ترجمة وتحرير نون بوست
بعد 22 شهرًا من التواطؤ والصمت، يبدو أن وسائل الإعلام الكبرى في الغرب قد استيقظت على الإبادة الجماعية التي تُبث على الهواء مباشرة في قطاع غزة. لكن بالنظر إلى أن هذا التغيير تزامن مع تحول مماثل في خطاب الحكومات الغربية، فإنه لم يُستقبل بالطريقة التي كان ينتظرها إليها الإعلام، ولا ينبغي أن يحدث ذلك.
ربما لاحظتم تحولًا جذريًا في الطريقة التي تتناول بها وسائل الإعلام الغربية الممارسات الإسرائيلية في قطاع غزة. قبل بضعة أشهر فقط، كانت “بي بي سي” و”سكاي نيوز” و”سي إن إن” و”أسوشيتد برس”، وحتى المحللون الأكثر شهرة مثل بيرس مورغان، يصورون الإبادة الجماعية على أنها حرب تشنها إسرائيل دفاعًا عن نفسها ضد حماس.
أما الآن، فتلك الآلة الإعلامية نفسها تتحدى المسؤولين الإسرائيليين، وتتصدى للدعاية الصهيونية، وفي العديد من الحالات، تكشف سياسات تل أبيب على حقيقتها، بما يتماشى مع ما تقوله منظمات حقوق الإنسان وتقارير الأمم المتحدة.
أصدرت “بي بي سي” و”أسوشيتد برس” و”فرانس برس” و”رويترز” يوم الخميس بيانًا مشتركًا أعربوا فيه عن قلقهم على زملائهم الصحفيين في قطاع غزة، مشيرين إلى أن “الصحفيين في غزة يواجهون الآن نفس الظروف الصعبة التي يغطونها في تقاريرهم”.
بينما أشاد البعض بوسائل الإعلام والشخصيات الإعلامية الغربية التي تحوّل موقفها بشكل مفاجئ، أدرك كثيرون ما وراء هذا التحوّل. لذلك من المهم أن نوضح الأسباب التي تدفعنا للقول بأن هذا الموقف مجرد استعراض مهين للغاية.
في البداية، بدا أن التحول المفاجئ في موقف كبرى وسائل الإعلام الغربية له ما يبرره في ظل الحصار الكامل الذي تفرضه إسرائيل على غزة منذ ثلاثة أشهر، والتصريحات الأخيرة التي أدلى بها كبار المسؤولين الإسرائيليين، وخاصة وزير المالية بتسلئيل سموتريتش.
ولكن حتى نعرف ما إذا كانت الأحداث الأخيرة بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير وتسببت في صحوة مفاجئة، فإن علينا أن ننظر إلى مدى صحة الادعاء بأن الوضع على الأرض في غزة قد تغير بشكل كبير.
فيما يتعلق بتصريحات أعضاء بارزين في حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، فإنه من الواضح أن الادعاء بحدوث أي نوع من التغيير اللافت في الخطاب خلال الأشهر الأخيرة هو ادعاء زائف. في الواقع، يكفينا أن نرجع إلى الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولية أواخر ديسمبر/ كانون الأول 2023 للحصول على قائمة كاملة بالتصريحات التي تدل على نية الإبادة الجماعية.
عندما عُقدت جلسات الاستماع في قضية الإبادة الجماعية في محكمة العدل الدولية في يناير/ كانون الثاني 2024، كان أحد أبرز الحجج التي قدمها الفريق القانوني الجنوب الأفريقي إقناعًا هو حقيقة أن الجميع في إسرائيل، بدءا من رئيس الوزراء والرئيس ووزير الدفاع، وصولا إلى كبار الشخصيات الإعلامية، أدلوا بتصريحات تدل على نية الإبادة الجماعية، والتي فسرها الجنود على الأرض كأوامر بارتكاب إبادة جماعية.
في 9 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، أكد وزير الدفاع الإسرائيلي السابق يوآف غالانت أن جيشه يقاتل “حيوانات بشرية” وأنه أمر “بفرض حصار كامل على قطاع غزة. لن يكون هناك كهرباء، ولا طعام، ولا وقود، كل شيء سيكون محظورًا”.
هذا يقودنا إلى السبب الرئيسي التالي الذي يرى البعض أنه يفسر حدوث صحوة جماعية في وسائل الإعلام الغربية، وهو سياسة التجويع الإسرائيلية. نعم، فرضت إسرائيل حصارًا كاملًا على غزة لأكثر من 80 يومًا، لكن التحول الإعلامي لم يحدث مباشرة بعد قرار إسرائيل انتهاك اتفاق وقف إطلاق النار من جانب واحد.
لا شك أن عدد الأشخاص الذين يموتون جوعًا في قطاع غزة قد وصل إلى مستويات غير مسبوقة، ولكن الفترة الحالية ليست أكثر الفترات دموية من حيث عدد من الوفيات اليومية في القطاع.
والحقيقة أن سياسة التجويع في غزة ليست أمرًا جديدًا، رغم أن البعض قد يزعم أنه من الواضح هذه المرة أن التجويع نتيجة لنهجٍ أكثر تعمدًا.
هذا الرأي يتجاهل حقيقة أنه في أبريل/ نيسان 2024، أصدرت منظمة “بتسيلم”، أبرز منظمة حقوقية إسرائيلية، تقريرًا بعنوان “صناعة المجاعة”، اتهمت فيه إسرائيل بتنفيذ سياساتٍ متعمدة تهدف إلى إحداث مجاعة في القطاع. بدأت تلك الحقيقة تتكشف للعالم مما أجبر الإسرائيليين في النهاية على السماح بدخول بعض المساعدات إلى غزة. ثم نأتي إلى التصريحات التي تناشد إسرائيل السماح بدخول المساعدات إلى غزة، والتعبير عن القلق بشأن الصحفيين في القطاع.
دعونا نتناول تصريحات “بي بي سي” و”أسوشيتد برس” و”فرانس برس” و”رويترز”، ودعونا نتأمل مجددا فكرة أن صحفيي غزة “يواجهون الآن نفس الظروف الصعبة التي يغطونها في تقاريرهم”.
لو نُشر هذا قبل 22 شهرًا لكان صحيحًا. هل بدأ صحفيو القطاع يعانون “الآن” فقط من نفس الظروف الصعبة التي يغطونها في تقاريرهم؟ كلا، لقد عانوا تمامًا مثلما يعاني بقية سكان القطاع منذ بداية الإبادة الجماعية.
لا يحتاج هؤلاء الصحفيون إلى بيانات تعبر عن القلق، بل يستحقون اعتذارًا من “بي بي سي” و”رويترز” و”أسوشيتد برس” و”فرانس برس” على التقارير المروعة التي نشروها منذ بداية الإبادة الجماعية، والتي سعت في كثير من الحالات إلى تبرئة إسرائيل وتبرير أفعالها.
قتلت إسرائيل ما لا يقل عن 217 صحفيًا فلسطينيًا منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، مما يجعل الحرب في غزة الأكثر دموية بالنسبة للصحفيين في تاريخ البشرية. هذا يعني أن عدد الصحفيين الذين قُتلوا أثناء تغطيتهم للإبادة الجماعية في قطاع غزة يفوق عدد الذين لقوا حتفهم في الحرب العالمية الثانية وحرب فيتنام مجتمعين.
وإذا ما قارنا التحول في تغطية كبرى وسائل الإعلام الغربية للحرب في غزة، بالتغيير في خطاب حكوماتها، أو على الأقل الأحزاب السياسية الكبرى التي تتوافق معها، يمكن أن نفهم حقيقة ما يحدث.
كانت هيلاري كلينتون واحدة من مؤيدي كذبة “عمليات الاغتصاب الجماعي التي نفذتها حماس”، والتي استُخدمت لتبرير استمرار ذبح المدنيين بذريعة ملاحقة حماس، رغم عدم وجود أي دليل يدعم هذا الادعاء. والآن تدعو هيلاري كلينتون إلى إدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة.
أدلى رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر أيضًا بتصريحات دعا فيها إلى إنهاء المعاناة في غزة، وحثّ إسرائيل على السماح بتدفق المساعدات دون قيود إلى القطاع المحاصر، لكنه في الوقت نفسه يواصل بيع مكونات الأسلحة للجيش الإسرائيلي، ويعاقب النشطاء البريطانيين الذي يحاولون غلق شركات الأسلحة المتورطة في الإبادة الجماعية.
يكفي القول بأن هذا كله ليس حقيقيًا، كله مجرد تمثيل. لماذا؟ يعود ذلك إلى أسباب مختلفة. الأول هو أن حجم المجاعة التي تعاني منها غزة أصبح ينعكس سلبًا على صورة حلفاء إسرائيل. فعلى عكس القصف، لا يوجد أي مبرر لمنع وصول الغذاء إلى السكان المدنيين.
ثم هناك جانب آخر يفسر قيام الحكومات ووسائل الإعلام الغربية بموقف استعراضي؛ حيث يسود شعور بأن الإبادة الجماعية في مراحلها النهائية، لذلك تصدر الحكومات بيانات جوفاء دون اتخاذ إجراءات ملموسة، بينما تحاول وسائل الإعلام الغربية إنقاذ صورتها المشوهة.
لقد شاهد العالم أجمع كل وسائل الكبرى التي كانت تُعتبر في السابق معيارًا للمهنية في عالم الصحافة، تكذب كذبًا صارخًا وتعمل كملحق تابع لوزارة الخارجية الإسرائيلية. لكي تنقذ سمعتها، فإن عليها الآن أن تتظاهر بكشف الممارسات الإسرائيلية.
هذا يفتح لها الباب للبدء بصياغة حدود الخطاب المقبول حول هذه القضية، بعد أن خرجت عن سيطرتها بوضوح. من اليمين إلى اليسار، وصولا إلى غير المنتمين سياسيًا، أصبح كبار المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي والمراسلون المستقلون يقارنون إسرائيل بالنازيين، ويصفون ما يحدث في غزة بالإبادة الجماعية.
قبل عام واحد فقط، كانت هذه المقارنات تُعتبر غير مقبولة اجتماعيًا. أما الآن، فقد أصبح من الطبيعي تشبيه بنيامين نتنياهو بأدولف هتلر. لقد سقط القناع عن الحكومات الغربية وأذرعها الإعلامية التجارية، ولا يمكن أن يحجب تغير موقفها بشكل مفاجئ حقيقة تورطها في إبادة غزة.
على أقل تقدير، يجب عليهم جميعا أن يعتذروا، ليس لجمهورهم الذي خذلوه وكذبوا عليه، بل للفلسطينيين الذين نجوا حتى الآن من هذه المحرقة.
المصدر: فلسطين كرونيكل