لطالما شكّلت سياسة الإنكار ركيزة أساسية في العقيدة الصهيونية، ليس كأداة دفاعية فحسب، بل كنهج استراتيجي لترسيخ مشروع الاحتلال وتثبيت روايته، فمن إنكار وجود الشعب الفلسطيني وسلب أرضه، إلى طمس الجرائم الجماعية والتقليل من فظاعة الكوارث الإنسانية، بنت “إسرائيل” سرديتها على ثلاثية، إنكار الجريمة أولًا، ثم التشكيك في الرواية، وأخيرًا قلب الحقائق واتهام الضحية.
تجلت هذه السياسة بوضوح في جريمة التجويع الممنهجة في غزة، حيث تحاول إسرائيل كسر إرادة الفلسطينيين عبر حصار قاتل، ورغم أن العالم بأسره اهتزّ لمشاهد الأطفال الهزلى، والأجساد المنهكة التي تذوي تحت وطأة الجوع، وسط إحصائيات صادمة عن سوء التغذية والمجاعة، تجنّد “إسرائيل” ماكينتها الإعلامية والدبلوماسية لتكذيب الواقع وتزييفه.
وتتعدد أدوات هذا الإنكار بين النفي الصريح، كما ورد في تصريحات نتنياهو، والتشكيك الوقح كما في ظهور ويتكوف أمام لافتة “100 مليون وجبة”، والاتهام الممنهج لأطراف ثالثة مثل الأمم المتحدة و”حماس”، فضلًا عن تسخير الدبلوماسية الناعمة للضغط على المنظمات الدولية وتطويع الروايات الحقوقية، وتقزيم الأزمة إعلاميًا عير تزييف المعطيات.
النفي المباشر
تتصاعد الضغوط الدولية والإدانات الموجهة لـ”إسرائيل” باعتبارها المسؤول المباشر عن المجاعة التي تنهش أجساد الفلسطينيين في غزة، لا سيّما من دول غربية تُبدي لأول مرة مواقف علنية بهذا الوضوح والحدّة ضد الاحتلال.
وفي مواجهة هذا التحوّل، تسارع تل أبيب، عبر مسؤوليها، إلى نفي التهم وتكذيب الوقائع رغم وضوحها وضوح الشمس، وجاء أبرز تلك الردود على لسان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي ادّعى بلا تردد: “لا توجد مجاعة في غزة، ولا توجد سياسة تجويع نتبعها”، واصفًا صور الأطفال الهزلى، وإحصائيات الوفيات الناتجة عن الجوع، بأنها مجرّد “حملة أكاذيب عمياء”.
📌 أعلنت وزارة الصحة في غزة وفاة 33 شخصًا بين 19 و22 يوليو/تموز بسبب سوء التغذية.
📌 أعلنت الأمم المتحدة أن معدلات المجاعة بين الأطفال بلغت ذروتها في يونيو/حزيران الماضي.
📌 وثّقت هيومن رايتس ووتش أن تجويع الفلسطينيين في غزة هو فعل متعمّد من قِبل “إسرائيل”. pic.twitter.com/mn2ycolNEb
— نون بوست (@NoonPost) July 23, 2025
بل وذهب نتنياهو إلى ما هو أبعد من الإنكار، حين حاول قلب المعادلة وتحميل الفضل لـ”إسرائيل” في إدخال المساعدات، قبل أن توقفها بنفسها في مارس/آذار الماضي، قائلًا: “لقد سمحنا بدخول المساعدات إلى غزة حتى في ظل الحرب، ولولا ذلك لما بقي أحد من الغزيين، ولما بقيت غزة أصلًا.”
في سياق متصل، أنكر المتحدث باسم الحكومة الإسرائيلية، ديفيد منسر، وجود أي مجاعة في غزة، مضيفًا بسخرية مبطّنة: “هناك مجاعة… الحقيقة”، زاعمًا أن ما يُروّج مجرد مزاعم لا تستند إلى واقع. أما وزير الخارجية الإسرائيلي، جدعون ساعر، فهاجم رئيس الوزراء الأسترالي أنتوني ألبانيز ونعته بـ”الكاذب”، بعدما وجّه الأخير اتهامًا مباشرًا لتل أبيب بمنع إدخال المساعدات إلى الفلسطينيين.
غير أن الإنكار الإسرائيلي لا يبدو مدفوعًا بالخجل أو محاولة التغطية، بل أقرب إلى الإصرار العدواني على تعميق الجريمة، بل والتباهي بها، ففي ذروة المجاعة التي تخنق القطاع، قال وزير التراث الإسرائيلي، عميحاي إلياهو، بدم بارد: “لا مشكلة في قصف مخازن الوقود والغذاء، وعلى الغزيين أن يجوعوا”.
أما وزير الأمن القومي المتطرّف، إيتمار بن غفير، فعبّر بوضوح عن طبيعة العقلية التي تحكم سلوك الاحتلال، حين قال صراحة: “ما كان يجب نقله إلى غزة هو شيء واحد فقط: القنابل والقصف والاحتلال وتشجيع الهجرة وتحقيق النصر”.
تحويل المسؤولية إلى أطراف ثالثة
تعمّدت “إسرائيل” تحويل الأنظار إلى أطراف أخرى في محاولة للتنصّل من مسؤوليتها المباشرة عن الكارثة الإنسانية في غزة، وذلك ضمن استراتيجية إنكار ممنهجة تهدف إلى التهرب من المساءلة القانونية والأخلاقية أمام المجتمع الدولي، خاصة بعد التراجع الحاد في سمعتها على الساحة العالمية.
لم يكتفِ، نتنياهو بنفي وجود مجاعة، بل، جدّد اتهامه لحركة حماس “بمنع دخول المساعدات وسرقتها”، رغم أن أدلة دامغة أثبتت زيف ادّعاءه، إذ أكد تحليل داخلي للحكومة الأميركية عدم وجود دليل على سرقة حماس للمساعدات الإنسانية الأممية، بعد فحصها 156 حادثة سرقة أو فقدان إمدادات ممولة من الولايات المتحدة أبلغت عنها منظمات شريكة للمساعدات الأمريكية بين أكتوبر/تشرين الأول 2023 ومايو/أيار 2025.
خطة مساعدات غزّة.. نيويورك تايمز تكشف مشروعًا إسرائيليًا بواجهة “إنسانية” تديره شركات أمنية أمريكية خاصة. pic.twitter.com/VqxBgksrsB
— نون بوست (@NoonPost) May 25, 2025
الأمم المتحدة أيضًا لم تسلم من اتهامات نتنياهو، فاعتبر أن “السبب الحقيقي وراء تأخر دخول أطنان المساعدات العالقة أمام معبر رفح هي”حماس والأمم المتحدة”، مهاجمًا المنظمة الدولية، بقوله:” لا يوجد أي عذر للأمم المتحدة، عليهم التوقف عن الكذب، والتوقف عن اختلاق الذرائع، والقيام بواجبهم”.
في ذات الإطار، اتهم منسق أعمال الحكومة الإسرائيلية في المناطق التابع لوزارة الجيش، الأمم المتحدة، بالتقصير في أداء دورها وجمع المساعدات الإنسانية من الجانب الغزي من معبر كرم أبو سالم.
وقاد الاحتلال الإسرائيلي حملة ممنهجة رقمية ضد الأمم المتحدة خلال الأيام الماضية، بعدما سمحت بدخول فتات المساعدات الإنسانية، حسب ما رصدت وكالة سند للتحقق، من خلال السماح لمؤثرين وناشطين أجانب، مؤيدين لـ”إسرائيل”، بالدخول إلى مواقع تكدست فيها المساعدات، لتصوير مشاهد معدة بعناية، تظهر الأمم المتحدة وكأنها ترفض توزيع الغذاء، بينما تبرئ الاحتلال من دماء الجوعى.
ومن أبرز الوجوه التي شاركت في الحملة، المتحدثة باسم الاحتلال، التي غردت قائلة: “لا تفرض إسرائيل قيودًا على عدد الشاحنات التي تدخل إلى قطاع غزة، لكن المشكلة تكمن في استلام المساعدات من المنظمات الإغاثية الدولية والوكالات التابعة للأمم المتحدة، وهو ما يعيق إيصالها المستمر إلى داخل غزة”.
كما برزت الناشطة اليهودية بيلامي بيلوتشي، التي ظهرت في عدة مقاطع مصوّرة من مواقع يظهر فيها تكدّس المساعدات، زاعمة أن “المساعدات تُركت حتى فسدت وتعفّنت، وأن حماس والأمم المتحدة متواطئتان في تكريس هذا الواقع”.
تقزيم الأزمة إعلاميًا
يسخّر الاحتلال قنواته الدبلوماسية والسياسية في إطار منهجية متكاملة لإنكار جريمة التجويع، مروجًا عبر بياناتٍ منمّقة وصورٍ دعائية لإسقاطات جوّية محدودة، تُعرض على أنها “جهود إنسانية”، بينما يفرض على الأرض حصارًا خانقًا يحوّل رغيف الخبز إلى حلم نادر.
يسعى الاحتلال من خلال هذه الرواية إلى تصوير نفسه كـ”شريك إنساني” يسعى لتحسين الأوضاع، رغم تأكيده المتكرر على أنه لا يتحمّل مسؤولية تدهورها، ويستشهد في ذلك بما سمح به مؤخرًا من عمليات إسقاط مساعدات جوية، لا تتجاوز في أفضل حالاتها حمولة شاحنتين.
لكن حتى هذه المساعدات الرمزية، غالبًا ما تسقط في مناطق قتال حمراء تسيطر عليها قوات الاحتلال، ما يجعل وصول المدنيين إليها مستحيلًا، بحسب المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، لتتحول بذلك “اللفتة الإنسانية” إلى فخ دعائي يُسخّر لتبرئة المجرم بدلًا من إغاثة الضحية.
وعبر ما يُسمّى “ممرات إنسانية” مؤقتة، سمح الاحتلال بمرور شاحنات لا تغطي سوى 15% من الاحتياجات الفعلية لسكان غزة، بحسب التقديرات المحلية، في خطوة شكلية تُستخدم لتخفيف الضغط الدولي دون تغيير جوهري في سياسة الحصار.
والأخطر أن هذه المساعدات المحدودة ترافقت مع تصعيد في استهداف المدنيين المنتظرين لها شمالًا ووسطًا وجنوبًا، في مشهد يُكرّس الإذلال أكثر من الإغاثة. فمنذ مطلع العام وحتى ظهر الخميس الماضي، وثّقت وزارة الصحة في غزة سقوط 1320 ضحية بين من كانوا يصطفون بانتظار المساعدات.
في إطار الدبلوماسية المُصمّمة لترويج ما تسميه “جهودها الإنسانية”، جاءت زيارة المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف إلى مدينة رفح جنوبي قطاع غزة، لتفقّد مراكز توزيع المساعدات، حيث ظهر ويتكوف في إحدى الصور وخلفه لافتة ضخمة تزعم توزيع “100 مليون وجبة على النازحين”، بينما تمتدّ خارج عدسة الكاميرا طوابير من المجوعين لا يجدون لقمة تسكت صرخاتهم.
وأجمع الفلسطينيون على أن زيارة ويتكوف لم تكن سوى مسرحية هزلية، يرعاها بالتكافل مع نتنياهو، هدفها تخفيف الغضب الدولي المتصاعد إزاء المجاعة المتفشّية في القطاع، وإيصال رسالة زائفة مفادها أن الأوضاع الإنسانية تحت السيطرة وتتحسّن.
ضمن هذه الدبلوماسية التضليلية أيضًا، تمارس “إسرائيل” ضغوطًا متواصلة لمنع إعلان المجاعة رسميًا في غزة، إذ يؤكد أليكس دي وال، مدير مؤسسة السلام العالمي في جامعة تافتس وخبير الأمن الغذائي، أن “إسرائيل تعمّدت تعطيل جمع البيانات اللازمة لإظهار عمق الجوع الحقيقي”، خاصة مع عمل الأمم المتحدة في بيئة شديدة الفوضى ومحدودية الوصول.
يتقاطع هذا التحليل مع تحذير محمود حنفي، أستاذ القانون الدولي، الذي يرى أن تردّد الأمم المتحدة في إعلان المجاعة لا يعود فقط لضعف البيانات، بل أيضًا لرغبتها في تفادي الاصطدام المباشر مع شبكة المصالح الدولية المعقّدة، وفي مقدّمتها “إسرائيل” وحلفاؤها.
وتعزّز هذه المخاوف سابقة حدثت العام الماضي، حينما سحبت شبكة أنظمة الإنذار المبكر بالمجاعة (FEWS NET) تقريرًا حذّر من مجاعة وشيكة في شمال غزة، وذلك عقب شكوى رسمية قدّمها السفير الإسرائيلي لدى واشنطن، في مؤشر واضح على حجم النفوذ الذي يُمارس على المؤسسات الأممية.
في نهاية المطاف، قد تنجح “إسرائيل” مؤقتًا في التلاعب بالسرديات وشراء الوقت بالدبلوماسية المضلِّلة، لكن الحقيقة لا تموت تحت الركام ولا تُدفن بالجوع، فالمجاعة التي تعصف بغزة ستظل محفورة في ضمير العالم، مهما طال إنكار وصمْت المتواطئين.