في سوريا ما بعد الأسد، اشتدت المعارك في الفضاء الرقمي، حيث تحوّلت منصات التواصل الاجتماعي إلى ميادين جديدة لتغذية الانقسامات الطائفية وتأجيج العنف المجتمعي، فمع كل توتر أمني أو اضطراب سياسي، يتدفّق سيل من الأخبار الزائفة والمقاطع المفبركة التي تستثير المشاعر وتعيد إنتاج خطاب الكراهية، ليجد السوريون أنفسهم أمام مشهد إعلامي غارق في التضليل يصعب فيه التمييز بين الحقيقة والافتراء.
تكشف حالة السويداء الأخيرة عن عمق هذه المعضلة، إذ تزامنت الاشتباكات المسلحة مع موجة من الفيديوهات المفبركة التي ادّعت ارتكاب مجازر أو تنفيذ عمليات قصف من قبل الدولة، تبين لاحقًا أنها تعود لسياقات زمنية وجغرافية مختلفة، لكن اللافت أن هذه المواد المضللة تُصاغ بعناية لتضرب على وتر الهويات والانتماءات، وتُعيد إنتاج الانقسام بين مكونات المجتمع السوري، مستفيدة من هشاشة البيئة المعلوماتية وانعدام الثقة واستعداد الكثيرين لتصديق كل ما يعزز روايتهم الطائفية أو السياسية.
لا تتوقف خطورة هذه الظاهرة عند حدود الاستقطاب، بل تتفاقم بفعل تدخلات خارجية توظف أدوات التضليل لتعميق الشرخ السوري، مستغلة الانهيار المؤسسي الذي أعقب سقوط النظام، والفراغ الإعلامي الناتج عن غياب رواية رسمية موحدة، وهكذا يصبح الخبر الزائف في سوريا اليوم أكثر من مجرّد كذبة، بل أداة تفجير كامنة، قد تُطلق رصاصة، تُشعل فتنة، أو تهدم ما تبقّى من أمل في تعافٍ وطني طال انتظاره.
لماذا تتصدّر الأكاذيب المشهد في سوريا؟
ثمة مقولة شهيرة تُدرّس لطلاب الصحافة، تُنسب لعالم النفس جوناثان فوستر، تقول: “إذا أخبرك أحدهم أن المطر يهطل، وقال آخر إن الشمس مشرقة، فلا تقتبس كلامهما فحسب، بل انظر من النافذة وتحقق بنفسك”. تُلخص المقولة السابقة أهمية التحقق من الخبر قبل تصديقه، وإن لم يكن بمشاهدة الحدث بالعين المجردة ولكن من خلال الرجوع إلى المصادر الموثوقة أو الرسمية أو حتى الشك بصحته قبل أن يثبت العكس.
ينطبق هذا المبدأ اليوم على الحالة السورية، حيث اجتاحت الفضاء الرقمي مؤخرًا موجة من المقاطع المفبركة والمضللة، لم تكتفِ بتشويش وعي الجمهور، بل ساهمت في تأجيج التوترات على الأرض، ولذلك لم تعد ثقافة التحقق ترفًا مهنيًا يخص الصحفيين فقط، بل باتت ضرورة فردية لكل من يشارك أو يتفاعل مع محتوى على منصات التواصل، خاصة في لحظات الانفجار الأمني أو الاستقطاب السياسي.
واحدة من أبرز الأمثلة على ذلك، ما نشره رئيس حزب التوحيد اللبناني، وئام وهاب، من مقطع فيديو زعم أنه يوثّق قصفًا حكوميًا على مدينة السويداء، ليتبيّن لاحقًا أنه يعود لعام 2022 ويُظهر غارة روسية على خاركيف الأوكرانية.
صواريخ الدولة باتجاه السويداء pic.twitter.com/zuZ33lhiZG
— Wiam Wahhab (@wiamwahhab) July 20, 2025
والمعضلة الحقيقية لا تقف عند حدود التشويش على الوعي أو تقويض السرديات، بل تتعداها إلى إشعال فتائل أزمات على الأرض، ففي نيسان/أبريل الماضي، أدّت شائعة مفبركة عن تسجيل صوتي مسيء للنبي محمد إلى اندلاع اشتباكات عنيفة في مدينتي جرمانا وصحنايا بريف دمشق، ذات الأغلبية الدرزية، أسفرت عن مقتل وجرح العشرات، بينهم عناصر من قوات الأمن، ورغم نفي وزارة الداخلية لصحة التسجيل، كانت الكارثة قد وقعت، لتؤكد مرة أخرى أن الكلمة المفبركة قد توازي الرصاصة في قدرتها على التدمير.
تكمن خطورة الأمر أيضًا في أن كثرة تداول خبر أو صورة ما تزيد من مصداقيته في وعي المتابع، وهذا ما يُسمّى “تأثير الحقيقة الوهمي”، ويحدث ذلك حتى لو كانت عناوين الأخبار الزائفة غير معقولة أو تتناقض مع التوجهات السياسية للشخص، إذ يشارك المتابع الخبر ويتفاعل معه وكأنه حقيقي.
هذا التأثير يصبح أكثر فتكًا في بيئة كالبيئة السورية، التي يشير المدير التنفيذي لمنصة “تأكد”، أحمد بريمو، إلى أنها مهيأة بطبيعتها لتلقّي المعلومات المضللة، بسبب حدة الاستقطاب وتعدّد الانتماءات، ويوضح أن كل حدث أمني كبير، كما حصل في السويداء في يوليو/تموز أو في الساحل في آذار/مارس، يرافقه دائمًا معركة موازية على الإنترنت، تُستخدم فيها الأخبار الكاذبة كأداة لتغذية الانحيازات العاطفية.
يؤكد ما سبق بحث بعنوان “علم نفس الأخبار الكاذبة”، الذي يبيّن أن الأخبار الزائفة تعتمد غالبًا على إثارة مشاعر قوية مثل الصدمة والخوف والغضب أو الاستياء أخلاقي، فعندما تُستفز مشاعر المتلقي، يكون أكثر عرضة لتصديق الخبر ومشاركته دون تحقق، لا سيما إن كان يعزّز قناعاته المسبقة أو ينسجم مع هويته الطائفية أو السياسية.
ويظهر ذلك جليًا في المقاطع المفبركة التي انتشرت خلال اشتباكات السويداء، ومنها فيديو يُزعم أنه يوثّق إعدام ميليشيا الهجري لستة مدنيين وسط المدينة، ليتضح لاحقًا أنه يوثّق عملية إعدام ميداني نفذها مقاتلو ليث البلعوس ضد عناصر مجموعة راجي فلحوط عام 2022.
تستمر #عصابات_الهجري بإرتكاب الإنتهاكات والمجازر بحق المدنيين من البدو والعشائر العربية وما أظهره هذا الفيديو تصفيات ميدانية عند دوار المشنقة في مدينة #السويداء لأشخاص مدنيين عزل لا يملكون أي طابع عسكري يقوم عناصر تابعين #للهجري بتصفيتهم بدم بارد دون أي رادع يردعهم#الهجري_الخائن pic.twitter.com/1wB1Gpyue2
— Ibrahem aldoghem (@SalmanIbrahem19) July 22, 2025
في هذا السياق، يلفت تقرير صادر عن مركز “Atlantic Council” إلى أن الشائعات لم تكن مجرد انحرافات معلوماتية عابرة، بل جرى توظيفها عمدًا كسلاح استراتيجي لتعزيز الخوف وتفجير الانقسامات الطائفية، خصوصًا عقب سقوط النظام، ويوثّق التقرير كيف سادت حالة من الذعر في مناطق الساحل السوري ذات الغالبية العلوية، إثر انتشار روايات كاذبة عن مجازر وعمليات انتقامية وشيكة، ما أسهم في شحن المشهد الطائفي وتعميق مشاعر القلق الوجودي لدى مكوّنات بعينها.
على مدار سنوات الصراع في سوريا، استخدمت الأطراف ذات المصالح الإقليمية والدولية منصات التواصل الاجتماعي كساحة خلفية لتوجيه الرأي العام السوري والسيطرة على السرديات، من خلال بث معلومات مضللة، ويشير أحمد بريمو إلى أن هذا النهج لم يتوقف بسقوط النظام، إذ وثق التقرير السابق للمركز حملات تضليل منسقة شنّتها جهات مثل إيران و”إسرائيل” و”حزب الله”، استغلت فيها هشاشة المشهد الإعلامي في سوريا لتعزيز الانقسامات الطائفية وزعزعة الثقة بين مكونات المجتمع، في محاولة لإعادة تشكيل ميزان القوى المحلي على وقع الفوضى المعلوماتية.
في الاتجاه ذاته، كشفت “بي بي سي” في تحقيق استقصائي نُشر في مايو/أيار الماضي، عن نشاط مكثف لشبكات من الحسابات الخارجية على منصة “إكس”، بلغ عدد منشوراتها 50 ألفًا خلال تمرد الساحل، %60 منها صادرة من خارج سوريا، وتحديدًا من العراق واليمن ولبنان وإيران، وكان من أبرز الادعاءات الكاذبة التي نشرتها وتداولتها خبر مضلل عن إعدام كاهن كنيسة مار إلياس على يد “عصابات الجولاني”، وهو ما نفته الكنيسة لاحقًا.
كما كشف التحقيق عن نشاط موازٍ لحسابات أخرى تدار من السعودية وتركيا، نشرت منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2024 نحو 100 ألف تعليق تحريضي ضد الطائفة العلوية، مستخدمة لغة طائفية صريحة تتضمن عبارات مثل “النصيرية” و”كفّار”،و”الطغمة العلوية”.
ويبدو أن هذه الحملات ليست طارئة أو عفوية، بل ممنهجة ومستمرّة، إذ أعلن وزير الإعلام السوري، حمزة المصطفى، مؤخرًا أن البلاد تواجه هجمات إلكترونية نشطة، مشيرًا إلى رصد نحو 300 ألف حساب يعمل على بث محتوى مضلل من أربع دول رئيسية.
وفي ظل هذا المناخ المسموم، برزت جهود منصات التحقق كخط دفاع أول، إذ تمكنت وكالة “سند” التابعة لشبكة الجزيرة من رصد 10 ادعاءات كاذبة خلال 48 ساعة فقط، أبرزها مقطع فيديو يزعم ظهور الرئيس أحمد الشرع بين المقاتلين في السويداء، بينما أظهر التحقق أن الفيديو يعود إلى زيارة قديمة للرئيس في ريف إدلب مطلع عام 2024.
الشرع وسط مقاتليه في محافظة السويداء
60% من المدينة تم تحريرها
مبنى المحافظة تمت السيطرة عليه
طلع فعلا لا يجيد اللطم pic.twitter.com/ck8wonqnw0— Ⓜ️uhaned (@capMuhaned) July 19, 2025
تعمل خوارزميات منصات التواصل الاجتماعي وفق مبدأ بسيط وخطير في آنٍ معًا: ما تتفاعل معه، يُغذَّى لك باستمرار، وبذلك فإن مجرد مشاهدة أو مشاركة منشور معين يفتح الباب لتدفّق محتوى مشابه، دون تمييز بين الصحيح والمضلل، وفي بيئة مشحونة كالبيئة السورية، يتحوّل هذا السلوك الخوارزمي إلى آلة تضخيم للأخبار الكاذبة، تُكرّس الانقسامات وتغذّي الكراهية.
يحذّر أحمد بريمو من أن هذه الخوارزميات لا تسعى للحقائق، بل للأرباح، إذ تُروّج للمحتوى الأكثر إثارة وتفاعلًا، بغض النظر عن دقته، ويضيف أن صناع المحتوى، الذين يتقاضون أموالًا بناءً على عدد المشاهدات، يجدون في الأخبار المفبركة وسيلة سهلة للانتشار والربح، ما يدفعهم لتغذية سوق التضليل بلا ضوابط.
في هذا السياق، تحذّر الباحثة باربرا والتر في كتابها “كيف تندلع الحروب الأهلية؟ وكيف يمكن إيقافها؟” من العوامل التي تقود الدول إلى التفكك، وعلى رأسها الانقسامات الهوياتية الحادة، الدينية أو العرقية، حين تقترن بتسلّح المجموعات ووجود قيادات انتهازية، وتُشير والتر تحديدًا إلى الدور الذي تلعبه وسائل التواصل الاجتماعي في تسريع هذا الانهيار، نظرًا لقدرتها على تضخيم المحتوى التحريضي عبر خوارزميات تُبرز ما يثير الخوف والغضب، وتمنح الأكاذيب أفضلية الوصول على حساب الحقائق.
الفجوة المعلوماتية في سوريا الجديدة
رغم أن انتشار الأخبار الكاذبة ظاهرة عالمية، إلا أن تأثيرها يصبح أشد وطأة في البيئات الهشة، كما في سوريا ما بعد الأسد، حيث تزامن الانتقال السياسي الحساس مع انهيار المنظومة الإعلامية الرسمية، ما خلق فراغًا معلوماتيًا عميقًا وميدانًا مثاليًا لتفشي الشائعات، خاصةً مع توقف مؤسسات الإعلام الرسمي بالكامل في ديسمبر/كانون الأول الماضي، ما دفع المواطنين إلى الاعتماد شبه الكلي على منصات التواصل، وعلى رأسها فيسبوك، كمصدر رئيسي لمتابعة المستجدات.
في ظل هذا الفراغ، تضاعف تأثير المواد المفبركة والمضللة، خاصة مع غياب مصادر رسمية موثوقة تغطي الأحداث الميدانية أو تواكبها، ويعلّق أحمد بريمو على هذا الواقع مؤكدًا أن تقصير الحكومة الانتقالية في ملء هذا الفراغ ساهم في تفاقم الأزمة، بدءًا من تأخّرها في تحديد ناطقين رسميين أو منصات موحدة للمعلومات، مرورًا بانعدام التنسيق بين الوزارات، وصولًا إلى الغموض والارتباك الذي شاب تعاطيها مع أحداث كبرى كتمرد الساحل واشتباكات السويداء، إذ كان أداؤها بطيئًا من الناحية الإعلامية، كما لم تكن إجاباتها دقيقة.
في المقابل، يشير بريمو إلى أن حداثة عهد الحكومة قد تبرر جزئيًا هذا الارتباك، إذ لا تملك الخبرة أو البنية المؤسسية للتعامل مع أزمات معقدة بهذا الحجم، وهي تحديات تفشل أحيانًا حكومات مستقرة في إدارتها، فكيف بدولة تنهض من ركام الاستبداد والحرب.
بالنظر إلى التجربة السورية، الأخبار الزائفة باتت أدوات تعبئة وتحشيد، ووسائل لشيطنة الخصوم وإعادة ترسيم خطوط الانقسام، وهو ما يجعل من مواجهة التضليل الإعلامي أولوية وطنية، وجرس إنذار للحكومة الانتقالية لملء الفجوة المعلوماتية، وتطوير منظومة تواصل شفافة وفعالة، تقي المجتمع شر الفتنة الرقمية، وتمنح السوريين فرصة للتفكير مرتين قبل تصديق أو نشر أي معلومة.