بعد اتفاق وقف إطلاق النار في السويداء، ووسط تقارير تفيد بمقتل أكثر من 814 شخصًا بينهم نساء وأطفال، تصاعد الجدل مؤخرًا حول الوضع الإنساني في المدينة، بعد انتشار روايات متباينة بشأن طبيعة الأوضاع التي يعيشها السكان.
وفي حين تتحدث جهات محلية تتبع لشيخ العقل حكمت الهجري عن حصار يقيّد حركة الإغاثة ويضيّق على المدنيين، تنفي الحكومة السورية هذه الاتهامات، مؤكدة على استمرار دخول المساعدات وتقديم الدعم الخدمي والطبي، بالتنسيق مع منظمات إنسانية محلية ودولية.
وبين التصريحات الرسمية والمزاعم المقابلة، تظهر معطيات ميدانية تشير إلى عراقيل غير مركزية، وقيود متفاوتة على بعض الحواجز التابعة للفصائل الخارجة عن القانون كما تصفها الحكومة، ما أضفى حالة من الغموض على المشهد وأثار تساؤلات حول حقيقة ما يجري على الأرض.
في هذا السياق، يحاول هذا التقرير الوقوف على أبرز الوقائع المتداولة، وعرض العوامل التي أسهمت في تعقيد صورة ما يجري في السويداء خلال الأيام الأخيرة.
حملات إعلامية مضللة
في موازاة التطورات الميدانية الأخيرة في السويداء وعلى مدى الأيام الأخيرة الماضية شهدت المنصات الرقمية موجة غير مسبوقة من المعلومات المضللة حول الوضع الإنساني والخدمي، تغذيها شبكات منظمة من الحسابات الوهمية، وتهدف إلى إعادة تشكيل الوعي العام إزاء ما يجري في المحافظة.
ووفق معطيات متعددة، تصاعد نشاط هذه الحملات بشكل حاد خلال الأسبوع الماضي، حيث وثّقت شبكة التلفزيون العربي ما يزيد عن 800 حساب وهمي شارك في حملة إعلامية مركّزة على مواقع التواصل الاجتماعي، عملت على تأجيج التوترات وتعقيد المشهد السياسي، مستخدمة شعارات طائفية وأخرى تطالب بفصل السويداء عن سوريا.
ولوحظ أن عددًا من هذه الحسابات يدّعي الانتماء للطائفة الدرزية، في حين تبين أن بعضها مرتبط بصفحات مشبوهة من جهات إسرائيلية.
من جهتها، رصدت منصة “سند” للتحقق الإخباري، التابعة لشبكة الجزيرة، أكثر من عشرة ادعاءات مضللة انتشرت خلال 48 ساعة فقط، معظمها عبر منصات “إكس” و”تيك توك” و”فيسبوك”. تنوّعت هذه المواد بين صور قديمة ومقاطع خارجة عن سياقها وتصريحات منسوبة، بما يعزز الانطباع الزائف بوجود حصار مطبق على المدينة.
وزير الإعلام السوري، حمزة مصطفى، وصف هذه الظاهرة بأنها “هجمة إلكترونية منسّقة”، مشيرًا إلى أن الإحصاءات الحكومية تشير إلى وجود نحو 300 ألف حساب نشط تعمل على نشر محتوى مضلل، مصدرها أربع دول رئيسية لم يُكشف عنها رسميًا حتى الآن.
حياة المدنيين واحتياجاتهم الأساسية يجب أن تبقى بمنأى عن أي شكل من أشكال التوظيف السياسي لتحقيق أي أجندات.
ندين بشدة التصرفات المتهورة لبعض المجموعات الخارجة عن القانون، والتي تسعى إلى الاستثمار في الأزمات الاجتماعية والسياسية خدمة لأهداف انعزالية عبر ادعاء وجود حصار تفرضه…
— Hamzah Almustafa (@HmzhMo) July 27, 2025
في ضوء هذه المؤشرات، تبرز حملات التلاعب الرقمي كعامل حاسم في تأجيج الأزمة، وتشكيل رواية إعلامية متداولة على نطاق واسع، ترى في ما يحدث في السويداء حصارًا ممنهجًا من قبل الحكومة، دون التحقق من معطيات الواقع أو تأكيدها بمصادر مستقلة.
الهجري وتغذية خطاب الحصار
تزامن تصاعد هذه الحملة عبر منصات التواصل الاجتماعي مع تبنٍ واضح لفكرة “الحصار” من قبل شخصيات ومنصات إعلام مقرّبة من الشيخ حكمت الهجري، الذي يهيمن على القرار الأمني والاجتماعي في مناطق عدة من المحافظة.
ولعب الإعلام الداعم لهذا الجماعة دورًا مركزيًا في تكريس هذه الرواية، خاصة عبر حسابات ناشطين معروفين مثل الكاتب ماهر شرف الدين، الذي يقود حملة منظمة على منصة “إكس” تدعو إلى “رفع الحصار عن السويداء”، متهمًا الحكومة السورية بممارسة ما وصفه بـ”الابتزاز الإنساني”.
ونشر شرف الدين في هذا السياق عشرات المنشورات التي تدفع باتجاه تدويل الملف، وتفتح الباب أمام تدخلات خارجية، تحت شعار حماية الدروز من “الاضطهاد السنّي”.
ما لم يستطيعوا سرقته أحرقوه. ولأن الشجر لا يمكنهم تعفيشه… قطعوه!
حتى خزانات مياه الشرب سمّموا بعضها كما شهدَ بذلك طبيبٌ وصلته حالات تسمم بالمياه!
إنهم همج العصر، الغزاة الأكثر بهيمية من الحيوانات التي عفّشوها بسياراتهم!#حصار_السويداء— ماهر شرف الدين (@mahersharafeddi) July 28, 2025
كما تم تنظيم وقفة احتجاجية في السويداء، رُفعت خلالها لافتات تطالب بـ”فك الحصار عن المدينة”، وتدعو إلى “تدخل دولي” و”تدخل إسرائيل عسكريًا” و”انفصال السويداء”.
من مظاهرات السويداء: مطالبات بتدخل إسرائيل، وتوجيه الشكر لها ولـ نتنياهو ولوزير الدفاع الإسرائيلي و موفق طريف. pic.twitter.com/sbbie4uKN3
— مُضَر | Modar (@ivarmm) July 28, 2025
وأظهرت صور من الوقفة أن المشاركين هم ذاتهم ممن ظهروا سابقًا في مظاهرات رفعت شعارات تطالب بدولة مدنية في سوريا، في تحوّل لافت في الخطاب والشعارات، يعكس تبدلاً في تغيير توجهات الحركة الانفصالية.
ورغم أن جماعة الهجري لم تتبن رسميًا المظاهرة، إلا أن اتساقها مع موقفها الرافض للإدارة السورية الجديدة، وتزامن الوسائل الإعلامية مع مضمون الوقفة، يعزّز الانطباع بأن الهجري يوظف ملف الإغاثة والضغط الشعبي لتكريس موقعه كمرجعية بديلة عن مؤسسات الدولة.
الرواية الرسمية ومعطيات ميدانية
رغم استعار الحملة من عدة جوانب، تستمر قوافل المساعدات في عبورها نحو السويداء حيث دخلت أربع قوافل مساعدات كان آخرها اليوم حسب وكالة “سانا” مؤلفة من 22 شاحنة تحمل 27000 ليتر محروقات و2000 سلة غذائية و2000 سلة صحية و10000 عبوة مياه شرب و40 طن طحين إضافة إلى مواد طبية.
وكانت قافلة مساعدات دخلت أمس إلى المحافظة مؤلفة من 27 شاحنة، تحمل نحو 200 طن من الطحين، و2000 سلة إيواء، و1000 سلة غذائية، إضافة إلى شاحنتين للمواد الطبية والغذائية، في خطوة اعتُبرت مؤشرًا على استمرار الدعم اللوجستي رغم التوترات.
كما واصل المسؤولون الحكوميون نفيهم القاطع لوجود أي شكل من أشكال الحصار على المدينة، إذ أكدت التصريحات الرسمية أن الدولة السورية تواصل دعم السويداء بكل ما يلزم، بالتنسيق مع منظمات إنسانية محلية ودولية عدة.
وشدد محافظ السويداء، مصطفى البكور، الأحد الماضي على أن قوافل الإغاثة تدخل بشكل يومي عبر طريق بصرى الشام، وأن حركة النقل طبيعية وآمنة، باستثناء بعض العوائق الناتجة عن الأضرار السابقة في البنية التحتية.
وأوضح أن كميات كبيرة من الطحين والمازوت والمستلزمات الطبية وصلت بالفعل، لتلبية الاحتياجات الخدمية والطبية الأساسية.
كما أعلنت وزارة الاقتصاد والصناعة اليوم الثلاثاء استمرار تشغيل جميع المخابز في السويداء بكامل طاقتها الإنتاجية، مؤكدة أنها تعمل بالتنسيق مع المحافظة لضمان توافر مادة الخبز للمواطنين دون انقطاع.
وأشارت الوزارة إلى أن شحنات الطحين تُرسل بشكل يومي إلى المحافظة بالتعاون مع الجهات الحكومية والإنسانية، رغم ما وصفته بالتحديات اللوجستية والظروف المحيطة، مؤكدة في الوقت ذاته أنها تعمل على استقرار عمليات الإنتاج والتوزيع لضمان عدالة وصول الخدمات التموينية إلى جميع المناطق.
من جانبه، وصف وزير الإعلام السوري، حمزة مصطفى، الخطاب المنتشر على مواقع التواصل بـ”المضلل”، مشيرًا إلى أن الحملة الإعلامية تحاول استغلال الملف الإنساني لأغراض سياسية. وأكد أن الدولة لن تتعامل مع حياة المدنيين بوصفها ورقة تفاوض، وأن المعابر الإنسانية لم تُغلق، ولا توجد تعليمات بمنع دخول أي قافلة.
عراقيل ميدانية
ورغم المبادرات المدنية التي أطلقتها جهات شعبية من مختلف المناطق السورية – بينها مبادرة من نشطاء في حلب تضمنت إرسال مساعدات غذائية وطبية إلى السويداء – إلا أن هذه القوافل قوبلت بالمنع عند حواجز تابعة لفصائل مرتبطة بالشيخ حكمت الهجري، وتحديدًا عند حاجز بكا، ما حال دون وصولها إلى المدينة.
ويرى مراقبون أن هذه الإجراءات تندرج ضمن مسعى سياسي لإظهار المحافظة وكأنها تخضع لحصار حكومي خارجي، بما يكرّس الخطاب القائل بعزلها عن الدولة المركزية، ويفتح المجال أمام مطالبة غير مباشرة ببدائل خارجية، مثل الدعوة إلى فتح معبر من جهة الأردن.
مبادرة مدنية من بعض النشطاء بحلب جمعت مواد غذائية ومستلزمات وانطلقت أمس الأحد عدة سيارات للسويداء حيث تم إيقافها ومنعها من الدخول على “حاجز بكا” التابع لمسلحي الهجري. pic.twitter.com/J9yzsBwzIy
— Halab Today TV قناة حلب اليوم (@HalabTodayTV) July 28, 2025
بهذا المعنى، لا يقتصر خطاب “الحصار” على البُعد الإنساني، بل يُوظف أيضًا كأداة لإعادة تشكيل المعادلة السياسية في المحافظة، على نحو يوسّع الفجوة بين المدينة ومؤسسات الدولة، ويعقّد أي مساعٍ لاحتواء الأزمة أو التوصل إلى حلول مستدامة.