“منذ نحو سنتين تنفّذ إسرائيل إبادة جماعية في قطاع غزة، تعمل بشكل منهجيّ ومنسَّق لهدم المجتمع الفلسطيني في قطاع غزة عبر القتل الجماعي وإلحاق الأضرار الجسدية والنفسية الجسيمة وخلق ظروف معيشة كارثية لا تتيح استمرار البقاء في القطاع، تجوِّع مليونيّ إنسان وتدفع علنًا نحو تطهير عِرقيّ وتدمير تامّ لكلّ البنى التحتية التي تتيح الحياة، للأفراد وللجماعة، الإبادة الجماعية تحدث هنا الآن. إنها إبادتنا الجماعية ويجب وقفها”.. بهذه الكلمات، كشف مركز “بتسيلم” عن موقفه الصريح من حكومة نتنياهو، محملًا إياها مسؤولية ارتكاب جريمة إبادة جماعية.
التقرير، الذي نُشر بالاشتراك مع منظمة “أطباء من أجل حقوق الإنسان”، يفضح زيف ادعاءات حكومة نتنياهو بشأن إدخال المساعدات، مؤكدًا أن الاحتلال ينفذ إبادة جماعية ممنهجة بحق الفلسطينيين في غزة، عبر القتل والتجويع والتدمير الشامل لمقومات الحياة، كما يكشف بوضوح نية الاحتلال تفكيك المجتمع الفلسطيني وإجباره على النزوح القسري، من خلال فرض ظروف معيشية لا تُطاق.
وصف حكومة الاحتلال بمرتكبة جريمة إبادة في غزة، بعد 22 شهرًا من بداية الحرب، التي لم يترك فيها جيش الاحتلال درب انتهاك إلا وسلكه، يثير الكثير من التساؤلات حول هذا التأخير ودوافعه في هذا التوقيت، وسط تجاهل وصلف من حكومة بنيامين نتنياهو، المُاضية قدمًا في حرب الإبادة التي تشنّها على القطاع منذ أكثر من 650 يومًا، ضاربةً بعرض الحائط كافة الإدانات والتقارير الحقوقية، سواء تلك الصادرة عن جهات عربية أو دولية، أو حتى إسرائيلية.
بالأدلة.. “إسرائيل” ترتكب إبادة جماعية
وثّق المركز الحقوقي، الذي يتخذ من القدس مقرًا له، في تقريره المنشور، ارتكاب الاحتلال لجريمة الإبادة الجماعية من خلال العديد من الشواهد والمؤشرات والانتهاكات التي مارستها قوات الاحتلال بحق سكان غزة على مدار ما يقرب من عامين كاملين.
في مستهل التقرير، سعى المركز إلى تقديم تعريف أكاديمي وعملي لمفهوم الإبادة الجماعية، موضحًا أنها “تدمير عنيف ومتعمد لمجموعة، أو محاولة لتدمير كهذا، يؤدي إلى إلحاق ضرر جسيم وغير قابل للإصلاح بالمجموعة، بصفتها هذه”، كما أورد تعريفًا آخر يعود إلى الحقوقي اليهودي البولندي، رافائيل لِمكين، الذي وصف الإبادة بأنها “هجوم منسّق على مختلف جوانب حياة جماعة قومية أو إثنية أو دينية أو عرقية محددة، من خلال أعمال متعددة تهدف إلى تدمير الأسس الحيوية لحياة الجماعة، بحيث يكون جوهر هذا الهجوم هو تدمير الجماعة”.
التقرير، الذي جاء في 80 صفحة وحمل عنوان “إبادتنا”، كشف أن الهجوم الإسرائيلي تجاوز كل حدود القمع والسيطرة، ليتحوّل إلى عملية تدمير شاملة تهدف إلى تفكيك المجتمع الفلسطيني وتصفية وجوده في غزة، عبر سياسات الإبادة الجماعية التي تعتمد على القتل والتجويع والتهجير وتدمير البنية التحتية وإنهاك النسيج الاجتماعي والثقافي.
هويدة عراف، @huwaidaarraf ناشطة مشاركة في أسطول الحرية إلى غزة، تهاجم تخاذل العالم الذي سمح لـ"إسرائيل" بتحويل غزة إلى معسكر إبادة. pic.twitter.com/O2vnxuyhkY
— نون بوست (@NoonPost) July 28, 2025
واستندت المنظمة في تقريرها إلى تصريحات كبار المسؤولين الإسرائيليين، التي استهدفت بشكل مباشر وواضح سكان غزة، وتضمنت تهديدات صريحة بالإبادة والتجويع، بل وصل الأمر إلى تلويح بعض أعضاء الكنيست باستخدام قنبلة نووية ضد القطاع، في حين وصفهم آخرون بـ”الحيوانات البشرية”.
ومن أبرز المؤشرات التي دفعت المنظمة إلى اعتبار ما جرى في غزة جريمة إبادة جماعية مكتملة الأركان: محو مدن بأكملها، التدمير المنهجي للبنية التحتية الصحية والتعليمية، تدمير المؤسسات الدينية والثقافية، التهجير القسري لأكثر من مليوني شخص، إضافة إلى التجويع والقتل الجماعي.
وقد خلصت منظمة “بتسيلم” إلى أن السياسات الإسرائيلية المتبعة في غزة تفي بالشروط القانونية لتعريف جريمة الإبادة الجماعية، كما ورد في اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1948، موضحة أن ما يجري لا يقتصر على القتل المباشر، بل يشمل إحداث دمار واسع في ظروف الحياة التي تضمن البقاء، وتفكيك كل مقومات الاستمرار الإنساني للفلسطينيين.
غزة ليست الهدف الوحيد
لفت التقرير إلى أن نظام الاحتلال والفصل العنصري الإسرائيلي يعمل منذ عقود على إعادة تشكيل الوجود الفلسطيني جغرافيًا وديموغرافيًا، عبر سياسات التطهير العرقي، والتهجير القسري، والعنف المؤسسي، وهو ما تجسّد بشكل واضح في قطاع غزة من خلال الحصار والتجويع وتدمير مقومات البقاء.
لم يقتصر التقرير على الإبادة الجماعية الجارية في غزة، بل حذّر من خطر امتدادها إلى مناطق أخرى خاضعة لسيطرة النظام الإسرائيلي، وعلى رأسها الضفة الغربية والقدس الشرقية، بل وحتى الداخل المحتل، حيث يُترك الفلسطينيون في هذه المناطق لمواجهة عنف متصاعد، وتهجير قسري، وعقاب جماعي، وسلبٍ منهجي لحقوق الإنسان، لمجرد انتمائهم إلى الشعب الفلسطيني.
وأوضح التقرير أن الهجمات الوحشية التي نفذتها قوات الاحتلال بحق الفلسطينيين، تستند إلى بنية أيديولوجية راسخة، تقوم على الفصل العنصري والتمييز العرقي، وهي بنية ترسّخت منذ عام 1948، وبلغت أقصى تجلياتها في هذه الحرب، التي وصفها التقرير بأنها “ذروة مشروع استعماري طويل الأمد”.
فرانشيسكا ألبانيزي @FranceskAlbs ، المقررة الخاصة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة: "أين المسؤولون عن حملة التجويع التي تشنّها إسرائيل؟". pic.twitter.com/LI8bc2BuFc
— نون بوست (@NoonPost) July 29, 2025
تُحمّل “بتسيلم” أيضًا المجتمع الدولي، وبشكل خاص الولايات المتحدة وأوروبا، المسؤولية المباشرة عن استمرار الإبادة الجماعية في غزة، وذلك من خلال ما تقدمه من دعم سياسي وعسكري، بما في ذلك شحنات الأسلحة والذخائر، فضلاً عن التغاضي المتكرر عن الانتهاكات الموثقة بحق المدنيين الفلسطينيين، واتهمت المنظمة القوى الكبرى والمنظمات الأممية بالتقاعس عن اتخاذ خطوات جدية وفعالة لوقف هذه الإبادة، بل والانخراط في تبريرها عبر خطاب يومي روتيني يتّسم بالتطبيع مع المجازر، ويغض الطرف عن فظاعتها.
وخلص المركز الحقوقي إلى أن إدراك حقيقة أن النظام الإسرائيلي يرتكب جريمة إبادة جماعية في قطاع غزة، والخشية المتزايدة من تمدد هذه الجريمة إلى مناطق أخرى يعيش فيها الفلسطينيون تحت الحكم الإسرائيلي، يتطلبان تحركًا عاجلًا وواضحًا، من جانب المجتمع الدولي والجمهور الإسرائيلي على حدّ سواء.
واختتم التقرير برسالة صريحة: “حان الوقت لإعلاء الصوت والمعارضة. حان الوقت لاستخدام جميع الوسائل التي يتيحها القانون الدولي، من أجل إنقاذ ما لا يزال من الممكن إنقاذه، ووضع حدّ لمعاناة ملايين البشر”.
لماذا بعد 22 شهرًا؟
“منظمة حقوقية إسرائيلية تقول إن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية. لماذا استغرق الأمر 22 شهرًا؟” بهذا السؤال، تساءلت الحقوقية الفلسطينية ديانا بطو عن أسباب التأخير في إصدار تقرير من هذا النوع، رغم توفر عشرات الأدلة والشهادات والمؤشرات التي تؤكد ارتكاب جيش الاحتلال جرائم إبادة جماعية بحق الفلسطينيين في قطاع غزة منذ الشهر الأول للحرب، إذ لم يترك الاحتلال انتهاكًا واردًا في تعريفات الإبادة إلا وارتكبه، وبمستوى غير مسبوق من الوحشية والتجرد من الإنسانية.
على مدى شهور، كانت العديد من المنظمات الحقوقية تصف ما يجري في غزة بوضوح بأنه “إبادة جماعية”، استنادًا إلى الجرائم التي تُرتكب على مرأى ومسمع من العالم، دون حاجة إلى تحليل أو تأويل، في حين واصلت “بتسيلم” ومنظمات يسارية إسرائيلية أخرى استخدام توصيفات أقل حدّة، مثل “جرائم ضد الإنسانية”، في ما بدا وكأنه تضليل متعمّد أو تجاهل صارخ لحقيقة المشهد.
لكن، ومع تصاعد الضغوط الدولية وتغيّر المزاج العالمي إزاء ما يحدث، وبعد أن خرج الوضع في غزة عن السيطرة وقفز فوق كل جدران الإنكار والسرديات المضللة، وجدت المنظمة الحقوقية الإسرائيلية نفسها مضطرة إلى استخدام مصطلح “الإبادة الجماعية” لأول مرة في تقاريرها، بعدما بات الواقع أوضح من أن يُنفى، والحقيقة أفدح من أن تُؤجَّل.
لقد جاء التقرير – كما تقول بطو – متأخرًا لدرجة أن وصفه بـ”الإبادة” بات تحصيل حاصل لا يضيف جديدًا، بل يعكس تردّدًا سياسيًا وأخلاقيًا لطالما لازم المواقف الإسرائيلية المعارضة.
Israeli human rights group B’Tselem finally determined that Israel is carrying out a genocide. @dianabuttu breaks down what the report gets right — and where it goes wrong.
Read the full story – link in replies. pic.twitter.com/FsqBWaRWHK
— Zeteo (@zeteo_news) July 28, 2025
كما فضحت بطو ما وصفته بـ”التفاوت في المصداقية”، مشيرة إلى المفارقة المؤلمة في تعامل العالم مع الشهادات الفلسطينية، فعلى الرغم من صدور عشرات التقارير وآلاف الشهادات التي توثّق المجازر المرتكبة بحق سكان غزة، وترتقي إلى جرائم إبادة جماعية، إلا أنها لم تلقَ اهتمامًا يُذكر، وتُركت دون صدى أو مساءلة. في المقابل، حين يصدر توصيف “الإبادة الجماعية” عن منظمة إسرائيلية، فإن الاهتمام يتضاعف والصوت يُسمع، في تعبير فجّ عن إصرار ضمني على نزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين، الذين — كما تقول بطو — “لا يُصدقهم أحد، إلا حين يصرخ الآخرون نيابة عنهم”.
ومن أبرز القنابل الملغومة التي حاولت بطو تفكيكها داخل التقرير، ما اعتبرته محاولة خبيثة لإلقاء جزء من المسؤولية على المقاومة الفلسطينية، عبر تصوير عملية “طوفان الأقصى” كمحفّز لارتكاب الإبادة، إذ أوحت “بتسيلم” بأن ما جرى كان رد فعل على تهديد وجودي، وكأن الاحتلال وجد نفسه مضطرًا للانتقام بحجم “الخطر”، في تبرير ضمني للجرائم ومحاولة لتجميل صورة “إسرائيل” من زاوية مختلفة.
فالمنظمة، التي تدّعي الحياد والاستقلالية، سعت — بحسب بطو — إلى صناعة مبرر لواحدة من أفظع الجرائم، وكأن الإبادة الجماعية كانت نتيجة لمقدمات مفهومة، لا استمرارًا لنهج عنصري ممنهج، كما تجاهلت “بتسيلم” عمدًا أن ما يحدث في غزة ليس استثناءً، بل نتاج بنية هيكلية من القمع والتجويع والتطهير، ظلت تتراكم لعقود دون محاسبة، لذلك لا يبدو مستغربًا أن يتعامل الإسرائيليون مع مشاهد المجازر في القطاع ببرود أعصاب وغياب تام للقلق أو الانفعال، خاصة حين تصدر الانتقادات من كيانات عربية أو جهات داعمة للسردية الفلسطينية، التي لطالما جرى تحقيرها أو تجاهلها.
في النهاية،
ثمّة عشرات التقارير الأخرى الصادرة عن جهات حقوقية دولية، أشرفت على إعدادها منظمات ذات حيثية ونفوذ عالمي، مثل “هيومن رايتس ووتش” و”منظمة العفو الدولية”، وهي التقارير ذاتها التي استندت إليها المحكمة الجنائية الدولية في مذكرتي الاعتقال الصادرتين بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الجيش السابق يوآف غالانت، حيث خلصت المحكمة إلى وجود “أسباب منطقية” للاعتقاد بأنهما ارتكبا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة.
مع ذلك، يواصل نتنياهو وحكومته، مدعومين بجنرالات جيشه، حرب الإبادة الوحشية بحق النساء والأطفال في غزة، مستمرًّا في ارتكاب مختلف أشكال الانتهاكات، غير آبه بكل ما صدر من تقارير ونداءات حقوقية، بل ضاربًا بها عرض الحائط، فثقة نتنياهو مستمدة من الحاضنة السياسية والقانونية التي يوفرها له الحليف الأميركي، والتي منحته ضوءًا أخضر لمواصلة ما يشاء من جرائم وانتهاكات دون أدنى خشية من حساب أو عقاب حتى وصل به الأمر إلى التلويح باجتياح جديد واحتلال مزيد من أراضي القطاع.