أثار قرار وزارة الاقتصاد السورية بمنع استيراد 20 سلعة غذائية خلال شهر أغسطس/آب الجاري موجة من التساؤلات والانتقادات في الأوساط الاقتصادية، وسط مخاوف من تفاقم الأسعار وتعزيز الاحتكار، في ظل واقع اقتصادي ومعيشي بالغ التردّي، إذ شمل القرار، الصادر في 28 من يوليو/تموز الماضي، وقف استيراد مجموعة واسعة من المنتجات الزراعية والحيوانية.
وفي تبريرها للقرار، أوضحت “الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية السورية” أنه يأتي في إطار حزمة من الإجراءات الهادفة إلى تعزيز الاكتفاء الذاتي، وتمكين المنتجين المحليين من تسويق محاصيلهم، وضمان استقرار الأسعار في الأسواق الداخلية.
مدير العلاقات في “هيئة المنافذ البرية والبحرية”، مازن علوش، أكد في تصريح لـ”نون بوست” أن مدة المنع مؤقتة ومحصورة بشهر أغسطس/آب فقط، مشيرًا إلى أن القرار يسري على المعابر التي تديرها الحكومة السورية، وأشار علوش إلى أن معابر “تل أبيض” و”رأس العين” شمالي سوريا مستثناة من القرار في الوقت الراهن، نظرًا لكونها ما زالت معابر ذات خصوصية، وتخضع لواقع مختلف بفعل الحصار المفروض على المنطقة، كما أنها لم تُدرج بعد تحت إشراف “هيئة المنافذ”، رغم وجود جهود للتنسيق والإعداد لإدارتها.
في هذا التقرير، يرصد “نون بوست” واقع العرض والطلب على السلع المشمولة بالقرار، ويناقش مع تجار ومزارعين وخبراء اقتصاديين تداعيات الخطوة الحكومية على السوق والمنتجات والمواطنين، فضلًا عن مدى انسجام القرار مع التوجهات الاقتصادية العامة للبلاد، مع تسليط الضوء على تجارب مماثلة لدول اتخذت قرارات مشابهة في سياقات مختلفة.
أساسيات المائدة السورية
تُعدّ السلع التي شملها قرار منع الاستيراد من المواد الأساسية على مائدة العائلة السورية، لا سيما الخضراوات والبيض والدجاج، وهي سلع يتفاوت سعرها بشكل ملحوظ بين محافظة وأخرى، بل وحتى داخل المحافظة الواحدة بين الريف ومركز المدينة.
يعزى هذا التفاوت إلى عوامل متعددة، أبرزها نوع السلعة وجودتها، وتكاليف النقل، واختلاف إيجارات المحال، فضلًا عن تباين العملة المتداولة وقيمة تصريفها، حيث تعتمد مناطق إدلب وريف حلب بشكل أساسي على الليرة التركية، ووفقًا لأسعار الصرف عند إعداد هذا التقرير، يعادل الدولار الأمريكي نحو 10,350 ليرة سورية، و40.5 ليرة تركية.
وبحسب رصد أجراه “نون بوست” في مدينة حرستا بريف دمشق، بلغ سعر طبق البيض (30 بيضة) 26 ألف ليرة سورية، فيما وصل سعر الكيلوغرام من “صدر الفروج” إلى 38 ألف ليرة، و”فخذ الفروج” إلى 30 ألف ليرة.
أما أسعار الخضار، فتراوحت بين 4000 و5000 ليرة سورية للكيلوغرام الواحد من البندورة، وبين 5500 و6000 ليرة للخيار، بينما سجلت البطاطا تفاوتًا واسعًا بين 2500 و4500 ليرة سورية للكيلوغرام.
وفي مدينة دمشق، ترتفع الأسعار بنسبة تتراوح بين 10 و20% مقارنةً بريفها، في حين تسجل بعض الأصناف ارتفاعًا إضافيًا بنسبة 7 إلى 10% في مدينة إدلب.
العبء على المواطن
يرى ياسر الحكيم، صاحب مشغل “الحكيم” لتوضيب واستيراد وتصدير الخضراوات في درعا، أن قرار منع الاستيراد ينعكس إيجابًا على المزارع، إذ يرفع من سعر المنتج المحلي بشكل مباشر، دون أن يؤثر على هامش الربح الذي يحافظ عليه التاجر، وأوضح في حديثه لـ”نون بوست” أن الأسعار بدأت بالارتفاع فور صدور القرار، حيث بلغ سعر كيلوغرام البطيخ الأحمر بين 1300 و1500 ليرة سورية، بعدما كان يتراوح بين 650 و800 ليرة فقط، متوقعًا استمرار الارتفاع خلال الفترة المقبلة.
لكن هذا المكسب السريع للمزارع والتاجر يقابله عبء متزايد على المستهلك، الذي يجد نفسه مضطرًا لدفع مبالغ أكبر للحصول على نفس الكميات التي اعتاد شراءها، في وقت تتدهور فيه القدرة الشرائية لغالبية السوريين.
وتُعد هذه الأسعار مرتفعة قياسًا بالوضع المعيشي، فحتى بعد رفع الحد الأدنى للأجور إلى 750 ألف ليرة سورية، لا يغطي هذا المبلغ سوى يومين ونصف فقط من حاجات الأسرة السورية الأساسية، بحسب بيانات “مؤشر قاسيون لتكاليف المعيشة”.
تعكس هذه المؤشرات هشاشة الواقع الاقتصادي في البلاد، حيث تُظهر الأرقام الأممية أن تسعة من كل عشرة سوريين يعيشون تحت خط الفقر، فيما يعاني واحد من كل أربعة من البطالة، كما يعتمد ثلاثة من كل أربعة على المساعدات الإنسانية، في ظل عجز كبير عن تلبية متطلبات الحياة الأساسية في مجالات الصحة والتعليم والدخل والغذاء والمياه والطاقة والسكن.
ومنذ عام 2011، خسر الاقتصاد السوري أكثر من نصف ناتجه المحلي الإجمالي، حيث تشير تقديرات برنامج “الأمم المتحدة الإنمائي” إلى أن إجمالي الخسائر تجاوز 800 مليار دولار خلال 14 عامًا، في واحدة من أسوأ الكوارث الاقتصادية في تاريخ البلاد الحديث.
مفيد للمزارعين، ولكن..
يرى فراس حج عمر، وهو مزارع من ريف إدلب الشمالي، أن قرار منع الاستيراد يُعد خطوة إيجابية تصبّ في مصلحة مزارعي الخضراوات، خصوصًا البندورة والخيار والباذنجان والفليفلة، إذ يتزامن القرار مع ذروة موسم الإنتاج، ويتيح للمزارعين فرصة بيع محاصيلهم بأسعار مناسبة خلال فترة شهر، قبل دخول أي كميات مستوردة قد تُغرق السوق وتُضعف العائدات.
لكن حج عمر يؤكد في حديثه لـ”نون بوست” أن الأمر مختلف تمامًا بالنسبة للبطاطا، إذ لا يحقق القرار فائدة حقيقية للمزارعين الذين خزّنوا محاصيلهم في البرادات، استعدادًا لطرحها في السوق بعد شهرين أو ثلاثة، ما يجعلهم مهددين بخسائر محتملة إذا أُعيد فتح الاستيراد ودخلت كميات كبيرة من البطاطا التركية، وذكّر بخسارته عام 2024، حين اضطر إلى بيع محصوله المخزّن بسعر زهيد بعد تدفق البطاطا التركية إلى الأسواق خلال شهري أيلول/سبتمبر وتشرين الأول/أكتوبر.
وأوضح أن عملية جني محصول البطاطا تستغرق من 20 إلى 30 يومًا، وغالبًا ما يكون هناك فائض في الكميات، ما يستدعي من وجهة نظره تمديد فترة وقف الاستيراد لفترة أطول، لتجنّب ما وصفه بالخسائر “الكارثية” لمحصول تُعد تكاليف زراعته وتخزينه مرتفعة للغاية.
وفيما يتعلق بقطاع الدواجن، يرى محمد العمر، صاحب مدجنة “العمر” جنوبي إدلب، أن القرار لن يحدث أثرًا كبيرًا ما لم يترافق مع ارتفاع في الأسعار يعوّض خسائر المربين خلال الشهرين الماضيين، حين انخفضت أسعار الفروج بنسبة 35%.
وأشار في حديثه لـ”نون بوست” إلى أن الاستفادة الفعلية لمربي الدواجن تتطلب وقفًا أطول لاستيراد الفروج المجمد، الذي ما زال يملأ البرادات، ولفت إلى أن الإنتاج المحلي بدأ بالتعافي بعد فتح الطرق بين المحافظات عقب سقوط النظام، واستئناف عمل العديد من منشآت التربية.
وبيّن العمر أن سعر البيض لا يرتبط بسعر الفروج، لأن الدجاج المنتج للبيض يُربى بشكل منفصل عن أفواج الفروج، مشيرًا إلى أن قطاع الدواجن حساس ويتطلّب دعمًا مستمرًا، خاصة في ظل المخاطر المرتبطة بالأمراض والنفوق، وتذبذب الأسعار، ورجّح أن يشهد سعر الفروج ارتفاعًا طفيفًا خلال الفترة المقبلة، مؤكدًا أن السوق يخضع لتوازنات العرض والطلب.
من جانبه، يرى الباحث في الشأن الاقتصادي عبد العظيم المغربل أن القرار ينسجم مع توجه واضح نحو حماية الإنتاج المحلي وتعزيز الاعتماد على الذات، لا سيما في القطاع الزراعي خلال مواسم الذروة، وأوضح لـ”نون بوست” أن هذا التوجه قد يشجّع المزارعين على توسيع إنتاجهم، في ظل غياب المنافسة من المستوردات، كما يتيح للصناعات الغذائية فرصة للاستفادة من المنتجات الخام المتوفرة محليًا.
ويضيف أن القرار من شأنه أن يخفف من فاتورة الاستيراد، ويقلّص العجز في ميزان المدفوعات، لكنه في المقابل قد يتسبب بارتفاع مؤقت في الأسعار، خصوصًا إذا لم يكن الإنتاج المحلي كافيًا لتغطية الطلب، ويحذّر من أن هذا الوضع قد يفتح الباب أمام حلقات التوزيع لاحتكار السلع والمضاربة بها، ما يتطلّب رقابة صارمة من الجهات المختصة.
مع ذلك، يرى المغربل أنه في حال تم ضبط الأسواق بشكل جيد، ودُعم المزارع في عملية الإنتاج والتسويق، فإن الآثار السلبية ستبقى محدودة، مع التأكيد على ضرورة تحقيق توازن بين حماية الإنتاج المحلي وضمان ديناميكية السوق.
وختم الباحث بالإشارة إلى أن المستهلك، لا سيما من ذوي الدخل المحدود، سيكون المتأثر الأبرز من أي ارتفاع في الأسعار أو تراجع في وفرة السلع، ما يفرض ضرورة إرفاق القرار بإجراءات رقابية ودعم اجتماعي حقيقي، حتى لا تتحوّل النوايا الحمائية إلى عبء إضافي على المواطنين.
قرار يتماشى مع توجهات الحكومة
منذ سقوط نظام بشار الأسد، حرصت الحكومة السورية الجديدة على إعلان توجهها نحو دعم المنتج المحلي، لا سيما القطاع الزراعي، الذي كان يشكل نحو 33% من الناتج المحلي قبل عام 2011، وتراجع اليوم إلى نحو 12%، أما على صعيد العمالة، فقد كان هذا القطاع يستوعب أكثر من 30% من القوى العاملة، بينما لا تتجاوز النسبة حاليًا 15%.
وفي سياق هذا التوجه، وقّع نائب وزير الاقتصاد والصناعة لشؤون التجارة الداخلية، ماهر خليل الحسن، في 17 من يوليو/تموز الماضي، اتفاقية مع برنامج الأغذية العالمي (WFP) تهدف إلى تعزيز الأمن الغذائي وتطوير البنية التحتية لإنتاج وتوزيع الغذاء في سوريا، وأكد الحسن أن الشراكة مع البرنامج تُشكّل ركيزة استراتيجية لدعم الاقتصاد الوطني والإنتاج المحلي، مشددًا على ضرورة التركيز خلال المرحلة المقبلة على رفع كفاءة وجودة الإنتاج الغذائي.
وانطلاقًا من هذا الإطار العام، يرى الباحث الاقتصادي عبد العظيم المغربل أن قرار منع استيراد 20 سلعة غذائية يتماشى مع السياسات الحكومية الحالية التي تسعى إلى تعزيز الاكتفاء الذاتي وتخفيف الاعتماد على الواردات، لكنه شدد في حديثه لـ”نون بوست” على ضرورة أن يكون هذا القرار جزءًا من منظومة إصلاحية أشمل تشمل دعم الإنتاج، وتخفيض تكاليف الزراعة، وتحسين شبكات التوزيع، معتبرًا أن أي خطوة غير متناغمة مع هذه الجوانب تبقى سطحية وقابلة للانهيار.
في عهد الأسد: تخبط وتناقض واحتكار
خلال السنوات الماضية، وقبيل سقوط النظام السابق، اتّسمت قرارات الحكومة الاقتصادية بالتناقض وعدم الثبات، لا سيما في ملف الاستيراد والتصدير، فعلى سبيل المثال، أصدرت حكومة بشار الأسد في يناير/كانون الثاني 2022 قرارًا بمنع تصدير زيت الزيتون حتى نهاية العام، ثم رفعت الحظر لاحقًا بشكل مفاجئ، ما أثر سلبًا على وفرة المادة محليًا.
وفي قضية استيراد الموز، اتبعت الحكومة سياسة انتقائية، فحظرت استيراده من مناشئ أجنبية، وسمحت بجلبه من لبنان فقط، مع فرض رسوم إضافية بلغت 200 ليرة سورية للكيلوغرام، وربطت الاستيراد بتصدير الحمضيات، في خطوة وصفت بأنها مصمّمة لخدمة مصالح محددة.
وشهدت سنوات 2023 و2024 أزمات حادة في الأسواق بسبب هذه السياسات المتذبذبة، منها أزمة نقص في البطاطا والثوم بعد فتح باب التصدير، وقبلها أزمة “البصل”، التي تعمّدت بعض الجهات استغلالها عبر سحب المادة من الأسواق وتخزينها ثم إعادة طرحها كمادة مستوردة بأسعار مضاعفة، وفق ما وثّقته صحيفة “البعث” الحكومية في فبراير/شباط 2024.
وترافق هذا التخبط مع سياسة جمركية مشددة أعاقت الاستيراد، ودَفعت العديد من التجار للجوء إلى التهريب. كما استُخدمت بعض قرارات المنع أداة لتحقيق مكاسب ضيقة لفئة من التجار النافذين في النظام، على حساب استقرار الأسواق وحقوق المستهلك.
جدير بالذكر أن قرارات مشابهة بمنع استيراد أصناف زراعية كانت تُصدر أيضًا في مناطق سيطرة فصائل المعارضة قبل سقوط الأسد، مثل قرار “حكومة الإنقاذ” في إدارة معبر “باب الهوى”، الذي منع استيراد البصل اليابس والثوم والبطاطا والخيار والكوسا، دعمًا للإنتاج المحلي وتشجيعًا للفلاحين على الاستمرار في الزراعة.
رغم الجدل الذي يرافق مثل هذه القرارات، إلا أن سياسة حظر استيراد بعض السلع الزراعية والحيوانية تُعدّ أداة اقتصادية مؤقتة تلجأ إليها العديد من الدول في ظروف استثنائية، سواء لحماية السوق المحلي، أو لتنظيم العرض، أو لضمان سلامة الغذاء.
وتتنوع دوافع هذه القرارات بين الأمن الغذائي والاقتصاد والصحة العامة، وغالبًا ما تكون مرهونة بتطورات السوق، ففي أبريل/نيسان 2023، فرضت حكومتا بولندا والمجر حظرًا مؤقتًا على استيراد منتجات زراعية أوكرانية، بينها الحبوب والخضراوات، بعد تدفق كميات كبيرة بأسعار منخفضة أثرت سلبًا على المزارعين المحليين.
كما فرضت ناميبيا في عام 2019 حظرًا مؤقتًا على استيراد 10 أصناف من الخضراوات، لإجراء تقييم شامل للإنتاج المحلي وضبط التوازن في السوق. وفي 2017، أصدرت الإمارات قرارًا مماثلًا ضد واردات زراعية من مصر والأردن ولبنان وسلطنة عمان، بسبب تجاوزها الحد المسموح به من بقايا المبيدات.
بالتالي، فإن قرار الحكومة السورية بمنع استيراد 20 سلعة غذائية ليس خروجًا عن المألوف، لكنه يبقى مرهونًا بكيفية تطبيقه ومرافقة ذلك بإجراءات تنظيمية ورقابية تضمن حماية المنتج المحلي من جهة، وعدم تحميل المستهلك عبء الفاتورة من جهة أخرى.