“لقد قمتُ، ومعي العشرات من قطاع 2 في سجن بدر3، بالدخول في إضرابٍ كامل ومفتوح عن الطعام منذ 1 يوليو 2025، احتجاجًا على سوء الأوضاع الإنسانية. ولستُ أدري هل تصلُ هذه الصرخة إلى النبلاء أم أنّها ستبقى صرخةً معزولة عن الدنيا محبوسةً مع صاحبها في قطاع 2 من سجن بدر3”. هذه الرسالة نشرتها عائشة عبد الرحمن، الشهر الماضي، عن والدها القيادي بجماعة الإخوان عبد الرحمن البر، الذي يعاني، ومعه الآلاف، داخل السجون المصرية.
عبر هذه الرسالة وغيرها من عشرات الرسائل التي سُرِّبت من داخل السجون منذ يوليو/تموز 2013، نحاول أن نرى الحال الذي وصل إليه السجناء في مصر، وتحديدًا قيادات الإسلاميين منهم، ولماذا يُنكَّل بالإسلاميين وقياداتهم أكثر من غيرهم من السجناء؟ كما نتساءل عن الاحتمالات المستقبلية لوجودهم داخل السجون المصرية، في ظل الظرف الراهن، سواء داخليًا أو إقليميًا ودوليًا.
اضطرابات وحالات انتحار
لم يعد يتحمّل المعتقلون السياسيون في مصر الحياة داخل السجون؛ فهي حياة شديدة الألم والمأساة من حيث نمط المعيشة، فلا طعام ولا شراب إنساني، ولا هواء نقي ولا نوم آدمي، ولا زيارات كافية للأقارب والأصدقاء تكفي لمعانقة الحياة مرة أخرى من خلال أجسادهم، أو لاستعادة شيء من كينونتهم التي هُدِمت بسبب الممارسات السجنية.
تختلف هذه المأساة من سجن إلى آخر، ومن سجناء إلى آخرين، حسب تصنيفهم من قبل الأمن الوطني، الذي يتحكّم ويراقب السجناء السياسيين، الذين ملّوا، منذ سنوات، من تسريب الرسائل وتأسيس المبادرات من قبل الأهالي والمؤسسات الحقوقية المعنية، والتي من خلالها ناشدوا كل مسؤول في الدولة، وعلى رأسهم رئيس الجمهورية وشيخ الأزهر، بطلب العفو عنهم وخروجهم من السجن بالشروط التي ترتضيها وتضمنها الدولة. لكن، بلا أي استجابة لرسائلهم.

وكان للإسلاميين وقياداتهم، لاسيما قيادات جماعة الإخوان المسلمين، النصيب الأكبر من هذه المأساة؛ فقد تم القبض عليهم بعد يوليو/تموز 2013 بأسابيع أو شهور قليلة، أي أنهم داخل السجون منذ قرابة 12 عامًا، ومنذ تلك اللحظة، تم حبسهم في زنازين انفرادية، وتجريدهم من كل الحقوق المُستحقة قانونًا، والتي تخفف من معاناتهم داخل السجن، مثل وجود راديو أو كتب أو أقلام وأوراق للكتابة والتدوين، فضلًا عن منع الزيارات من الأهالي والمحامين، فلا يروهم سوى في جلسات المحاكمة من وراء أقفاص الاتهام الحديدية.
وفي هذه الجلسات، تحدّث أكثر من قيادي في الإخوان عن الوضع المأساوي الذي يعيشونه، ومنهم باسم عودة، ومحمد بديع، ومهدي عاكف قبل أن يموت داخل السجن، وحازم صلاح أبو إسماعيل، وغيرهم، الذين كانت حكاياتهم عن معيشتهم الجحيمية داخل السجون تثير المشاعر وتُحدث تفاعلًا إعلاميًا حيال حجم الظلم والانتقام الذي يتعرضون له.
هذه السنوات الطويلة من التنكيل بالإسلاميين وقياداتهم داخل السجون المصرية، وما يحدث، في الأسابيع الأخيرة، داخل سجن بدر 3، جعلهم يفكرون في أي محاولة للخلاص من هذا الجحيم، سواء بالإضراب عن الطعام حتى الموت، أو حتى بالانتحار، محاولين مناشدة المجتمع المصري في الخارج، والمؤسسات الحقوقية، والمسؤولين في الدولة، لإنقاذهم مما هم فيه من تنكيل وإجرام في حقهم، وحق القانون الذي يُفترض أن يصون كرامة السجناء وفقًا للدستور المصري.
لماذا تنكل بهم السُلطة تحديدًا؟
نالت، ولا تزال، قيادات الإسلاميين، وفي قلبهم جماعة الإخوان المسلمين، النصيب الأكبر من التنكيل داخل السجون المصرية، لأن رأس السُلطوية في مصر، عبد الفتاح السيسي، الذي قاد الانقلاب العسكري عليهم في يوليو/تموز عام 2013، يحمل تجاههم ذاكرة عدائية، شخصية وسياسية في آن معًا، بل وذاكرة عدائية متبادلة مع بعض القيادات الذين التقى بهم وتحدّث معهم واختلف معهم، في الفترة الممتدة من فبراير/شباط 2011 حتى يوليو/تموز 2013، وأبرزهم خيرت الشاطر ومحمد البلتاجي.
كما يحمل الرئيس المصري عداءً شخصيًا تجاه السياسي حازم صلاح أبو إسماعيل، الذي كان دومًا شديد الانتقاد له، ومحذرًا الإخوان المسلمين من الانقلاب القادم بقيادة السيسي، والذي نعته مرارًا في لقاءاته التلفزيونية بـ”الممثل العاطفي”، بكل صراحة ودون مواربة، وكذلك الحال مع السياسي والمحامي والقيادي في حزب الوسط عصام سلطان، الذي كان ينتقد السيسي مباشرة، واتّهمه بالاسم بأنه قائد الانقلاب العسكري بعد بيان الثالث من يوليو.
من هذه الوقائع، يتضح أن رأس السُلطوية في مصر يحمل ذاكرة عدائية وشخصية تجاه هذه القيادات تحديدًا، وغيرهم ممن التقى بهم واختلف معهم، وقد تجلّى هذا العداء بوضوح في مسلسل “الاختيار”، بجزئه الثالث، حين ظهر الرئيس بنفسه في العمل (جسّد دوره الممثل ياسر جلال)، وتم تصوير أحاديثه مع الرئيس الراحل محمد مرسي وقيادات الإخوان، وعلى رأسهم خيرت الشاطر، حيث أظهر المسلسل مشادة كلامية بين السيسي، بصفته وزير الدفاع حينها، وبين الشاطر، الذي صوّره المسلسل كمن يُهدد الجيش المصري بالإرهاب وبتدمير البلاد، وفقًا لرواية العمل الدرامي.
ولم يكتفِ السيسي بعرض المشهد فحسب، بل بعد أيام قليلة من عرض الحلقة، اجتمع مع نخب سياسية وفنية ومجتمعية فيما يُعرف بـ”إفطار الأسرة المصرية”، وتحدث بنفسه عن كواليس ذلك اللقاء، مشيرًا إلى أن خيرت الشاطر تحدّث معه لأكثر من 40 دقيقة، وهو يلوّح بإصبعه مهددًا الجيش المصري. كل هذه التفاصيل، إلى جانب الخطابات المتكررة للرئيس ضد الإخوان و”أهل الشر”، لا تدل سوى على طبيعة الذاكرة العدائية، الشخصية قبل السياسية، التي يحملها تجاههم، والتي من خلالها رسّخ نمطًا عقابيًا، أو بالأدق إذلاليًا، لحياتهم داخل أقبية السجون المصرية.
مستقبل الإسلاميين في السجون
هذه المعيشة الإذلالية والأبدية داخل السجون المصرية، ومع مرور السنوات، تحوّلت إلى عقلية سياسية وأمنية، فمن حيث السياسة، رأت السُلطوية السياسية وفيلسوفها أن لا خروج للإسلاميين من السجون؛ إذ تتغذى السلطة وتحافظ على بقائها وهيمنتها على المجتمع، مستندة إلى الرواية التي تأسست عليها منذ البداية: رواية “الإخوان وقيادتهم هم أهل الشر، الذين يخرّبون مصر ويهددون الجيش ويدعمون الإرهاب”، وبالتالي، كان الانقلاب عليهم واجبًا، فكيف يُسمح لهم بالعودة إلى المجتمع مرة أخرى؟
كما أن استمرار اعتقالهم يُسهم في إبعاد الإسلام السياسي عن المجتمع المصري، إذ إن لهذا التيار تأثيرًا سريعًا وتاريخيًا في الشارع المصري، وقدرته على الحشد والتنظيم وفق رؤى سياسية غالبًا ما تعارض السلطة، لذلك تمتنع السلطة السياسية عن اتخاذ أي إجراءات لتحسين أوضاعهم المعيشية داخل السجون أو إطلاق سراحهم.
أما من حيث العقلية الأمنية، المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بنظيرتها السياسية، فهي ترى أن خروج آلاف الإسلاميين من القيادات والشباب من السجون، واندماجهم مجددًا في المجتمع المصري، قد يفتح الباب أمامهم للحديث عن ويلات السجن وتأجيج الرأي العام ضد السلطة، بل وتخشى هذه العقلية من ردود فعل انتقامية، قد يلجأ إليها بعض المعتقلين، لا بدافع أيديولوجي، بل بدافع إنساني شخصي، كردّ فعل على سنوات الإذلال والتعذيب، ولهذا تفضّل المؤسسة الأمنية الإبقاء عليهم داخل السجون، منعًا لأي فعل سياسي أو حركي، سلميًّا كان أم عنيفًا، قد يصدر عنهم بعد الخروج.
غير أن الواقع يناقض هذه المخاوف الأمنية؛ فكل الرسائل التي خرجت من السجناء الإسلاميين، خاصة الشباب منهم، تضمنت تعهدات صريحة بعدم العودة لأي نشاط سياسي أو اجتماعي يمسّ السلطة، بل طالبوا فقط بالحرية، لاستكمال حياتهم بعيدًا عن السياسة، وأن يُعاملوا كأناس طبيعيين، يأكلون ويشربون وينامون ويتنفسون، لا ككائنات دونية تُسحق في الزنازين، وقد صدرت مبادرات كثيرة من أهالي السجناء وشخصيات عامة، كلها تردّد مطلبًا واحدًا: “الحرية وفقط”، وعبّروا عن حجم التدمير الذي أصاب ذويهم وأسرهم بفعل سنوات السجن والمعاناة، ومع ذلك لم يصدر عن السلطة أي استجابة حقيقية.
ختامًا، لا يبدو أن السلطة الحالية لديها، حتى الآن، أي دافع أو نية حقيقية للإفراج عن السجناء السياسيين. بل إن القوائم التي تُعلن للإفراجات الدورية، غالبًا ما تستبعد الإسلاميين وقياداتهم. تاريخيًا، حين تعادي السُلطوية جماعةً كانت حاكمة أو شريكة في الحكم، فإن هذا العداء لا ينتهي إلا بانتهاء هذه السُلطوية نفسها، وقد حدث هذا بالضبط في عهد جمال عبد الناصر، حين لم يخرج الإخوان المسلمون وقياداتهم من السجون إلا بعد وفاته وتسلُّم السادات للسلطة.
لذلك، يُرجَّح أن يبقى ملف السجناء السياسيين والقيادات الإسلامية على حاله في ظل سُلطوية السيسي، التي لا تواجه، في الوقت الراهن، أي ضغط حقيقي، لا من الداخل ولا من الخارج، لإطلاق سراحهم، فالعالم والمنطقة يعيشان موجة يمينية متطرفة، تشهد خلالها الإبادة العلنية، ولا تستطيع مؤسسات العالم، بكل تاريخها الإنساني والحقوقي، وقفها، فهل يُنتظر من هذا العالم أن يُنقذ السجناء في مصر؟