ربما لن يصدق كثيرون أن الاحتلال الإسرائيلي أقام ستة محاور في قطاع غزة الذي يبلغ طوله 60 كيلومترًا تقريباً، علماً أن متلازمة المحاور العائدة ربما إلى الهوس الأمني وذهنية الغيتو والاستلاب لقاعدة “ما لم يتحقق بالقوة يتحقق بالمزيد منها” حاضرة كذلك في التعاطي الإسرائيلي مع دول الجوار تحديداً سوريا ولبنان وحتى تجاه مصر والأردن اللتين تقيمان علاقات دبلوماسية مع الدولة العبرية ولكن عبر مسميات أخرى من قبيل الجدر والسياجات الأمنية والعازلة غير أنها تستبطن نفس متلازمة المحاور.
مع بداية الحرب أقامت إسرائيل محور أو ممر نتسريم الذي فصل قطاع غزة إلى نصفين. وذلك منذ الأيام الأولى للاجتياح البري السهل عسكرياً، ومنعدم الأفاق سياسياً واستراتيجياً، بعد ذلك أعادت إسرائيل في أيار مايو العام الماضي احتلال محور فيلادلفيا الحدودي لعزل قطاع غزة عن مصر حتى لو عنى ذلك انتهاك معاهدة كامب ديفيد مع القاهرة.
وضمن متلازمة المحاور المنطلقة من الهوس الأمني ورعب الجلاد من الضحية أقامت وأسست إسرائيل خلال العام الماضي وبعد انتهاء الحرب نظرياً- آب أغسطس الماضي- وبعيداً عن الصخب الإعلامي وحسب الترتيب الزمني أربعة محاور أخرى في قطاع غزة هي مفلاسيم الذي يفصل محافظة شمال القطاع التي تضم جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون عن محافظة ومدينة غزة، بينما يفصلها نتسريم عن الوسط والجنوب.
ثم محور كيسوفيم قرب مدينة دير البلح لفصل الوسط عن الجنوب، ومحور موراغ لتقسيم الجنوب وفصل خان يونس عن رفح، وأخيراً وليس آخراً أقامت محور أو ممر مغن عوز الذي يفصل شرق وريف خان يونس عن المدينة والغرب وعمق القطاع بما في ذلك منطقة المواصي والبحر المتوسط.
هذا كله تزامن مع إقامة إسرائيل منطقة عازلة داخل القطاع اقتطعت حتى اتفاق وقف اطلاق النار في كانون ثاني/ يناير الذي انتهى في مارس/ آذار 16 بالمائة تقريباً من مساحة القطاع، وخلال الشهور الأربعة الماضية ومنذ انتهاك الاتفاق وإطلاق عملية عربات جدعون وسعت إسرائيل المنطقة خاصة مع تدمير معظم مدينة رفح لتشمل ثلث مساحة القطاع – 35 بالمائة- بما في ذلك تدمير سلة غذائه من بيت لاهيا وبيت حانون شمالاً إلى خان يونس – وتحديداً شرقها الذي ابتلعه تماماً محور مغن عوز الجديد – ورفح جنوباً.
قبل ذلك بسنوات كانت إسرائيل قد بنت الجدار الفاصل بالضفة الغربية بحجة التصدي للانتفاضة الثانية، علماً أنه يبتلع ثلث الضفة تقريباً، وهو بالتأكيد غير شرعي وقانوني وفق فتوى محكمة العدل الدولية الشهيرة بالعام 2004.
إضافة إلى غزة والضفة حضرت سياسة المحاور الإسرائيلية شمالاً، كذلك مع سوريا حيث محور ألفا الذي أقامته بمحاذاة المنطقة العازلة في هضبة الجولان وينتهك بالتأكيد روح اتفاقية فكّ الاشتباك بالعام 1974 مع الانتباه إلى قبول نظام الأسد السابق إقامة المنطقة العازلة في الجانب المحرر من الجولان فقط لا بالجانبين كما يقتضي التوازن والمنطق وطبائع الأمور.
لبنانياً يمكن القول والاستنتاج بسهولة إن إسرائيل أقامت ما يشبه المحور والمنطقة العازلة التي تمتد لـ 5 كيلومترات تقريباً مع احتلال التلال الخمس بعمق الأراضي اللبنانية إثر الحرب الأخيرة في تجاوز لتفاهم وقف إطلاق النار والقرار الأممي 1701.
لم تقتصر ذهنية المحاور والجدر العازلة والفاصلة على فلسطين التي تحتلها إسرائيل ولا حتى الأراضي المحتلة في سوريا ولبنان بل وصلت كذلك إلى دول تقيم علاقات سلام مع الدولة العبرية التي أقامت جدار أمني وسور عازل مع مصر حتى بعد التوقيع على معاهدة سلام معها حيث وصفه رئيس الوزراء بنيامين نتن ياهو بعنصرية “إسرائيل هي الدولة الوحيدة من العالم الأول التي يصل إليها مواطنو العالم الثالث سيراً على الاقدام”.
والآن يجرى العمل على مشروع مماثل مع الأردن بكلفة أيضا الدولارات، وهي دول تقيم علاقات دبلوماسية مع تل أبيب، ويفترض أنها بحالة سلام ولو بارد معها.
أما فيما يتعلق بخلفية ذهنية المحاور والجدر فيمكن إرجاعها إلى عدة أسباب ونفسيًا ربما تعبر المتلازمة عن عدم التخلص من ذهنية الغيتو والانعزال عن المنطقة والعالم ضمن تصور الكل ضدنا دون التعمق في أسباب ذلك أو مراجعة الممارسات والسياسات التي أدت الى هذا الرفض للدولة العبرية حتى في الحاضنة الغربية- الأوربية والأمريكية التقليدية لها.
لا ينفصل عما سبق اعتبار الجدر والمحاور ارتهانًا إلى القوة واعتمادًا على حد السيف وفق مقولة الجنرال موشيه دايان الشهيرة “نحن دولة تعيش على حد السيف”-واستلاباً للمقولة الفاشلة “ما لم يتحقق بالقوة والجدر يتحقق بالمزيد منها” واعتبار القدرة على إقامة والمحاور والمناطق العازلة وفرض الوقائع على الأرض تعبيراً عن الحسم وردع الأعداء مع ضرورة العودة هنا إلى المقولة الشهيرة لمنظر اليمين معلم ومرشد عائلة نتنياهو وهو شخصياً زئيف جابوتنسكي عن الجدار الحديدي مع المحيط المعادي العربي علماً إن معظم الجدر بل كلها بالحقيقة بنيت في عهد حزب الليكود الذى مثل جابوتنسكى ملهمه ومرشده الفكري.
وفيما يخص غزة تحديدًا تفضح المتلازمة هوس فالانتقام بعد عملية طوفان الأقصى 7 تشرين أول أكتوبر 2023 والسعي لتدمير القطاع وإعادته سنوات بل عقود إلى الوراء، وجعله غير قابل للحياة، ومنعه من تهديد إسرائيل لمدى زمني طويل في هروب منهجي أيضا نحو القوة والتدمير وتجاهل الأصل والجذر السياسي للاحتلال والقضية الفلسطينية.
إلى ذلك تثير المعطيات السابقة مجتمعة التساؤل الخاص بكيفية تصرف قوة نووية على هذا النحو وكيف تحيط نفسها بأسوار وجدر في تعبير واضح عن الخوف بل الرعب الأمني والوجودي رغم امتلاكها ترسانة حربية هائلة تقليدية وغير تقليدية، وديماغوجية تشدقها بقوتها وتفوقها على المحيط العربي والإسلامي، في انفصام ينسف كل تبجح نتنياهو عن الانتصارات الحاسمة وفرض واقع بل وقائع جديدة بغزة وفلسطين والمنطقة كلها كما يدحض كل أحاديث ودعايات وخطط التطبيع وببساطة وبهذه الذهنية فالدولة العبرية لا تتوسع بالمنطقة بل تنعزل عنه أكثر وتفاقم حدة العداء والرفض علمًا أنها أصلًا نبتة غريبة في بيئة معادية ورافضة لها وحتمًا ستذبل وتموت عبر الزمن ولو بعد حين.