في خريطة الصراعات المعقّدة في الشرق الأوسط، لا تكتفي إسرائيل بمواجهة خصومها المباشرين عبر المواجهة العسكرية أو الصدام السياسي، بل تعتمد على استراتيجية أعمق وأكثر صمتًا وتأثيرًا؛ تتمثل في توسيع دائرة النفوذ من خلال التحالف مع بعض الدول غير العربية من جهة، ومع الأقليات الدينية والعرقية المحيطة بخصومها المركزيين من جهة أخرى.
هذه العقيدة، التي باتت تُعرف في الأدبيات السياسية الإسرائيلية بـ”عقيدة المحيط”، ظهرت منذ اللحظة الأولى لقيام الدولة العبرية عام 1948، كوسيلة لتجاوز العزلة الجغرافية والسياسية التي فرضتها الدول العربية.
لم تكن هذه العقيدة مجرد سياسة خارجية عابرة، بل شكّلت جزءًا جوهريًا من بنية التفكير الأمني الإسرائيلي، إذ سعت من خلالها تل أبيب إلى استثمار الهويات الفرعية داخل الدول العربية، ليس فقط لكسر عزلتها، بل لخلق شبكات نفوذ وتأثير تتجاوز الجغرافيا وتخترق البنى الداخلية للدول.
بن غوريون.. ونشأة “عقيدة المحيط”
في أعقاب إعلان قيام إسرائيل عام 1948، وجدت الدولة الوليدة نفسها محاطة بدول عربية متحالفة ترفض وجودها، بينما تفتقر هي إلى العمق الاستراتيجي والموارد البشرية الكافية لخوض مواجهة طويلة.
هذا الواقع دفع دافيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، إلى تبني عقيدة أمنية مزدوجة؛ تتمثل في بناء تفوق عسكري ساحق بدعم من القوى الغربية، وتشكيل شبكة تحالفات مع دول غير عربية في محيط المنطقة لكسر العزلة واحتواء الخطر العربي.
هكذا وُلدت “عقيدة المحيط”، وهي سياسة خارجية اعتمدت على التقارب مع دول إسلامية غير عربية مثل تركيا وإيران (قبل الثورة) وإثيوبيا، انطلاقًا من قناعة بأن هذه الدول تشترك مع إسرائيل في الخوف من القومية العربية والتمدد الناصري، وأن تحالفها مع تل أبيب يصب في مصلحة استقرارها الإقليمي ومصالحها الدولية.
ويُعد الباحث الإسرائيلي باروخ أوزيل أول من نظّر لهذه العقيدة بشكل علني في كتابه الشهير “تحالف المحيط: سياسة مقترحة لإسرائيل” الصادر عام 1956، الذي رأى فيه أن إسرائيل يجب أن تحاكي سياسة الاحتواء الأميركية للاتحاد السوفيتي عبر بناء تحالفات سرية مع دول هامشية في الشرق الأوسط لمواجهة المشروع القومي العربي بقيادة جمال عبد الناصر.
واعتمادًا على وثائق إسرائيلية رُفعت عنها السرية، يكشف الباحث جان سمعان أن تل أبيب نسّقت عسكريًا واستخباراتيًا مع تركيا وإيران، وذهبت إلى دعم أنقرة في أزمة قبرص، مقابل وقوف عبد الناصر إلى جانب الانفصاليين القبارصة اليونانيين. كما اعتبرت إسرائيل وتركيا أن الوحدة المصرية السورية (1958–1961) تهديد مشترك، خاصة مع تواجد جيش مصري مدرّب على حدود البلدين، مما عزز الحاجة إلى نظرية “عقيدة المحيط”.
لم تكن عقيدة المحيط مجرد سياسة ظرفية، بل شكّلت حجر الزاوية في الرؤية الإسرائيلية للأمن الإقليمي لعقود، وظلت تلقي بظلالها على خيارات تل أبيب في التعامل مع مكونات المنطقة، خصوصًا الأقليات والجماعات غير العربية.
عقيدة المحيط.. بنسخة جديدة
لم تبقَ “عقيدة المحيط” التي أسس لها بن غوريون مجرد سياسة عابرة أو تكتيكًا مرحليًا، بل شهدت تطورًا استراتيجيًا ملحوظًا مع تغير التوازنات الدولية والإقليمية في العقود الأخيرة.
هذا التطور لم يأتِ فقط نتيجة التحولات في مواقف دول الطوق أو تغير هوية الخصوم، بل استجابة واعية من المؤسسة الأمنية الإسرائيلية لإعادة إنتاج العقيدة القديمة بما يضمن استمرار الهيمنة في مرحلة ما بعد الحرب الباردة ومرحلة ما بعد الثورات العربية.
وفي مقابلة مهمة أجراها ضابط الاستخبارات الإسرائيلي السابق دافيد بن عوزيل مع صحيفة يديعوت أحرونوت، كشف عن الملامح الجديدة لما يمكن وصفه بـ”عقيدة المحيط المحدّثة”، والتي باتت ترتكز بحسب بن عوزيل على ركيزتين أساسيتين:
الحزام الأول: يقوم على إشعال الصراعات بين الدول العربية وجيرانها غير العرب، مثل تركيا وإيران، بهدف إضعاف هذه الدول واستنزاف طاقاتها في معارك إقليمية جانبية لا تصب في مصلحة القضية الفلسطينية أو وحدة الصف العربي، بل تصب في مصلحة إسرائيل من حيث إزاحة الضغط عنها وتفكيك خصومها.
الحزام الثاني: يتجسّد في استغلال الأقليات الإثنية والدينية في المنطقة، خصوصًا تلك المحيطة بإسرائيل أو القريبة منها، عبر عزلها عن محيطها الطبيعي وربط أمنها ومصالحها بإسرائيل، لتصبح هذه الأقليات حليفًا موضوعيًا لتل أبيب، مدفوعة بالخوف من محيطها أو الشعور بالاضطهاد.
هذا التحول الاستراتيجي في العقيدة الإسرائيلية يلتقي بشكل غير مباشر مع الرؤية النقدية التي قدّمها المفكر المصري عبد الوهاب المسيري في موسوعته المرجعية “اليهود واليهودية والصهيونية“. فقد أشار المسيري إلى أن المشروع الصهيوني يقوم على ركيزتين:
الأولى: البلقنة، أي تفكيك الدول العربية إلى كيانات صغيرة متنازعة يسهل التحكم بها.
الثانية: ربط المصالح الاقتصادية للدول المجاورة بإسرائيل، بما يجعل التبعية الاقتصادية وسيلة من وسائل النفوذ الدائم.
وفي هذا السياق، يرى المسيري أن العالم العربي قد تم تقسيمه في العقل الاستراتيجي الإسرائيلي إلى أربع دوائر جيوسياسية، مع رسم سياسات خاصة للتعامل مع كل دائرة على حدة لضمان تفوق إسرائيل واستقرارها وسط محيط مضطرب.
فعلى سبيل المثال، تشمل الدائرة الأولى منطقة الهلال الخصيب (سوريا، العراق، الأردن)، حيث يتم الدفع نحو تقسيم سوريا إلى كيانات طائفية وعرقية: دولة علوية على الساحل، وسنية في الشمال والجنوب، ودرزية في الجولان، بما يعكس رؤية لتفكيك المجتمع السوري من الداخل.
ويذكر المسيري أن العراق، وفق الرؤية الإسرائيلية، ينبغي أن يُقسم إلى ثلاث دول: شيعية في الجنوب، سنية في الوسط، وكردية في الشمال، على أن تُبقى الثروة النفطية تحت مراقبة مشددة لمنع تحوّلها إلى مصدر قوة لأي من هذه الكيانات.
ولبنان بدوره يتم تصويره ككيان هش يمكن تقسيمه إلى خمس مناطق طائفية، بما ينسجم مع هشاشته التاريخية وضعف بنيته المركزية.
أما الدائرة الثانية، فتضم مصر والسودان، حيث يتركز الجهد الإسرائيلي على تقويض موقع مصر التاريخي والرمزي كقائدة للعالم العربي، من خلال إثارة التوترات الطائفية الداخلية، وإضعاف مركزية الدولة، ودفعها نحو نموذج الدولة الفاشلة أو الضعيفة التي لا تملك زمام المبادرة.
إسرائيل تراهن مجددًا على الأقليات
مع سقوط النظام السوري وبروز تحالف إقليمي جديد يضم كلاً من سوريا وتركيا ودول الخليج، وعلى رأسها السعودية، بدأت تل أبيب تنظر بقلق إلى هذا الاصطفاف العربي ـ الإقليمي الذي قد يعيد الاعتبار إلى مركزية الدولة السورية ووحدة الجغرافيا السياسية في المشرق. في هذا السياق، بدأت إسرائيل تعيد التفكير مجددًا في إحياء تحالف “الأقليات”، الذي شكّل إحدى ركائز عقيدتها الأمنية منذ نشأتها.
وفي خطاب لافت ألقاه وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر بعد حرب لبنان وسقوط النظام السوري، قال: “في منطقة سنكون فيها دائمًا أقلية، يمكننا أن نقيم تحالفات طبيعية مع أقليات أخرى”. مضيفًا أن على إسرائيل أن “تمد يدها إلى الكرد والأقليات الإقليمية الأخرى، والذين يُعدّون حلفاء طبيعيين لإسرائيل”، لما في ذلك من “فوائد سياسية وأمنية”، داعيًا إلى تعزيز التواصل مع الدروز في سوريا ولبنان.
لم يكن هذا الطرح جديدًا في الفكر الاستراتيجي الإسرائيلي، فقد قامت إسرائيل تاريخيًا بمحاولات لاختراق محيطها العربي عبر الأقليات، إذ دعمت المسيحيين في جنوب السودان، ووطدت علاقاتها بالدروز، ونسّقت مع الموارنة في لبنان، وشكلت صلات قوية مع أكراد العراق منذ ستينيات القرن الماضي.
وزار الزعيم الكردي الملا مصطفى بارزاني إسرائيل مرتين في 1968 و1973، بعد تلقي الدعم العسكري والميداني والتدريبي من تل أبيب وطهران (في عهد الشاه)، ضمن تحالف ثلاثي ضد الدولة العراقية.
وفي اليوم التالي لسقوط النظام السوري، لم تنتظر إسرائيل طويلاً لتفعّل هذا المسار مجددًا. فخاطب رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الدروز في سوريا مباشرة بقوله: “أرسل أولًا، وقبل كل شيء، يد السلام إلى إخواننا الدروز في سوريا، والذين هم إخوة لإخواننا الدروز الإسرائيليين”.
الدروز.. رأس حربة “عقيدة المحيط”
منذ تأسيس دولة إسرائيل، حرصت النخبة الصهيونية بقيادة بن غوريون على إعادة تشكيل البنية الاجتماعية للفلسطينيين العرب، عبر تفكيك نسيجهم الطائفي والعرقي، واستخدام بعض المكونات كرافعة أمنية داخل المشروع الصهيوني.
وفي هذا السياق، شكّل الدروز العنصر الأبرز في استراتيجية “التمييز الوظيفي”، حيث تم منحهم وضعًا قانونيًا خاصًا، وفرضت عليهم الخدمة الإلزامية في الجيش الإسرائيلي عام 1956، بينما أُعفي منها المسلمون والمسيحيون.
هذا التمييز لم يكن إجراء إداريًا فقط، بل شكّل النواة الأولى لما عُرف لاحقًا في الأدبيات الأمنية الإسرائيلية بـ”حلف الدم”، وهو تحالف رمزي وفعلي يستند إلى مقولة إن الدروز يختلفون عن باقي العرب، وبالتالي يمكن التحالف معهم ضد الأغلبية المسلمة في المنطقة.
وبحسب دراسة بعنوان “تشكيل هوية أقلية متصهينة: الحالة الدرزية في إسرائيل”، فإن ما جرى في خمسينيات القرن الماضي لم يكن مجرد اتفاق عسكري، بل مشروع متكامل لإعادة تعريف الهوية الدرزية داخل فلسطين، وفصلها عن محيطها العربي، وهو ما عبّر عنه بوضوح الباحث الإسرائيلي غابرييل بن دور، الذي يرى أن “الدروز ليسوا عربًا بالمعنى السياسي”، ولذلك يمكن لإسرائيل الوثوق بهم أكثر من أي مكون آخر.
وعادت هذه الرؤية إلى الواجهة مع تصاعد الصراع في السويداء، حيث أبدت القيادات الدرزية في إسرائيل، وعلى رأسها الشيخ موفق طريف، مواقف داعمة بشكل صريح للفصائل الدرزية المسلحة في سوريا، ووجهت انتقادات مباشرة للحكومة الإسرائيلية بسبب ما سمّته “التخلي عن حلف الدم”.
وفي استجابة غير معهودة، شنت إسرائيل ضربات عسكرية على مواقع تابعة للجيش السوري في السويداء، وتوسعت لاحقًا لتشمل رئاسة الأركان في دمشق، في رسالة دعم غير مسبوقة لتلك الفصائل.
بهذا، يتضح أن العقيدة الإسرائيلية في “التحالف مع الأقليات” لم تعد تقتصر على مجرد الاحتواء السياسي، بل باتت تنتج تحالفات أمنية وميدانية، تجعل من الأقليات – وفي مقدمتها الدروز – أدوات فعل مباشر في صلب الصراعات الإقليمية، ورأس حربة في تنفيذ “عقيدة المحيط” بصيغتها الجديدة.