رغم فشل مجلس الشيوخ الأميركي في تمرير مشروعي قانون يهدفان إلى حظر تصدير الأسلحة إلى “إسرائيل”، إلا أن نتائج التصويت الأخيرة شكّلت تقدمًا لافتًا في مسار المعارضة المتصاعدة داخل الحزب الديمقراطي للدعم العسكري غير المشروط لتل أبيب، وعكست تحوّلًا سياسيًا تدريجيًا في واشنطن، يتجاوز حدود الرمزية نحو تحدٍّ مباشر للسياسات الأميركية التقليدية تجاه “إسرائيل”.
وقد صوّت 27 عضوًا ديمقراطيًا – أي أكثر من نصف الكتلة الديمقراطية – لصالح مشروع يقضي بمنع تصدير 20 ألف بندقية هجومية آلية إلى “إسرائيل”، فيما دعم 24 سيناتورًا مشروعًا موازيًا لحظر صفقة قنابل بقيمة 675 مليون دولار، وهذه الأرقام تُعد الأعلى حتى الآن مقارنة بمحاولات سابقة قادها السيناتور بيرني ساندرز.
جاء التصويت مساء الأربعاء، 30 يوليو/تموز، في وقت تتفاقم فيه الكارثة الإنسانية في قطاع غزة، حيث حذرت الهيئة الدولية المعنية بأزمات الغذاء من أن “أسوأ سيناريو للمجاعة يتكشف حاليًا” هناك، نتيجة حرب تجويع قاربت عامها الثاني.
ماذا تضمّن مشروعا ساندرز؟
جاء مشروعَا القرار اللذان تقدّم بهما السيناتور بيرني ساندرز ليشكّلا تحديًا مباشرًا للركيزة الأكثر ثباتًا في علاقة الولايات المتحدة بـ”إسرائيل”: الدعم العسكري غير المشروط، حيث دفع ساندرز بمقترحين واضحين لوقف صادرات أسلحة هجومية تُستخدم في حرب تُجمع التقارير الأممية على أنها الأكثر فتكًا بالمدنيين منذ عقود.
المشروع الأول سعى لحظر صفقة بقيمة 675 مليون دولار، تشمل آلاف القنابل من طراز MK-83 عالية القدرة التفجيرية، مزوّدة بأنظمة توجيه دقيقة JDAM، يُعتقد أنها تُستخدم في استهداف مناطق مكتظة بالسكان، أما المشروع الثاني، فاستهدف وقف تصدير 20 ألف بندقية هجومية آلية إلى القوات الإسرائيلية، في ظل توثيق ميداني لتوسع عمليات القمع والقتل في الضفة الغربية.
ورغم فشل تمرير القرارين، إلا أن عدد الأصوات المؤيدة لهما، وخاصة من داخل الحزب الديمقراطي، شهد ارتفاعًا ملحوظًا، ففي تصويت مماثل أجري في إبريل/نيسان الماضي، أيّد 15 سيناتورًا فقط وقف مبيعات الأسلحة لـ”إسرائيل”، بينما ارتفع العدد في جلسة الأربعاء إلى 27، أي بزيادة 12 عضوًا.
وقد لخّص ساندرز دوافعه خلال مداخلته بالقول: “هذا القرار ضروري تمامًا، لأن الولايات المتحدة لن يكون لها أي مصداقية في المجتمع الدولي إذا لم نقف ضد هذا الوضع”، فيما أعرب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قبل يوم فقط من إجراء التصويت، عن دعمه لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مدّعيًا أن الأخير يحرص على ضمان توزيع المساعدات الغذائية في قطاع غزة بطريقة منظمة تحول دون استيلاء حركة حماس عليها.
لماذا تزايد عدد الأصوات المؤيدة؟
لم يكن تحرّك بيرني ساندرز الأخير معزولًا عن سياق سابق، بل هو حلقة ثالثة في سلسلة مبادرات تشريعية متصاعدة لمحاولة كبح تصدير السلاح الأمريكي إلى “إسرائيل”، بدأت مع اشتداد الحرب على غزة أواخر عام 2024. حيث قام ساندرز، وهو أحد أبرز الأصوات في الكونغرس المطالِبة بمساءلة “إسرائيل” على ممارساتها بتقديم مشروعين:
الأول جاء في نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي، حيث قدم ساندرز أول مشروع قرار لوقف صفقة أسلحة ضخمة، لكنه لم يلقَ حينها سوى دعم 18 سيناتورًا. والثاني في أبريل/نيسان 2025، حيث كرر المحاولة بصيغة جديدة، ولم يحصد حينها أكثر من 15 صوتًا داعمًا.
أما في جلسة التصويت الأخيرة، فقد ارتفع العدد إلى 27، ما قد يُعد انعكاسًا لتنامي الغضب داخل الحزب الديمقراطي من النهج الإسرائيلي في إدارة الحرب، خصوصًا مع ارتفاع عدد التقارير الأممية التي توثق “استخدام السلاح الأمريكي في ارتكاب انتهاكات جسيمة بحق المدنيين”.
يتزامن هذا التقدّم في عدد الأصوات المؤيدة مع تحوّلات أعمق في الإدراك العام داخل الولايات المتحدة، فقد أظهرت استطلاعات رأي حديثة أن نحو 60% من الأمريكيين لا يوافقون على استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة، بينما انخفضت نسبة التأييد إلى 32% فقط، مقابل 52% من المشاركين الذين عبّروا عن نظرة سلبية تجاه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
هذا التحوّل الشعبي لم يمرّ دون أثر في دوائر القرار؛ فقد أصبح واضحًا أن قطاعات واسعة داخل الحزب الديمقراطي، وخصوصًا التيار التقدّمي، باتت تميل إلى ربط المساعدات العسكرية الأمريكية بقواعد أخلاقية ومعايير حقوق الإنسان.
هل تغيّر الرأي العام الأميركي؟
لعلّ الدلالة الأوضح على تصدّع الإجماع التقليدي الذي لطالما حمى العلاقة بين واشنطن وتل أبيب، لا تكمن في العدد وحده، بل في نوعية الأسماء التي انضمت إلى المعسكر الرافض، حيث شهد التصويت الأخير انحياز شخصيات ديمقراطية بارزة لموقف ساندرز، في ما يشبه حركة تمرّد سياسية تتبلور بهدوء داخل الحزب.
من بين هؤلاء، السيناتور جاك ريد من لجنة القوات المسلحة، وجين شاهين من لجنة العلاقات الخارجية، وباتي موراي من لجنة المخصصات، إلى جانب أسماء ثقيلة مثل تامي داكوورث وجون أوسوف ورافائيل وورنَك ووأنغوس كينغ.
وقد أكد ساندرز في خطابه الذي تلى التصويت، أن الرأي العام الأميركي بدأ يتغير، قائلًا: “ففي ظل مشاهد الجوع الجماعي وموت الأطفال تحت الحصار، لم يعد الرأي العام متحمسًا لفكرة تمويل سياسة تدمّر شعبًا بأكمله باسم الحليف الاستراتيجي” حسب تعبيره.
وعبّر السيناتور ديك دوربين عن هذا التحوّل بقوله أنه “لم يقتنع بأجوبة نتنياهو على أسئلة المجلس بشأن الكارثة الإنسانية، فيما أشار السيناتور تيم كين بدوره إلى أن الدعم غير المشروط لإسرائيل “بات غير قابل للاستمرار بهذه المعايير”.
التحولات السياسية المتسارعة في واشنطن ستفرض على “إسرائيل” أن تستعد لمرحلة جديدة، تتطلب التكيّف مع واقع سياسي أميركي لم يعد يوفّر نفس الغطاء المطلق كما في السابق.
هذا بالتزامن مع تصريح منفصل للسيناتور المستقل عن ولاية ماين، أنغوس كينغ، الذي صرّح في وقت سابق من هذا الأسبوع بأنه لم يعد يدعم حكومة نتنياهو، قائلًا: “لقد سئمت. كنت أعتقد أن إسرائيل ستفيق وتدرك فظاعة ما تقوم به، وأنها على الأقل ستسمح بإدخال المساعدات. لكنهم استمروا في الرفض، ووصلت إلى نقطة لم أعد أتحملها”.
كذلك أشار أريك ميندل، مدير شبكة المعلومات السياسية للشرق الأوسط (MEPIN) والذي يقدّم إحاطات دورية لأعضاء الكونغرس الأميركي ومساعديهم في ملفات السياسة الخارجية، مطلع هذا العام الجاري إلى أن المساعدة العسكرية الأمريكية لـ”إسرائيل”، لم تعد بمنأى عن التغيير.
وأضاف أن التحولات السياسية المتسارعة في واشنطن سواء من جهة الجمهوريين الذين يضغطون باتجاه تقليص الإنفاق، أو من جناح ديمقراطي تقدّمي يطالب بربط المساعدات بشروط سياسية وأخلاقية، ستفرض على “إسرائيل” أن تستعد لمرحلة جديدة، تتطلب التكيّف مع واقع سياسي أميركي لم يعد يوفّر نفس الغطاء المطلق كما في السابق.
يشير هذا التبدّل، وإن لم يترجم بعد إلى تغيير ملموس في سياسات البيت الأبيض، إلى أن الإجماع الحزبي الأمريكي على دعم “إسرائيل” بدأ يتآكل، والخطاب الأخلاقي الذي تستند إليه “إسرائيل” في واشنطن بدأ يترنّح، أمام واقع دموي بات يصعب على كثير من الساسة الدفاع عنه أو تبريره أمام ناخبيهم.