رغم أن مشهد المجاعة في قطاع غزة بات العنوان الأبرز للحصار القاتل الذي تفرضه سلطات الاحتلال منذ سنوات، واشتدّت وطأته مع حرب الإبادة الجارية، وبلغ ذروته بإغلاق المعابر كليًا مطلع مارس/آذار بعد انقلاب حكومة الاحتلال على مسار التهدئة؛ إلا أن تداعيات هذا الحصار تتجاوز الجوع لتطاول كل جوانب الحياة، حتى باتت تمس قدرة الغزيين على البقاء أصلًا، لا مجرد الصمود.
وفي حين تسجّل الإحصاءات الرسمية أعداد الضحايا الذين يسقطون تحت القصف المباشر أو يموتون جوعًا، تغيب عن السجلات أشكال أخرى من الموت البطيء وغير المرئي، والتي تمثل امتدادًا مباشرًا لسياسات الحصار وأدوات الإبادة. وهو ما يجعل الأرقام الحقيقية للضحايا أكبر بكثير من تلك المُعلنة في بيانات وزارة الصحة أو المؤسسات الأممية.
يُعد القطاع الدوائي والمعدات الطبية أحد أكثر الجوانب حساسية في هذه المأساة، إذ يفرض الاحتلال حصارًا مطبقًا يمنع بموجبه دخول أي إمدادات طبية إلى القطاع المنكوب، في ظل استنزاف لحظي غير مسبوق لموارد النظام الصحي.
هذا الاستنزاف ناجم عن آلة القتل الإسرائيلية المتواصلة، وآثار الجوع وسوء التغذية التي تضعف المناعة العامة، إضافة إلى منع سفر المرضى للعلاج في الخارج، ما يُحمّل المنظومة الصحية المدمّرة – نتيجة الاستهداف الإسرائيلي الممنهج – أعباء فوق طاقتها، بعد أن خرجت غالبية المستشفيات عن الخدمة الفعلية.
كارثة دوائية تتجاوز الأرقام والإحصائيات
لم يعد واقع القطاع الدوائي في غزة مجرّد أزمة صحية عابرة، بل تحول إلى انهيار شامل يتجاوز حدود الأرقام والبيانات الرسمية، ففي ظل الحصار الإسرائيلي المشدد، والدمار الواسع الذي طال البنية الصحية خلال حرب الإبادة المستمرة، يقف النظام الصحي عاجزًا عن توفير الحد الأدنى من الرعاية المنقذة للحياة، في واحدة من أكثر الكوارث الطبية قسوةً في العصر الحديث.
تُظهر الإحصاءات الصادرة عن وزارة الصحة أن نحو 47% من قائمة الأدوية الأساسية نفدت بالكامل، فيما بلغ النقص في المستهلكات الطبية 65%، وسط استنزاف شبه كلي لأدوية الطوارئ والعناية المركزة والعمليات الجراحية، أما أدوية صحة الأم، فقرابة نصفها لم يدخل القطاع منذ أكثر من ثلاثة أشهر، وتم منع دخول أكثر من 190 شاحنة طبية تابعة لصندوق الأمم المتحدة للسكان، ما زاد الوضع سوءًا.
ناشط كويتي مرافق للوفد الطبي الكويتي يصوّر حال مستودعات الأدوية في مجمّع ناصر الطبي في خان يونس في #غزة، حيث أحرقها الاحتلال قبل انسحابه#غزة_الآن #غزة_تحت_القصف pic.twitter.com/ibz2QpuzQu
— نون بوست (@NoonPost) May 2, 2024
هذا الانهيار أصاب الفئات الأشد ضعفًا بمقتل، فخدمات الرعاية الأولية غابت عن أكثر من 80 ألف مريض سكري و110 آلاف مريض بضغط الدم، بينما نفدت 64% من أدوية أمراض الدم والسرطان، وتُشير البيانات الرسمية إلى أن 41% من مرضى الفشل الكلوي فارقوا الحياة نتيجة تعذر حصولهم على جلسات غسيل الكلى المنتظمة، وسط عجز كارثي في خدمات القسطرة القلبية وجراحة القلب بنسبة 99%.
أما الأطفال، فليسوا بمنأى عن الخطر، إذ انقطعت 42% من لقاحات الطفولة الأساسية، ومنها لقاح شلل الأطفال، ما ينذر بتفشي أوبئة مميتة وسط بيئة نازحين مكتظة، تفتقر إلى الماء النظيف والصرف الصحي، كما أدى غياب أدوية الأمراض الجلدية – كالجرب والالتهابات – إلى تفشي العدوى داخل العائلات والمخيمات، حيث تُستخدم بدائل موضعية محدودة وبفعالية متدنية.
وفي ظل هذه البيئة الكارثية، تصاعدت أيضًا المعاناة النفسية، إذ أدى انقطاع أدوية الأمراض العصبية والنفسية إلى تفاقم النوبات والانهيارات، بينما تتزايد أعداد الحالات النفسية الجديدة جرّاء الصدمة، وفقدان الأمان والمأوى، ومشاهد الموت اليومية.
حتى الفرق الصحية الدولية العاملة في غزة لم تسلم من هذا الانهيار، إذ بدأت بتقنين أدويتها، واستخدام بدائل أقل فاعلية، وصولًا إلى إيقاف بعض العلاجات، مع قرب نفاد أدوية التخدير، والمضادات الحيوية، ومسكنات الألم الأساسية، وذلك وفقًا لتقارير رسمية صادرة عن المؤسسات الصحية الدولية.
قالت وزارة الصحة في #غزة إن 55 ألف حامل محرومات من الأدوية اللازمة لمتابعة الحمل، في ظل نظام صحي ينهار تحت الحصار والقصف
🔸 60 ألف امرأة يعانين من سوء تغذية وجفاف ونقص رعاية طبية، ما يزيد من خطر المضاعفات
🔸 ارتفاع مقلق في حالات الإجهاض والولادة المبكرة بسبب نقص الفيتامينات… pic.twitter.com/wfcE4Fo8W5
— نون بوست (@NoonPost) July 10, 2025
بناءً على هذه المعطيات، تُقدّر منظمة الصحة العالمية أن ما بين 11,000 إلى 13,000 مريض، بينهم 4,500 طفل، بحاجة ماسة للإجلاء الطبي العاجل – وهي حاجة لا تحتمل التأجيل، في ظل غياب أي قدرة علاجية محلية تُلبّي الحد الأدنى من الرعاية.
ولا يمكن توصيف ما يجري إلا بأنه إعدام بالصمت، وقتل بطيء للمرضى عبر منع العلاج وتجفيف الشريان الطبي لحياة المدنيين، في سياسة منظمة تُستخدم فيها الأدوية كسلاح، والحصار كوسيلة للإبادة الجماعية البطيئة، بعيدًا عن ضجيج القصف، ولكن بنفس القسوة، إن لم تكن أشد.
الحصار الدوائي كسلاح إبادة ممنهج
لا يمكن فهم الانهيار الصحي والدوائي في قطاع غزة خارج سياق الحرب الشاملة التي تشنها “إسرائيل” على القطاع، والحصار المتواصل منذ عام 2007، والذي بلغ ذروته منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، فالإجراءات الإسرائيلية تجاه القطاع الصحي لم تكن مجرد انعكاس عارض لظروف الحرب، بل استقرت كسياسة ممنهجة تستخدم الدواء كسلاح حرب صامت، ضمن أدوات إبادة تدريجية تستهدف البنية المجتمعية الفلسطينية في جوهرها. وفي هذا الإطار، تُظهر ورقة موقف صادرة عن جمعية العودة الصحية والمجتمعية أن هذا التوجه يتمظهر عبر ثلاث مستويات مترابطة:
- التجفيف المنهجي للمخزون الدوائي
فرضت سلطات الاحتلال قيودًا صارمة على دخول الأدوية والمستلزمات الطبية، حتى خلال فترات التهدئة، ما تسبب في استنزاف المخزون الدوائي للمستشفيات والمراكز الصحية، كما منعت إدخال الشحنات الطبية الأممية، بما فيها الشحنات الخاصة بالحوامل والرضّع ومرضى الاضطرابات النفسية، مما أسهم في مضاعفة الأزمة حتى قبل الدخول في فصولها الأشد قسوة.
- استهداف البنية التحتية الصحية
لم يقتصر الأمر على الحصار، بل ترافقت القيود مع استهداف مباشر وغير مباشر للمشافي والمراكز الصحية والمستودعات الدوائية، ما أدى إلى تدمير مئات المرافق الصحية، وإخراج معظم المستشفيات الكبرى عن الخدمة، وقد فاقم ذلك من عجز الطواقم الطبية عن تقديم الرعاية الفائقة لجرحى الحرب أو المرضى المزمنين والخطرين.
- تحييد المجتمع الدولي وخلق عجز أممي
رغم إدراك المنظمات الدولية لحجم الكارثة الصحية، إلا أن جهودها لفك الحصار أو إدخال الأدوية العاجلة باءت بالفشل، فبعض هذه المنظمات اضطرت إلى تقنين أدويتها داخل القطاع، وتعليق العديد من العمليات الجراحية، والاكتفاء بالمسكنات والبدائل منخفضة الفاعلية، وهو ما يعكس تراجع النظام الدولي من موقع الحماية والمسؤولية، إلى موقف المتفرج العاجز عن فرض الحد الأدنى من الاستجابة.
وتخلص الورقة إلى أن هذا الواقع لا يُمكن عزله عن قرار سياسي–عسكري اتخذته “إسرائيل”، يقوم على استخدام الحصار الدوائي كأداة استراتيجية لتفكيك المجتمع الفلسطيني، ودفع سكان غزة إلى الاستسلام، أو الموت البطيء بصمت.
في غزة اليوم، الإصابة أو المرض لم تعد مجرد خطر على الحياة، بل أصبحت في حد ذاتها حكمًا بالإعدام المؤجل، تُصدره منظومة الحصار عبر حرمان المصاب من الحد الأدنى من العلاج، وتركه يواجه مصيره في نظام صحي مُدمّر، بلا دواء، ولا أدوات، ولا حتى فرصة للنجاة.
الأدوية منتهية الصلاحية: خيار اضطراري
لا تقتصر الأزمة الدوائية في قطاع غزة على النقص أو الانعدام، بل تمتد إلى مشهد أشد خطورة يتمثل في اللجوء القسري إلى استخدام الأدوية منتهية الصلاحية، في ظل تلاشي أصناف الدواء من الصيدليات والمستودعات، وغياب البدائل، واستمرار الحصار الخانق. هذا الخيار – وإن بدا اضطراريًا – يحمل في طياته مخاطر صحية جسيمة، ويفتح الباب أمام أزمات صحية جديدة قد تفوق في خطورتها المرض الأصلي ذاته.
تنعكس هذه الكارثة الصحية بشكل خاص على أصحاب الأمراض المزمنة والمصابين، الذين يحتاجون لاستكمال وصفاتهم الدوائية بشكل منتظم لتجنب الانتكاسات، ويتفاقم الخطر مع تدهور الحالة التغذوية للسكان، وانخفاض المناعة، وتفشي الأمراض المعدية في بيئة نزوح مكتظة، تُعاني من انعدام النظافة وتلوث المياه والهواء، ما يجعل الحاجة للمضادات الحيوية وأدوية الجلدية والالتهابات الفطرية شديدة الإلحاح، خصوصًا بين الأطفال.
في ظل هذا الواقع، اضطر العديد من المرضى لتناول أدوية منتهية الصلاحية، دون إدراك للفوارق الدقيقة بين المقبول والخطر من هذه الأدوية وفقًا للمعايير العلمية. وفي هذا السياق، حذر الصيدلاني مهند جمال في حديثه لـ”نون بوست”، من خطورة الاجتهاد الشخصي في تناول الأدوية منتهية الصلاحية، مشددًا على ضرورة الرجوع إلى مختصين لتقييم مدى صلاحية الدواء، وأوضح أن بعض الأدوية قد تفقد فعاليتها دون أن تسبب ضررًا مباشرًا، بينما قد يؤدي بعضها إلى تسمم حاد ومضاعفات صحية خطيرة.
وبيّن جمال أن غياب الدواء المنتظم قد يقود إلى عواقب قاتلة، خصوصًا لدى مرضى ضغط الدم المعرضين للجلطات، ومرضى السكري الذين قد يُصابون بغيبوبة، أو مضاعفات تؤدي إلى فشل كلوي أو فقدان البصر، ما يجعل غياب الأدوية تهديدًا مباشرًا للحياة.
استهداف الاحتلال الإسرائيلي للنظام الصحي في #غزة ليست عشوائيًا، بل جزء من استراتيجية أوسع لجعل القطاع غير صالح للحياة بالنسبة للفلسطينيين وذلك تماشيًا مع حملة التطهير العرقي والإبـ،ـادة الجماعية pic.twitter.com/LyW5rDB7xJ
— نون بوست (@NoonPost) July 25, 2025
أما الدكتور الصيدلاني ذو الفقار سويرجو، أحد أبرز الصيادلة في غزة، فشارك على صفحته نصائح فنية وصفها بأنها “لفتة دوائية هامة من خبير دوائي لمدة 40 عامًا”، أوضح فيها أنه رغم انتهاء صلاحية العديد من الأدوية، فإن بعضها قد يُستخدم بشروط، منها: أن لا يتغير لون الحبة، ولا يكون الشريط منتفخًا، وأن تكون الحبة متماسكة دون رائحة غريبة، لكنه شدد في المقابل على خطورة استخدام بعض الأصناف بعد انتهاء صلاحيتها نهائيًا، مثل المضادات الحيوية، والفيتامينات، والهرمونات، التي تتعرض لتحلل كيميائي قد يسبب ضررًا جسيمًا.
من جهته، أوضح الدكتور زكريا أبو قمر، القائم بأعمال مدير عام الصيدلة في وزارة الصحة بغزة في تصريحات صحفية، أن اللجوء لتمديد صلاحية الأدوية “إجراء عالمي” معمول به في ظل الظروف القاهرة، وقد كانت الوزارة تطبقه حتى قبل الحرب الحالية بفعل الحصار المستمر منذ 2007، إلا أن الاعتماد عليه تضاعف مؤخرًا، وشدد على أن هذا الإجراء يخضع للرقابة من لجنة فنية مختصة في وزارة الصحة، ويتم بعد فحص دقيق، وإصدار لاصق جديد يوضح تاريخ الصلاحية المعدل.
ووجّه أبو قمر تحذيرًا للأهالي من اللجوء إلى استخدام أدوية منتهية بناءً على اجتهادات شخصية، أو الحصول عليها من صيدليات دون إشراف وزارة الصحة، لما يشكله ذلك من تهديد مباشر على حياتهم.
وأوضح أيضًا أن خدمات رئيسية مثل الرعاية الأولية، وجراحة القلب، وغسيل الكلى، والقسطرة، تعيش في حالة شلل جزئي أو كامل نتيجة النقص الدوائي، وأن استمرار هذا الوضع يهدد بتوقف هذه الخدمات تمامًا، مما سيعرض حياة آلاف المرضى والجرحى إلى الخطر المباشر.
ورغم إدراك العديد من المرضى للمخاطر الجسيمة التي ينطوي عليها استخدام الأدوية منتهية الصلاحية، إلا أن بعضهم، وخاصة المصابين بالأمراض المزمنة، يجدون أنفسهم مضطرين لخوض مغامرة محفوفة بالخطر، أملاً في تأجيل الانتكاسة الصحية المحتومة نتيجة انقطاع العلاج. هذا ما عبّر عنه السيد عبد الجليل محمد، أحد مرضى القلب المزمن، في حديثه لـ”نون بوست”، قائلاً: “النتيجة صعبة في كل الأحوال، ولكن ربما تُفلح المحاولة… أعرف أن هناك خطورة، لكن لا خيار آخر أمامي”.
في النهاية، وأمام هذا الواقع المأساوي، يجد المريض والمصاب في قطاع غزة نفسه أمام شكل جديد من أشكال الموت؛ موت لا يُعلَن بصوت القصف، بل يتسلل بصمت عبر الدواء المنتهي، والعلاج المفقود، والخيارات المعدومة. في إبادة مركّبة، تُمارس بأدوات متعددة: القتل، التجويع، التسميم، والتجفيف، في ظل غياب كامل للدواء ووسائل الطبابة، ووجود عدو لا يترك مسارًا لإبادة شعب إلا وسلكه.
وفي المقابل، يقف العالم صامتًا أو متواطئًا، يُدير ظهره لهذه المجزرة المفتوحة، يُمارس الانتقائية والنفاق، ويُفرّق بين الضحايا بعيون المصالح. إن ما يُبث على شاشات البث المباشر، وما تنقله وسائل التواصل الاجتماعي من صور الموت والمعاناة، لم ينجح بعد في قرع جدران الخزان العالمي، ولا في إيقاظ ضمير البشرية أمام جريمة إبادة تُرتكب على الهواء مباشرة، دون قيد أو حساب.