وقعت اشتباكات بين عددٍ من أهالي مركز بلقاس بمحافظة الدقهلية وأفراد الشرطة، خلال تجمهر الأهالي يوم 27 يوليو/تموز الماضي، في محيط محكمة بلقاس، احتجاجًا على وفاة أيمن صبري، البالغ من العمر 21 عامًا، أثناء احتجازه بمركز الشرطة، وكان قد أُلقي القبض على أيمن يوم 19 يوليو/تموز، أي قبل الوفاة بنحو عشرة أيام، بتهمة تعاطي المخدرات وحيازة سلاح أبيض، ولاحظت أسرته وجود آثار تعذيب على جسده، بينما صرّح محاميه بأنه تعرّض للتعذيب على يد ضباط القسم.
لم تكن هذه الحادثة جديدة على المصريين، لا من حيث طبيعتها ولا من حيث تداعياتها؛ إذ تتكرر مثل هذه الوقائع بين فترة وأخرى، يُقتل فيها مواطنٌ مصري تحت التعذيب داخل مقارّ الاحتجاز، أو في أقبية مباني الأمن الوطني، سواء كان المتهم سياسيًا أو جنائيًا، فلا فرق، فالتعذيب، لدى الأمن المصري، ليس سلوكًا عشوائيًا أو انفعاليًا بل عقليةٌ راسخة ومنهجٌ تاريخي.
في هذا المقال، نحاول فهم جذور هذه العقلية، ونتساءل: هل يمكن أن تقود هذه الممارسات، التي تصل إلى القتل، إلى تحريك الشارع مجددًا كما حدث في يناير/كانون الثاني 2011؟
التعذيب كمنهج تاريخي
تاريخيًا، ومنذ تأسيس “مصر الحديثة” على يد محمد علي (1805)، لا سيما عند بناء الجيش المصري في عشرينيات القرن التاسع عشر، كان تعامل الدولة المصرية المُؤسَّسة حديثًا مع المصريين غير إنساني، وكأنهم مجرد أجساد وأرقام تُستخدم وتُوظَّف لخدمة مصالح الدولة الجديدة.
نظرًا لهذا التصوّر، اعتُبر المواطنون المصريون أدوات في يد السلطة، يُستخدمون في بناء الجيش، كما في قطاعات أخرى كالزراعة، ضمن منظومة إقطاعية استعبادية، ولم يكن الحفاظ على حياتهم هدفًا للدولة، بل سُجن بعضهم لتخلّفهم أو هروبهم من التجنيد الإجباري، وعوقب آخرون بالتشويه أو بإنهاء حياتهم.
هذه الممارسات، التي تصل إلى حدود الإبادة الرمزية والجسدية، أسست فلسفة راسخة في عقل الدولة، بأن السلطة السياسية العليا تملك أجساد المصريين، ولها الحق الكامل في استخدامهم وتسخيرهم بكل أشكال التوظيف الممكنة بما يخدم مصالحها.
وبعد قيام الجمهورية المصرية وإنهاء حكم الباشاوات، أي بعد ثورة يوليو 1952، لم تتغير هذه الفلسفة. ربما تغيرت بعض المفاهيم، وسُنّت قوانين إصلاحية تُساوي بين المواطنين في التعليم والصحة والعمل، فقد بشّرت دولة عبد الناصر الجديدة بحلم العروبة والاشتراكية والمساواة، إلا أن العقلية العميقة للدولة، وفي القلب منها جهازها الأمني، لم تتغير في تعاملها مع المواطن المصري العادي، ذاك الذي لا يملك سلطة أو نفوذًا؛ فظلت المعاملة قاسية، خالية من أي اعتراف بالكرامة أو الحقوق.
اليوم، لا توجد تنظيمات أو نقابات أو كيانات حقوقية فاعلة داخل مصر، يمكنها أن تحشد الناس أو تقودهم نحو مطلب سياسي جامع، أو حتى تحرّك احتجاجًا منظمًا ذي أفق ثوري.
توسعت الجمهورية في إنشاء مؤسساتها، وعلى رأسها المؤسسة الأمنية، التي أنشأت أجهزة وفروعًا وقوات متعددة المهام، ونتيجة لذلك تضخم الجهاز الأمني إلى درجة مكّنته من إحكام السيطرة على المجتمع، وقمع كل أشكال التمرّد، سواء كان سياسيًا أو اجتماعيًا أو حتى فرديًا لا يمتّ للسياسة بصلة، ورافق هذا الإخضاع توسّعٌ في ممارسات التعذيب، حتى بات التعذيب سمة لصيقة بمؤسسات الأمن، وأصبح السؤال الأول الذي يُطرح على أي مواطن دخل قسم شرطة أو تعامل مع الأمن: “هل تم تعذيبك؟”.
وفي عهد عبد الفتاح السيسي، لم يتغير الأمر، بل تفاقم، فقد ازدادت الأجهزة الأمنية تغوّلاً، واستُخدمت صلاحياتها بلا حدود، حتى صار التعذيب معاملة أساسية في مراكز الاحتجاز، وقد وثّقت المنظمات الحقوقية والصحافية آلاف حالات التعذيب بأشكاله المختلفة، بما في ذلك القتل داخل أقسام الشرطة ومقارّ الأمن الوطني.
وباتت حادثة مقتل مواطن تحت التعذيب، بغض النظر عن تهمته أو خلفية احتجازه، أمرًا اعتياديًا ومشهدًا متكررًا في حياة المصريين، فلم تعُد تلك الانتهاكات مجرد تجاوزات فردية أو انفعالات طارئة، بل غدت جزءًا من منظومة عقلانية متأصلة في بنية الدولة المصرية.
هل التعذيب يشعل ثورة؟
كان السبب الرئيسي في اندلاع ثورة يناير هو ممارسات التعذيب والإذلال المتزايدة بحق المواطنين على يد رجال الأمن، والتي أسفرت عن مقتل شابين مصريين قبل اندلاع الثورة بأيامٍ وشهور قليلة، وهما خالد سعيد وسيد بلال، وكان اختيار يوم 25 يناير، عيد الشرطة المصرية، للاحتجاج خيرَ دليلٍ على المطلب الحقيقي، وهو وقف التعذيب ومحاسبة القَتَلة من عناصر وزارة الداخلية، ولاحقًا توسّعت المطالب مع تنامي الزخم الشعبي لتشمل إسقاط نظام مبارك نفسه، كما حدث في 11 فبراير/شباط 2011.
وهنا يبرز السؤال: هل يمكن أن يؤدّي القتل المتواصل تحت التعذيب اليوم إلى إشعال ثورة جديدة؟ لا سيما أن الأسباب التي دفعت المصريين للثورة في يناير 2011 لا تزال قائمة، بل باتت أكثر تفاقمًا، من تعذيبٍ وفقرٍ وقمعٍ للحريات، إلى انعدام الأمل السياسي، لكنّ الإجابة، على الأرجح، هي “ربما”، باحتماليةٍ ضعيفة، أن تحدث ثورة مستقبلًا – بمفهومها الكامل، لا على شكل احتجاجات وقتية – بسبب القتل المنهجي الذي يُمارس بحق المواطنين، وذلك لاختلاف طبيعة المرحلة السياسية والاجتماعية في مصر اليوم عمّا كانت عليه قبل 2011، بالإضافة إلى تحولات عميقة طرأت على الوعي الجمعي للمجتمع المصري.
في ظل سلطوية السيسي، بات تفاعل المجتمع مع حوادث القتل تحت التعذيب يقتصر على الانفعال اللحظي، لا الفعل المنظم، أي أننا نشهد احتجاجًا عابرًا على الحدث لا على السياسات التي أنتجته.
أولى هذه الاختلافات تتعلّق بالمجتمع نفسه؛ إذ راكم المصريون، وعلى رأسهم القوى السياسية والحقوقية، منذ أواخر التسعينيات وحتى 2011، تجربة نضالية امتدت إلى العمل الحقوقي والسياسي والنقابي، وأثمر هذا التراكم عن نشوء كتلة مجتمعية منظمة، استطاعت قيادة الجماهير وتحويل مطالبها من مجرد وقف التعذيب إلى إسقاط النظام، أما اليوم، فالسياق مختلف تمامًا؛ إذ لا توجد تنظيمات أو نقابات أو كيانات حقوقية فاعلة داخل مصر، يمكنها أن تحشد الناس أو تقودهم نحو مطلب سياسي جامع، أو حتى تحرّك احتجاجًا منظمًا ذي أفق ثوري.
أما من جهة السلطة، فقد كانت سلطة مبارك، رغم قمعها، تسمح بهوامش من الحرية في العمل العام، شملت مجالات مثل السينما والثقافة والنقابات والمشاركة السياسية، فضلًا عن وجود مؤسسات مجتمع مدني، في القلب منها منظمات حقوقية، راقبت ورصدت انتهاكات وزارة الداخلية ودافعت عن الضحايا.
على عكس سلطوية السيسي الشمولية التي لم تترك مجالًا أو فضاءً عامًا إلّا واحتكرته، عبر ممارسات قمعية شديدة، أفضت خلال 12 عامًا إلى تجفيف كامل للحياة العامة، فلا سياسة ولا حقوق ولا فنون مستقلة، ولا يُسمح بوجود أي رواية سوى رواية الدولة، وقد رافق ذلك عنف بالغ مارسته السلطة منذ يوليو/تموز 2013 حتى اليوم، خلّف عشرات الآلاف من المعتقلين وآلاف القتلى، إلى جانب حملات الإخفاء القسري والاعتقال التعسفي.
وفي ظل هذه السلطوية، بات تفاعل المجتمع مع حوادث القتل تحت التعذيب يقتصر على الانفعال اللحظي، لا الفعل المنظم، أي أننا نشهد احتجاجًا عابرًا على الحدث لا على السياسات التي أنتجته، ففي كل مرة يُقتل فيها مواطن تحت التعذيب، يخرج أهالي الضحية أو سكان المنطقة في تظاهرة محدودة أمام المحكمة أو قسم الشرطة، كما حدث مؤخرًا في بلقاس بمحافظة الدقهلية، لكنّ هذه الاحتجاجات غالبًا ما تنتهي بانتهاء الحدث، دون أن تتوسع أو تتصل بسياقات مجتمعية أوسع، فالسلطة تتدخّل سريعًا لاحتوائها، إما بالقمع أو بالمناورة السياسية، بما يمنع أي امتدادٍ أو تكرار.
وفي ظل غياب حاضنة تنظيمية، سياسية أو حقوقية، يلتفّ حولها الناس للمطالبة بوقف سياسة التعذيب ومحاسبة القَتَلة، تظل هذه الممارسات جارية بلا مساءلة، فيما تتمادى السلطة في عقلية استباحة أجساد المصريين، كما لو أنها تملكهم، فالسلطة الحالية أسست وجودها على العنف، أكثر من أي نظام سابق، حتى بات القمع سمة بنيوية في طريقة إدارتها، وأصبح المصريون ضحايا يتزايد عددهم يومًا بعد يوم، في ظل حياة قمعية لم يعيشوها مثلها من قبل.