استقبلت موسكو، يوم الخميس 31 يوليو/تموز، وزيري الخارجية والدفاع السوريين في قصر الضيافة، في زيارة تُعيد رسم ملامح العلاقة بين دمشق وموسكو على أرضية جديدة، فقد التقى وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، نظيره الروسي سيرغي لافروف، وتناول جملة من الملفات المرتبطة بمستقبل العلاقات الثنائية، وأثار تساؤلات جوهرية حول ما إذا كانت روسيا، التي دعمت النظام السابق لسنوات طويلة، تعيد اليوم تموضعها في الملف السوري.
لم يقتصر اللقاء على الإطار الدبلوماسي التقليدي، بل اتّخذ أبعادًا رمزية لافتة، أبرزها دعوة لافروف للرئيس السوري الجديد، أحمد الشرع، للمشاركة في القمة الروسية–العربية الأولى المزمع عقدها في موسكو منتصف أكتوبر/تشرين الأول المقبل، فرغم ما تحمله هذه الدعوة من مجاملة دبلوماسية، إلا أن في جوهرها إشارة حرص روسي على تثبيت قنوات التواصل مع الدولة السورية الجديدة، التي حاولت موسكو وأد ولادتها.
في ضوء هذا التطور، يُصبح من المشروع طرح السؤال: هل تسعى موسكو إلى بناء تحالف مصالح جديد مع دمشق، تحالف يتجاوز ذاكرة الماضي المثقلة بدماء السوريين، ويؤسس لعلاقة أكثر براغماتية ومرونة؟ أم أن ما جرى لا يعدو كونه خطوة تكتيكية تهدف إلى تقليل الخسائر السياسية؟
ماذا تضمن اللقاء؟
تركّز اللقاء، الذي وصفته وزارة الخارجية السورية بـ”التاريخي”، على ملفات التعاون السياسي والعسكري، إلى جانب إعادة تقييم الاتفاقيات الموقعة خلال عهد النظام السابق، وأكدت الوزارة أن اللقاء يمهّد لمرحلة جديدة من التفاهم بين البلدين، تقوم على احترام سيادة سوريا ووحدة أراضيها.
من جانبه، شدّد وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، خلال المؤتمر الصحفي المشترك مع نظيره الروسي سيرغي لافروف، على التزام دمشق بإعادة صياغة العلاقة مع موسكو على أسس جديدة تراعي مصالح الشعب السوري، مشيرًا إلى الاتفاق على تشكيل لجنتين لمراجعة جميع الاتفاقيات الموقعة في عهد نظام الأسد.
إلى جانب ذلك، وجّه لافروف دعوة رسمية للرئيس السوري أحمد الشرع لحضور القمة الروسية–العربية المقررة في أكتوبر/تشرين الأول المقبل، في خطوة فسّرها مراقبون بأنها محاولة روسية لإعادة تثبيت العلاقة مع دمشق الجديدة، بلغة سياسية مختلفة عن تلك التي اعتادت موسكو أن تخاطب بها النظام السابق.
وزير الخارجية والمغتربين السيد أسعد حسن الشيباني يلتقي نظيره الروسي السيد سيرجي لافروف في قصر الضيافة بالعاصمة موسكو، في أول زيارة رسمية للسيد الوزير، وذلك لإجراء مباحثات ثنائية بين الطرفين. pic.twitter.com/8fwwwOU4IF
— وزارة الخارجية والمغتربين السورية (@syrianmofaex) July 31, 2025
خلال المؤتمر نفسه، قال الشيباني إن سوريا “لا تحمل نية عدوانية تجاه إسرائيل”، لكنه شدّد على رفض أي “تدخل في الشؤون الداخلية” أو استخدام “ورقة الأقليات”. وفي تعليقه على التطورات الأخيرة في محافظة السويداء، أشار إلى أن التصعيد هناك جاء نتيجة “قصف ممنهج من إسرائيل خلال الأسبوعين الماضيين”، أجبر القوات السورية على الانسحاب من مواقع كانت تنتشر فيها، ما خلق فراغًا استغلّته مجموعات مسلحة مرتبطة بالخارج.
ردّ لافروف من جهته مؤكدًا دعم بلاده لمبادرة الصليب الأحمر بالتنسيق مع الحكومة السورية للمساعدة في السويداء، مشددًا على أن الحل لا يمكن أن يكون إلا من خلال “سيطرة الدولة”، وأن الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي السورية “تنتهك القانون الدولي ومن الضروري وقفها”.
يُذكر أن الملف السوري كان حاضرًا أيضًا في الاتصال الهاتفي الذي أجراه الرئيس فلاديمير بوتين مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مطلع الأسبوع، وبحسب بيان الكرملين، فقد ناقش الطرفان “الوضع المتوتر في الشرق الأوسط”، فيما أكد بوتين على أهمية الحفاظ على “سيادة سوريا وتعزيز الاستقرار السياسي الداخلي فيها”.
الملفات المطروحة
تناولت المباحثات بين الجانبين عدة ملفات أمنية وعسكرية، أبرزها مستقبل القواعد الروسية في سوريا، والملف الكردي، وإعادة تنظيم العلاقة مع القوى الإقليمية والدولية، وخلال المؤتمر الصحفي المشترك، وجّه لافروف شكره للسلطات السورية على تأمين القاعدتين الروسيتين في طرطوس وحميميم، مؤكدًا أن موسكو مهتمة بتوسيع التعاون مع دمشق، وأنها تدعم وحدة الأراضي السورية وترفض تحويل البلاد إلى ساحة تنافس جيوسياسي.
في الملف الكردي، أعرب لافروف عن أمله بأن تكون الانتخابات التشريعية المقبلة، المقررة بين 15 و20 سبتمبر/أيلول، شاملة لكل المكونات والطوائف، مشيرًا إلى أهمية بقاء الأكراد ضمن الدولة السورية، وضمان حصولهم على كامل حقوقهم، ما يُظهر توافقًا مبدئيًا بين موسكو ودمشق على تسوية العلاقة المتوترة مع قوات “قسد” في شمال شرقي البلاد، ضمن إطار الدولة الواحدة.
كما تم الاتفاق على تشكيل لجنة وزارية سورية–روسية لمراجعة الاتفاقيات السياسية والاقتصادية السابقة، في إشارة إلى رغبة الطرفين بترتيب العلاقة على أسس جديدة. فيما صرّح الشيباني بإن العلاقة بين البلدين تتجه نحو “سياق استراتيجي متميّز”.
في زيارة رسمية إلى موسكو، صرّح وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني برغبة #دمشق في بناء علاقة صحيحة وسليمة مع روسيا، تقوم على التعاون والاحترام.#سوريا pic.twitter.com/jISB3hfp6m
— نون سوريا (@NoonPostSY) July 31, 2025
من جهتها، أعلنت وزارة الدفاع الروسية أن اللقاء الذي جمع الوزير أندريه بيلوسوف بنظيره السوري مرهف أبو قصرة تناول آفاق التعاون بين وزارتي الدفاع والوضع في الشرق الأوسط. ونشرت صورًا للمحادثات التي جرت بحضور وزير الخارجية السوري، فيما يرجّح أن تكون مسألة السلاح السوري الذي ما زال يعتمد إلى حد كبير على المنظومات الروسية منذ ستينيات القرن الماضي قد طُرحت ضمن جدول النقاشات.
كيف تلقّى السوريون لحظة المصافحة؟
لم تمرّ لحظة اللقاء السوري–الروسي مرور الكرام لدى كثير من السوريين، إذ لا تزال موسكو حاضرة في الذاكرة الجمعية كرمز للقتل والقصف، بعدما لعبت دورًا محوريًا في منع محاسبة النظام السوري، مستخدمة حق النقض (الفيتو) 17 مرة لإجهاض أي مسعى دولي نحو العدالة.
وفي أوساط ذوي الضحايا و”ولاة الدم”، قوبل اللقاء بغضب، إذ أعاد ناشطون تداول تصريحات سابقة لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، كان قد أدلى بها خلال ذروة القصف على المدن السورية، مرفقين إياها بتعليقات ساخرة أو غاضبة، تعبّر عن رفضهم لأي تقارب مع دولة يرونها شريكًا مباشرًا في مأساتهم.
استُعيدت في هذا السياق جملة الشهيد أدهم أكراد: “تسقط موسكو ولا تسقط درعا”، تعبيرًا عن رفض أي تقارب غير مشروط مع دولة كانت، في نظرهم، جزءًا من الجريمة. كما شبّه البعض الزيارة بـ”عار دبلوماسي” لا يقل عن استقبال مسؤول إسرائيلي في الجولان المحتل.
“تسقط موسـكو ولا تسقط درعـا”
قالها أدهم أكراد ذات يوم ورحل pic.twitter.com/5valswU2mw
— Khaled Mawardi (@free_daraa_) July 31, 2025
في المقابل، تبنّى آخرون موقفًا أكثر واقعية، ورأوا أن الجلوس إلى طاولة الحوار مع موسكو ضرورة لا يمكن تجاوزها، فروسيا، باعتبارها دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن، تملك حق النقض (الفيتو) الذي يُعطّل أي مسار قانوني لرفع العقوبات الدولية عن سوريا، وبدون ذلك، لن يكون ممكنًا للشركات الأجنبية الدخول إلى السوق السورية، أو دفع الضرائب للدولة، ما يجعل مشاريع إعادة الإعمار الكبرى مجمّدة عمليًا.
لأن روسيا والصين يملكان حق الفيتو في مجلس الأمن وسوريا بحاجة لرفع العقوبات الاممية وليس فقط الغربية. الشركات الدولية لا تستطيع العمل في سوريا ولا دفع ضرائب للدولة في ظل العقوبات الاممية. وبالتالي معظم مشاريع إعادة الإعمار وتطوير البنى التحتية لا يمكن تنفيذها في والوقت الحالي. https://t.co/xBtmOt60Vp
— Amr Alsarraj (@amr_alsarraj) July 31, 2025
تكشف هذه الزيارة إلى موسكو عن مسعى مشترك لإعادة تعريف العلاقة السورية–الروسية بعد سقوط الأسد، لكن هذا المسعى لا يزال يواجه تعقيدات متشابكة، تبدأ من إرث سياسي وعسكري ثقيل، ولا تنتهي عند انقسام الشارع السوري حول معنى هذا التحالف.
وبين تطلع القيادة الجديدة إلى إعادة صياغة الاتفاقيات، والنهج البراغماتي في فتح قنوات مع خصوم الأمس مثل واشنطن وتل أبيب، تبرز تساؤلات جوهرية حول قدرة هذه العلاقة “المعاد صياغتها” على تحمّل هذا القدر من التناقض، دون أن تنفجر مجددًا تحت ضغط الذاكرة أو الحسابات الاستراتيجية المتضاربة.