في عالمٍ باتت فيه المنصّات الرقمية اللاعب الأبرز في تشكيل الوعي وتوجيه السرديات، لم تعد قرارات التعيين داخلها مجرد تفاصيل إدارية، بل تحوّلت إلى مؤشرات سياسية تكشف موازين النفوذ، لذلك لا يمكن قراءة تعيين إريكا مينديل، المجنّدة السابقة في جيش الاحتلال الإسرائيلي، على رأس سياسات الكراهية في “تيك توك”، بمعزل عن السياق السياسي الذي تتصاعد فيه الضغوط الأميركية الإسرائيلية لتقييد المحتوى الفلسطيني، وشيطنة التضامن معه، وإعادة هندسة حدود “المسموح” و”الممنوع” في الفضاء الرقمي.
القرار الذي جاء بعد حملة منظمة قادتها “رابطة مكافحة التشهير”، إحدى أقوى جماعات الضغط المؤيدة لـ”إسرائيل” في الولايات المتحدة، يفتح الباب أمام أسئلة جوهرية ويُنذر بموجة جديدة من كتم الصوت الفلسطيني ويعيد الجدل حول حياد المنصّات العملاقة في زمن الصراعات.
الخلفية الشخصية والعسكرية لمينديل
نشأت إيريكا في أسرة يهودية تقليدية في الولايات المتحدة الأمريكية، وبعد تخرجها من الثانوية قضت إجازتها في “إسرائيل”، قبل أن تعود إلى ولاية ميشيغان حيث بدأت دراسة البكالوريوس في العلوم السياسية والحكومة.
بدأ نشاطها في دعم الاحتلال الإسرائيلي ورفضها لأي خطاب يحمّل “إسرائيل” مسؤولية جرائمها بحق الفلسطينيين مبكرًا، إذ أشارت إلى ذلك في مقابلة معها بُثت عام 2023، قائلة: “خلال الشهر الأول لي في الجامعة، تم تقديم اقتراح لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات عليها، وكرست نفسي بكل إخلاص” لمكافحته”.
⭕️Meet TikTok’s New Zionist Censorship Tsar, Erica Mindel
Mindel is a former IDF instructor & is now employed to run TikTok’s “hate speech” enforcement.
The head of the ADL previously said Israel has a “TikTok problem”. Now a devout Zionist can censor the platform. pic.twitter.com/DgMBz6Aejv
— MintPress News (@MintPressNews) July 29, 2025
خلال العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2014، أدركت مينديل مدى “شغفها بهويتها الصهيونية”، في تأييدٍ صريح للمجازر التي كان الاحتلال يرتكبها في القطاع آنذاك، والتي أودت بحياة 1742 فلسطينيًا، بينهم 530 طفلًا.
في الوقت ذاته، بدأت مينديل تدريبها في اللجنة اليهودية الأمريكية (AJC) كمساعدة مدير لتطوير البرامج، حيث كان دورها يشمل “إعداد وإدارة وفود رفيعة المستوى للدعوة والسياسات إلى إسرائيل”، ضمّت قادة مفكرين سياسيين وصحفيين ورجال دين وأكاديميين.
لم تكتفِ مينديل بالدعم الدبلوماسي، بل بعد تخرجها من الجامعة، انتقلت إلى “إسرائيل” وبدأت الخدمة في جيشها الذي أُنشئ لإبادة الفلسطينيين، كمدرّبة في سلاح المدرعات لمدة عامين ونصف، ثم شغلت بين عامَي 2022 و2025، منصبًا كمتعاقدة لدى وزارة الخارجية الأميركية خلال إدارة بايدن، حيث عملت ضمن فريق ديبورا ليبستات، المبعوثة الخاصة لرصد ومكافحة معاداة السامية، وهو المنصب الذي يشكّل درعًا سياسيًا لحماية “إسرائيل” من أي نقد، ولو كان موثّقًا بدماء الضحايا.
يمكن تلخيص شخصية مينديل في اقتباس من حديثها في إحدى المقابلات: “يبدو غريبًا أن تُعرّف امرأة نفسها بأنها ليبرالية وتقدمية وصهيونية أيضًا، وملتزمة بالانضمام إلى جيش الدفاع الإسرائيلي، لكن بالنسبة لي، هاتان الهويتان متلازمتان. أنا يهودية أمريكية فخورة”.
إعادة تعريف ما يُسمَح بفعله وقوله
أثار تعيين إريكا مينديل موجة انتقادات حقوقية واسعة، وُصف بأنه خطوة مُمنهجة لإسكات الأصوات المناصرة لفلسطين، خصوصًا في ضوء المهام التي أعلنت عنها بنفسها عبر صفحتها على “لينكدإن”، حيث أوضحت أن دورها يتمحور حول “تطوير وتوجيه سياسات تيك توك في ما يتعلق بخطاب الكراهية”.
أما الوصف الوظيفي الرسمي الذي نشرته الشركة، فيكشف بوضوح أن مينديل ستتولى مسؤولية “صياغة ودفع مواقف المنصة بشأن خطاب الكراهية” بما يشمل “التأثير على الأطر التشريعية والتنظيمية”، و”تحليل الاتجاهات المرتبطة بخطاب الكراهية” مع تركيز خاص على المحتوى الذي يُعرَّف كـ”معادٍ للسامية”، وهي العبارة التي لطالما استُخدمت كذريعة لحجب الرواية الفلسطينية وتشويه النضال من أجل العدالة.
210 ألف منشور استخدم وسم “قف مع فلسطين”، فيما استخدم 17 ألف منشور وسم “قف مع إسرائيل” على منصة تيك توك.
🔻 استمر في دعم القضية الفلسطينية في كل الميادين المتاحة ولا تبخل بأي كلمة في وجه الظلم#StandwithPalestine pic.twitter.com/8ADgOdUYqA
— نون بوست (@NoonPost) November 8, 2023
في ذات السياق، أعرب مركز “صدى سوشيال” الحقوقي، المختص برصد الانتهاكات الرقمية ضد المحتوى الفلسطيني، عن قلقه إزاء قرار المنصة، معتبرًا أن إسناد هذا الدور الحساس إلى شخصية تحمل خلفية عسكرية في جيش متهم دوليًا بارتكاب إبادة جماعية في قطاع غزة، يشكل “مؤشرًا خطيرًا على مستقبل الحريات الرقمية للفلسطينيين”.
وحذر من أن ذلك يثير “مخاوف جدية من تأثير هذه الخلفية على سياسات المنصة، وعلى درجة استجابتها للاعتراضات والبلاغات الفلسطينية المتعلقة بالتحريض أو التمييز أو حجب الرواية الفلسطينية”، كما أكد المركز أن “الرقابة على خطاب الكراهية لا يمكن أن تُناط بشخصيات كانت جزءًا من أنظمة تمارس الكراهية منهجيًا”، لافتًا إلى أن حماية الحريات الرقمية للفلسطينيين تتطلب “استقلالية حقيقية في فرق السياسات داخل المنصات”، بالإضافة إلى مراجعة معمقة لسياسات الانحياز والكيل بمكيالين.
“نحن بحاجة لحظر تيك توك إلى الأبد”.. المرشحة للرئاسة الأمريكية، نيكي هيلي، تدعو إلى حظر منصة تيك توك بسبب ازدياد المحتوى الداعم للفلسطينيين بنسب عالية مقارنة بمؤيدي “إسرائيل”#غزه_مقبرة_الغزاة #غزة_الآن pic.twitter.com/Liq98NqhYN
— نون بوست (@NoonPost) December 7, 2023
بدوره، حذر مدير المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، رامي عبده، من أن تكون “تيك توك” هي المحطّة التالية لقمع التوثيق الرقمي لانتهاكات الاحتلال الإسرائيلي بعد تعيين إريكا مينديل، في ظلّ تصاعد حملات الرقابة على ميتا وتويتر.
وراء الكواليس: كيف فُصّل المنصب خصيصًا لـ”إسرائيل”؟
لم يكن تعيين إريكا مينديل صدفة وظيفية، بل ثمرة هندسة سياسية واضحة، فالمنصب الذي شغلته لم يكن موجودًا أصلًا داخل “تيك توك”، بل جرى استحداثه عقب اجتماع رفيع المستوى نسّقته “رابطة مكافحة التشهير” (ADL) العام الماضي، خُصّص لإعادة صياغة سياسات المحتوى في المنصات الرقمية بما يخدم أجندة الرابطة.
ووفق ما أعلنه دان غرانوت، المدير الوطني لسياسات مكافحة معاداة السامية في الرابطة، فإن استحداث هذا المنصب جاء كـ”توصية رئيسية” خرج بها الاجتماع، وطُرحت لتُعمَّم على مختلف منصات التواصل، ما يفضح المسار الذي تُدفع فيه المنصات لتبنّي أجندات سياسية تحت غطاء “مكافحة الكراهية”.
وتُعد “رابطة مكافحة التشهير” من أبرز جماعات الضغط الموالية لـ”إسرائيل” في الولايات المتحدة، وتضطلع بدور حاسم في توجيه الرأي العام وصياغة السياسات الداخلية، عبر الترهيب وتشويه السمعة والمراقبة غير القانونية والتأثير المباشر على المشرعين من خلال المال والنفوذ السياسي.
في هذا السياق، يُرجَّح أن “تيك توك” رضخت لمطالب الرابطة، محاولةً كسب ودّ المشرّعين الأميركيين وتفادي قرار الحظر الكامل في الولايات المتحدة، والذي مهّد له الرئيس السابق جو بايدن بتوقيعه قانونًا بهذا الخصوص، مبررًا الخطوة بوجود تهديد على الأمن القومي بسبب علاقة التطبيق بالحكومة الصينية.
لكن مراقبين يؤكدون أن جوهر هذا التهديد لا علاقة له بالأمن السيبراني، بل يرتبط مباشرة بانزعاج واشنطن وتل أبيب من الانتشار المتسارع للمحتوى الفلسطيني على المنصة، خاصة خلال الإبادة الجماعية في غزة، حين تحوّلت “تيك توك” إلى ساحة إعلامية بديلة كسرت احتكار الرواية، وفضحت بالصوت والصورة جرائم الاحتلال.
هذا الانزعاج عبّر عنه رئيس رابطة مكافحة التشهير، جوناثان غرينبلات، في تسجيل صوتي مسرّب قال فيه: “لدينا مشكلة حقيقية بشأن تيك توك، مشكلة الجيل زد. مجتمعنا بحاجة إلى توجيه العقول… المشكلة في أمريكا ليست يمينًا ويسارًا، بل في عدد الشبان الذين يعتقدون أن مجزرة حماس مبرّرة”.
🔴انتقد الحزب الجمهوري تطبيق “تيك توك”، مدعياً أنه يروج عمداً للمحتوى الداعم لفلسطين منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة، بهدف “غسل عقول الشباب لدعم حمـ..ـاس”، داعياً إلى حظر التطبيق الذي يسيطر عليه الحزب الشيوعي الصيني.
📌 ردًا على ذلك، نشر التطبيق بيان ذكر فيه أن انتشار المحتوى… pic.twitter.com/hl0hwbuU7V
— نون بوست (@NoonPost) November 17, 2023
وعبّر مشرّعون أميركيون بوضوح عن الموقف ذاته، فقد أكد السيناتور الجمهوري ميت رومني أن دعمه لحظر “تيك توك” سببه المحتوى المؤيد للفلسطينيين، قائلًا: “يتساءل البعض عن سبب وجود دعم ساحق لإغلاق تيك توك؟ عدد الإشارات إلى الفلسطينيين أعلى بكثير على تيك توك مقارنة بمنصات أخرى”.
التقارير الحقوقية عززت هذه المخاوف أيضًا، إذ كشف مركز “صدى سوشيال” في تقريره السنوي لعام 2024 أن 27% من الانتهاكات الرقمية ضد المحتوى الفلسطيني وقعت على “تيك توك” وحدها، أما تقرير الشفافية النصف سنوي الثاني للعام نفسه، والصادر عن “تيك توك”، فيُظهر استجابة المنصة لـ94% من طلبات حكومة الاحتلال بحذف محتوى، بما في ذلك مقاطع موثقة لانتهاكات وحسابات صحفيين ومؤسسات إعلامية وناشطين فلسطينيين وداعمين للقضية.
في النهاية، يتضح أن تعيين شخصية كإريكا مينديل هو قرار سياسي بامتياز، يُنذر بتضييق جديد على الفلسطينيين ومناصريهم حول العالم، وبينما يُعاد تعريف “خطاب الكراهية” ليشمل كل من يفضح جرائم الاحتلال أو يرفع علم فلسطين، تتّسع هوّة الثقة بين الشعوب والمنصّات التي تدّعي الحياد.