أعلن المتحدث باسم جيش الاحتلال عن تدشين مسارات وصفها بـ”الآمنة” لدخول المساعدات، وعودة العمل بنظام الإسقاط الجوي، إلى جانب ما سُمِّي بـ”التهدئة الإنسانية” في التجمعات الثلاثة الرئيسية التي حُشر فيها سكان قطاع غزة.
شكّل هذا الإعلان خطوة لافتة، جاءت عقب ما يمكن اعتباره انتكاسة في مسار مفاوضات التهدئة، على أثر التصريحات التصعيدية الأمريكية والإسرائيلية التي خالفت كل التوقعات، بعد الأجواء الإيجابية التي نقلها الوسطاء إلى قوى المقاومة، وفي مقدمتها حركة حماس.
ورغم أن الإعلان عن إدخال المساعدات تزامن مع تصاعد التغطية الإعلامية الدولية لمشاهد المجاعة في قطاع غزة، إلا أن توقيته لا يمكن فصله عن الخطط العدوانية الإسرائيلية المتوقعة، والتي يبدو أنها تُستخدم كبوابة للتنصل من الاستحقاقات التفاوضية، الأمر الذي ينبئ بأن ما وراء هذه الخطوة يتجاوز مجرد مواجهة الانتقادات الدولية، وصولًا إلى التحضير الجاد لمستويات جديدة من التصعيد في القطاع.
جعجعة المساعدات
رغم الضجيج الإعلامي الواسع الذي رافق إعلان حكومة الاحتلال الإسرائيلية عن قرارها بفتح مسارات للمساعدات، والذي تولى جيش الاحتلال الإعلان الأولي عنه، بدت التغطية كمحاولة تضخيم متعمدة، عبّأت لها وسائل إعلام عبرية وعربية ودولية، لإضفاء طابع الحدث الكبير على خطوة لم تنعكس فعليًا على أرض الواقع.
في التفاصيل، صدر بيان عن ديوان رئاسة الحكومة الإسرائيلية يفيد بأنه، عقب جلسة مشاورات مصغّرة عقدها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، تقرر تنفيذ “هدنة إنسانية” تمتد لساعات في قطاع غزة، بدءًا من يوم الأحد، وذلك في استجابة شكلية للانتقادات الدولية المتزايدة حيال الوضع الإنساني الكارثي في القطاع.
أرقام صادمة تكشف عن مأساة أطفال غزة: 85 حالة وفاة، و900 ألف طفل يعانون من التجويع وسوء التغذية بسبب الحصار. pic.twitter.com/H8Lj4RAVAH
— نون بوست (@NoonPost) July 28, 2025
وأشار البيان إلى مشاركة وزير الحرب يسرائيل كاتس ووزير الخارجية جدعون ساعر، إلى جانب مسؤولين آخرين، مع تجاوز متعمد لإشراك وزيري الصهيونية الدينية، بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، في القرار، كما أعلن البيان عن استئناف عمليات إسقاط المساعدات الإنسانية جوًا بالتعاون مع منظمات دولية، وتفعيل “ممرات إنسانية آمنة” لضمان مرور قوافل المساعدات التابعة للأمم المتحدة والمنظمات الإغاثية، بهدف إيصال الغذاء والدواء إلى السكان.
هذا الإعلان أثار غضب وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، الذي اعتبر استبعاده من المشاورات تجاوزًا غير مبرر، رغم تبرير ديوان نتنياهو بأن الأمر احترام لحرمة السبت، وهو ما رفضه قائلاً: “أنا متاح دائمًا في الحالات الطارئة”. هاجم بن غفير القرار بشدة واعتبره “رضوخًا لحملة دعائية كاذبة تقودها حماس”، مدعيًا أنه يُعرّض جنود الجيش للخطر، ومضيفًا أن حديث نتنياهو مؤخرًا عن “بدائل للإفراج عن المخطوفين” تحول في الواقع إلى “استسلام يعزز حركة حماس، ويُبعد النصر، ويؤخر عودة المخطوفين”.
رافق الإعلان تغطية إعلامية موسعة من قِبل سلطات الاحتلال، شملت تضخيمًا لأرقام الشاحنات وكميات المساعدات، لكن على أرض الواقع، لم تصل هذه الأرقام إلى الفلسطينيين المجوعين، إذ إن ما دخل فعلًا كان محدودًا، وتم تمريره عبر مسارات تركها الاحتلال عُرضة للنهب والبلطجة، ما أفرغ الخطوة من أي مضمون أو أثر إنساني.
في هذا السياق، كشف محلل الشؤون العسكرية في صحيفة معاريف العبرية، آفي أشكنازي، أن قيادة المنطقة الجنوبية و”الإدارة المدنية” أعدوا عملية “عرض إعلامي” من خلال إدخال عشرات الصحفيين إلى معبر كرم أبو سالم لعرض شحنات الغذاء التابعة للأمم المتحدة، ونقل عن مصادر عسكرية أن الجيش الإسرائيلي يدّعي وجود مواد تشمل: الطحين، الزيت، الأرز، البقوليات، المعكرونة، منتجات الأطفال، والمعلبات، بكميات يُفترض أنها تكفي لألف شاحنة، وتغطي احتياجات السكان لأسبوعين ونصف، وفق زعمه.
عادوا من حافة الموت، يحملون الطحين على أكتاف أنهكها الجوع وندوب الحرب، وذاكرة مكتظة بمشاهد لا تنسى. pic.twitter.com/fFSMjAHgmT
— نون بوست (@NoonPost) July 29, 2025
تزامن ذلك مع محاولة إعلامية منظمة لنفي وجود مجاعة في غزة، إذ قال المتحدث باسم الحكومة الإسرائيلية، ديفيد مينسر، للصحفيين: “لا توجد مجاعة في غزة سببتها إسرائيل”، بل زعم أن هناك “نقصًا مفتعلًا من حماس”، متهمًا الحركة بمنع توزيع الغذاء ونهب المساعدات.
في المقابل، تستمر حكومة الاحتلال في منع الصحفيين الأجانب من دخول غزة لمعاينة الأوضاع الإنسانية، مع مواصلة حملة الترهيب والتهديد ضد الصحفيين العاملين داخل القطاع، وكان آخرهم مراسل قناة الجزيرة، أنس الشريف، الذي استهدفته حملة تحريض موسعة بسبب تغطيته الميدانية لمشاهد التجويع وانهيار المواطنين.
إعادة قولبة للابتزاز الإنساني
بالعودة إلى تفاصيل الخطة الإسرائيلية الجديدة لتوزيع المساعدات، يتضح أنها لا تعكس تراجعًا فعليًا عن الخطة الأميركية السابقة، التي أثبتت فشلها الذريع في تحقيق أهدافها، إذ ارتبطت تلك الخطة بمحاولة إحلال “مؤسسة غزة الإنسانية” – وهي كيان أمني مغلف بغلاف إنساني – كبديل عن المؤسسات الدولية العاملة في قطاع غزة، وعلى رأسها وكالة “الأونروا”.
في هذا السياق، تعكس تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب تمسكًا أميركيًا بهذه الآليات، بوصفها المسار الوحيد لإيصال المساعدات إلى القطاع. إذ قال ترامب إن بلاده قدّمت 60 مليون دولار قبل أسبوعين لإدخال الأغذية إلى غزة، مضيفًا: “لم يشكرنا أحد”، معلنًا عن نية بلاده تقديم مزيد من الدعم، وداعيًا الدول الأخرى للمشاركة في هذا الجهد.
غزة تُجوَّع عمدًا بينما تُلقى المساعدات الجوية كذريعة للحصار. 25 طنًا فقط من المساعدات، في وقتٍ تحتاج فيه أكثر من 600 شاحنة يوميًا. pic.twitter.com/nzYVcPnArQ
— نون بوست (@NoonPost) July 28, 2025
بناءً على ذلك، يمكن النظر إلى الخطة الإسرائيلية الجديدة باعتبارها إعادة قولبة موسّعة للخطة الأميركية السابقة، مع الإبقاء على جوهرها القائم على “الهندسة القسرية للبنية الديمغرافية” في قطاع غزة، من خلال التحكم الكامل بمسارات المساعدات، وتوجيهها إلى ثلاث مناطق بعينها يتكدّس فيها النازحون: غرب مدينة غزة، والمحافظة الوسطى، والشريط الساحلي الضيق غرب خانيونس المعروف باسم “المواصي”.
عبر هذا التقنين الجغرافي للمساعدات، يسعى الاحتلال إلى فرض خريطة سكانية جديدة، تمنع أي محاولة لإعادة التوزع السكاني أو العودة إلى المناطق المدمّرة، كما يعتمد الاحتلال على غياب الأطر المنظمة لتوزيع المساعدات، ويفتح الباب أمام حالة من الفوضى عبر منعه المتعمّد لتأمين قوافل الإغاثة، ما أفرز طبقة من اللصوص والمتنفذين الذين يسيطرون على الشحنات، ويبيعونها في السوق السوداء.
وقد أصبحت هذه الطبقة، المستفيدة من الفوضى، جزءًا من منظومة الاحتلال غير المباشرة، التي تدفع المجتمع الغزي نحو أحد خيارين: إما الإذعان لتشكيل نظام محلي متعاون، أو الانزلاق نحو الفوضى والصوملة والاقتتال الداخلي على الغذاء.
وفي هذا الإطار، اعتبرت حركة “حماس” أن خطة الاحتلال لإنزال المساعدات الجوية تمثل سياسة “لإدارة التجويع”، وجاء في بيان الحركة أن “لجوء إسرائيل إلى إسقاط بعض المساعدات جوًا فوق مناطق في القطاع ليس إلا خطوة شكلية ومخادعة، تهدف إلى تبييض صورتها أمام العالم، والالتفاف على الحقوق المشروعة لشعبنا الفلسطيني، وفي مقدمتها رفع الحصار، ووقف سياسة التجويع التي تديرها حكومة مجرم الحرب نتنياهو”.
وأكدت الحركة أن خطة الإنزال الجوي والتحكم في ما يسمى بالممرات الإنسانية “تمثّل سياسة مكشوفة لإدارة التجويع، لا لإنهائه”، مشيرة إلى أن هذه الإجراءات “تسببت بارتقاء أكثر من ألف شهيد، وجرح نحو 6 آلاف من المدنيين، ما يُعدّ جرائم حرب موصوفة وفق القانون الدولي”.
نوايا عدوانية مُحققة
عند مقارنة التصريحات الإسرائيلية والأميركية من جهة، والخطوات الميدانية الجارية من جهة أخرى، يتضح أن التحركات الإسرائيلية الأخيرة في ملف المساعدات ليست استجابة إنسانية، بل جزء من حملة تمهيدية لخطة عدوانية أوسع يجري التحضير لها ضد قطاع غزة.
إن إصرار الاحتلال على إعادة قولبة آلية توزيع المساعدات، والتنصل الصريح من التفاهمات التي أُنجزت عبر المسار التفاوضي -–والتي انقلبت عليها حكومة الاحتلال ومبعوث الولايات المتحدة ستيف ويتكوف – يكشف بوضوح غياب النية الجدية لدى حكومة نتنياهو للتوصل إلى اتفاق يتضمن صفقة تبادل أسرى، وانسحابًا من قطاع غزة، وضمان دخول المساعدات دون قيود.
وتبدو هذه الوجهة محل توافق بين “إسرائيل” والولايات المتحدة، حيث استُكملت خطوطها العريضة خلال زيارة نتنياهو إلى واشنطن مطلع الشهر الحالي، وهي الزيارة التي كان يُعوَّل عليها لتقليص فجوة الخلافات وإنجاح الصفقة، لكنها تحولت إلى لحظة تأسيس لمسار تصعيدي.
مؤسسة غزة القاتلة تفتح مصائد الموت للنساء، معلنة يومًا مخصصًا لهن.. ليصبح الدور عليهن في مخطط الإبادة الذي يفتك بالقطاع. pic.twitter.com/neFfrCr1id
— نون بوست (@NoonPost) July 25, 2025
في هذا السياق، جاءت تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب منسجمة تمامًا مع الحملة التصعيدية التي تناوب على تنشيطها مسؤولون في إدارته ووزراء في الحكومة الإسرائيلية، فقد قال ترامب: “إن حركة حماس لا ترغب في إبرام اتفاق بشأن وقف إطلاق النار وتحرير الرهائن، وأعتقد أنهم سيسقطون”. وأضاف أن الوقت قد حان لتُصعّد إسرائيل الحرب من أجل “التخلص من حماس وإنهاء المهمة”.
تبع ذلك حديث نتنياهو عن دراسة إسرائيل “خيارات بديلة” لإعادة الرهائن، وإنهاء حكم حماس في غزة، بعد استدعاء الوفد الإسرائيلي من مفاوضات الدوحة، كما كشف موقع أكسيوس الأميركي عن أن إدارة ترامب تدرس بالفعل تغيير استراتيجيتها في التعامل مع ملف غزة، ونقل عن وزير الخارجية ماركو روبيو، قوله لعائلات الأسرى الإسرائيليين، في لهجة تعكس الإحباط: “نحن بحاجة إلى إعادة التفكير بشكل جدي”.
وفي ظل هذا المشهد، أعرب مسؤولون إسرائيليون لأكسيوس عن عدم يقينهم ما إذا كانت تصريحات ترامب مجرد مناورة تفاوضية أم أنها تمثل تغيرًا حقيقيًا في الموقف، ومنحًا صريحًا للضوء الأخضر لنتنياهو لتوسيع نطاق العدوان واستخدام وسائل عسكرية أكثر تطرفًا.
وفي الداخل الإسرائيلي، عبّر وزير المالية بتسلئيل سموتريتش عن دعم خفي للمسار التصعيدي، حيث أبلغ كتلة “الصهيونية الدينية” في الكنيست بأنه لا يعتزم الانسحاب من الحكومة في هذه المرحلة، قائلًا: “في زمن الحرب لا تُتخذ القرارات بناء على اعتبارات سياسية”، وأضاف: “نحن نعمل على خطوة استراتيجية جيدة، ومن المبكر الكشف عن تفاصيلها، وخلال وقت قصير سنعرف إن كانت ناجحة وإلى أين نتجه”.
وفي ضوء النقاش الدائر داخل “الكابينت” (المجلس الوزاري المصغر)، تتبلور ملامح الخطة الإسرائيلية القادمة ضمن مسارين:
المسار الأول: تتبناه المؤسسة الأمنية والعسكرية، ويقوم على تعميق السيطرة الميدانية عبر استراتيجية “القضم التدريجي”، لتصل إلى 90% من مساحة القطاع، مع الإبقاء على التكتلات السكانية محاصرة في ثلاث مناطق فقط (غرب مدينة غزة، المحافظة الوسطى، والمواصي غرب خانيونس)، وفصل هذه المناطق عن بعضها لحرمانها من أي تواصل جغرافي.
المسار الثاني: يقوده نتنياهو استرضاءً لحلفائه في اليمين الصهيوني، ويهدف إلى تنفيذ خطة “الضم التدريجي”، بدءًا من المنطقة العازلة، مرورًا بشمال القطاع، ووصولًا إلى مساحات أوسع من غزة، على أمل اقتطاعها وضمها بشكل دائم إلى دولة الاحتلال.
حتى اللحظة، لم يُحسم الاتجاه النهائي داخل “الكابينت”، لكن إدارة ترامب بدأت بتصعيد الضغوط على حكومة نتنياهو لحسم موقفها، والاختيار بين “الحسم الكامل” أو “التهدئة الشاملة”، وهو ما يضع نتنياهو أمام مفترق طرق استراتيجي تتوقف عليه مآلات الحرب، وتداعياتها على مستقبل حكومته.
وبالعودة إلى الخطة الإسرائيلية المعدّلة لآلية توزيع المساعدات، يتضح أنها أداة وظيفية ضمن مسارات العدوان، سواء في حال خطة توسيع السيطرة العسكرية على الأرض، أو في حال الذهاب إلى خيار الضم، فهي تهدف في جوهرها إلى تجميع السكان في جيوب جغرافية محصورة، وإفراغ بقية القطاع لصالح مشاريع السيطرة طويلة الأمد، وهي بذلك لا تُشكل انفراجة إنسانية، بل امتدادًا للأداة الحربية في ثوب “إغاثي”، في سياق عملية هندسة شاملة للميدان والسكان، بالدم والدمار والحصار.