المستوى التنفيذي.
دعا خلال مؤتمر باريس للسلام الذي عقد في يناير/كانون الثاني عام 2017، وحضرته نحو 70 دولة، إلى إحياء عملية السلام، عبر دعم خيار حل الدولتين، واحترام حدود 1967، ووقف العنف والاستيطان، وهو ما رفضته تل أبيب وقتها واعتبرته تدخلا خارجيًا في شئونها غير مقبول.
ماكرون.. التأرجح على أحبال الدبلوماسية الحذرة
في مؤتمر صحفي مشترك مع رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، في يوليو/حزيران 2017 دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الفائز للتو في انتخابات الرئاسة الفرنسية التي جرت في مايو/أيار من نفس العام، إلى استئناف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية في إطار حل الدولتين، تعيشان ضمن حدود معترف بها وآمنة، وأن تكون القدس عاصمة، من دون أن يحدد عاصمة أي دولة، وشدد في الوقت نفسه على دعم بلاده غير المشروط لأمن إسرائيل.
وفي عشرات المؤتمرات الصحفية حرص ماكرون على التأكيد على أن “فرنسا لن تتخلى أبدًا عن الدفاع عن حل الدولتين” دون أن يقدم حلولا ولا مبادرات عملية دعمًا لهذا التوجه، فرغم حفاظه على نهج أسلافه في التوازن تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، إلا أن مواقفه السياسية اتسمت بالحذر الشديد والدبلوماسية المفرطة، حيث تحاشى اتخاذ أي خطوات ملموسة تدفع باتجاه الاعتراف بالدولة الفلسطينية أو ممارسة ضغط حقيقي على إسرائيل.
وله مواقف واضحة إزاء الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية والقدس، حيث دانه أكثر من مرة، معتبرًا إياه مخالفًا للقانون الدولي ويقوّض فرص السلام، لكنه في الوقت ذاته لم يترجم تلك الإدانة إلى أي عقوبات أو خطوات سياسية، كما لم تُمارس بلاده أي ضغوط حقيقية على تل أبيب لتجميد الاستيطان، مكتفيًا بمسار دبلوماسي ناعم وهادئ ومائع في معظم خطواته.
ثم جاءت حرب غزة الراهنة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 لتكشف النقاب عن حالة الارتباك التي يعاني منها ماكرون في سياسته إزاء القضية الفلسطينية برمتها، فبعد ساعات قليلة من عملية الطوفان أعلنت باريس دعمها الكامل لما أسماه حق تل أبيب في الدفاع عن نفسها، بينما أضاء برج إيفل بألوان العلم الإسرائيلي، كما اقترح تشكيل تحالف دولي ضد “حماس”، على غرار التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة في العراق وسوريا، في الوقت الذي حظرت بلاده أي تجمعات مؤيدة لفلسطين فوق أراضيها.
وبعد أسبوعين فقط من بداية الحرب زار ماكرون القدس تضامنًا مع حليفه الإسرائيلي، ضمن جولة شمل مصر والأردن، مؤكدًا على دعم بلاده المطلق للكيان المحتل، عسكريًا وسياسيًا، مصطفًا مع التوجه الأوروبي الأمريكي في ذلك الحين، منددًا بأي صور للتضامن مع المقاومة الفلسطينية، فيما تبنى الإعلام الفرنسي خطابًا مشيطنًا لحماس وبقية الفصائل.
لكن سرعان ما تغير الموقف الفرنسي من الحرب بعد شهور قليلة، بعدما وصلت إلى مستويات وحشية من الإجرام، وبعدما أجهزت الألة العسكرية الإسرائيلية على ما تبقى من الإنسانية في القطاع المحاصر، داعيًا إلى وقف استهداف المدنيين في غزة، فيما استضافت بلاده مؤتمرًا لجمع التبرعات والمساعدات من أجل الغزيين، ليكون ماكرون أول رئيس يخرج نسبيًا عن الاصطفاف الأوروبي.
وفجأة تحول ماكرون من الرئيس الداعم لتل أبيب في حربها في القطاع إلى الزعيم الأوروبي الأكثر انتقادا للانتهاكات الإسرائيلية في تلك الحرب، ومن المٌطالب بتشكيل تحالف عالمي ضد حماس إلى الداعي للقادة الأوروبيين والولايات المتحدة من أجل الضغط على نتنياهو وجنرالاته لوقف أطلاق النار واللجوء إلى الخيار الدبلوماسي ومائدة المفاوضات، وصولا إلى الإعلان رسميًا عن خطوة الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقبلة وإيداع هذا الاعتراف لدى الأمم المتحدة سبتمبر/أيلول 2025.
لا يمكن النظر إلى هذا التحول اللافت في الموقف الفرنسي على أنه خطوة معزولة عن سياق عام، فهو ليس استفاقة أخلاقية لحقوق الشعب الفلسطيني وحقه في أن يكون له دولة مستقلة وعاصمتها القدس، لكنه استجابة لحزمة من الضغوط الداخلية والخارجية، وتعاطيًا مع مأزق سياسي يعاني منه ماكرون منذ سنوات كان له تأثيره السلبي على نفوذ باريس الإقليمي والدولي.
في نوفمبر/تشرين الثاني 2023 سربت صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية مذكرة موقع عليها 12 سفيرًا فرنسيًا في الشرق الأوسط والمغرب العربي، وأرسلوها إلى الإليزيه، تضمنت إدانة واضحة للانحياز الفرنسي لإسرائيل في تلك الحرب، محذرين من تأثير هذا الموقف على احتمالية إدانة برايس بالتواطؤ في عملية الإبادة التي يقوم بها جيش الاحتلال في غزة، مطالبين الحكومة الفرنسية وماكرون بإعادة النظر في السياسة الخارجية الفرنسية والعودة إلى التوازن مرة أخرى.
الضغوط تصاعدت مع الاحتجاجات الشعبية التي اجتاحت شوارع باريس، فكما أن فرنسا موطنًا لنحو نصف مليون يهودي، فهي كذلك لأكثر من ستة ملايين مسلم من إجمالي 70 مليون شخص يقيمون فوق التراب الفرنسي، تلك التظاهرات التي مثلت ضغطا كبيرًا على ماكرون وحكومته مما أوقعهم في مأزق أخلاقي وسياسي أمام الشارع الفرنسي، خاصة مع إيغال الإسرائيليين في إجرامهم الوحشي بحق نساء وأطفال غزة.
وأمام هذا المشهد المشتعل حيث الرأي العام العالمي الذي بدأت كفته تميل نحو الفلسطينيين لم يكن ماكرون بدًا من كسر حالة الصمت والجمود والتخلي عن الاصطفاف المطلق مع السردية الإسرائيلية، ليعلن وبصورة مفاجئة عن عزم بلاده في الاعتراف بدولة فلسطينية “قابلة للحياة” على حد قوله.
ويحمل هذا الوصف الكثير من التفسيرات التي كشف عنها ماكرون في تصريحات لاحقة ومفسرة لهذا المصطلح، منها ألا تشكل “تهديدًا أمنيًّا” لإسرائيل، وأن تكون منزوعة السلاح، كما يشترط أن تعترف بالكيان الإسرائيلي، مما يجعلها دولة وظيفية مٌستأنسة منزوعة السيادة والاستقلالية، ويُبقيها كيانًا خاضعًا للرقابة الدولية والإسرائيلية، وهو ما يخدم بشكل أو بأخر السردية الصهيونية.
لا يتحرك ماكرون بدافع إنساني أو قانوني بحت، بل تحت ضغط مركب من السياسة الداخلية والواقع الدولي، وثمة دوافع وحسابات سياسية قادته إلى هذه الخطوة –رغم عدم اليقين بعد من تنفيذها رسميًا في سبتمبر/أيلول المقبل- أبرزها امتصاص الغضب الناجم عن الاحتجاجات الداخلية، وتحقيق التوازن في التعاطي مع الجاليتين اليهودية والإسلامية، والحفاظ على مسافات متقاربة ومساحات دافئة مع كل من فلسطين وإسرائيل.
كذلك يحاول ماكرون استعادة النفوذ الفرنسي في الشرق الأوسط، خاصة بعد التراجع الفاضح لباريس في العديد من الملفات الإقليمية، أبرزها السوري واللبناني، علاوة على مساعي وضع فرنسا على الخارطة العالمية مجددًا بعد الضربات التي تلقتها في معاقل نفوذها الخارجي لاسيما في أفريقيا والساحل تحديدًا.
بجانب التماهي مع المزاج الغربي، الصاعد حديثًا، نحو دعم حقوق الشعب الفلسطيني، والاعتراف بالدولة الفلسطينية، أسوة بالتحركات الأوروبية الأخيرة التي قادتها إسبانيا وأيرلندا والنرويج، وهي البلدان التي اعترفت رسميًّا بدولة فلسطين في مايو/ أيار 2025 وشكلت ضغطا على المجتمع الدولي.
أخيرًا.. يأتي الخطاب الفرنسي ، في معظمه، إزاء القضية الفلسطينية، متوازنًا، وإن كان مترددًا أغلب المحطات، مستمسكًا بالعقيدة الفرنسية الراسخة، التي تتخذ من الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع طرفي الصراع مسارًا مٌحددًا لها، متأرجحًا بين الميل هنا وهناك، وإن لم يٌترجم في أي من محطاته بإجراءات ملموسة عمليًا، مدفوعًا بالتطورات السياسية المعقدة التي تشهدها المنطقة والخارطة الدولية، وإن كان خطها الأغلب يعزف – وبمنطق برغماتي بحت- على وتر الانحياز نحو السردية والأهداف الإسرائيلية المدعومة بثنائية المصالح ومواقف القوى الكبرى.