رغم أن الاحتلال الإسرائيلي هو المسؤول المباشر عن المجزرة المتواصلة في قطاع غزة، من قصفٍ وقتلٍ وتجويعٍ ممنهج، إلا أن أصابع الجريمة لا تقف عنده وحده، فإلى جانب الدعم الأميركي والغربي السخي الذي يغطي كل هذه الجرائم، تقف شركات كبرى تتواطأ بصمت أو تشارك فعليًّا في تنفيذ الإبادة، لتتحول إلى أذرع مدنية تلبس ثوب التقنية بينما تغمس يديها في دماء الأبرياء.
تتقدّم “مايكروسوفت” هذه القائمة السوداء، بعدما كشفت وثائق مسرّبة عن شراكة أمنية عميقة تجمعها بجيش الاحتلال الإسرائيلي، وصلت ذروتها بعد أكتوبر/تشرين الأول 2023، حيث ضخّت ملايين الدولارات لتوفير خدمات “Azure” المستخدمة في جمع المعلومات الاستخبارية وتحديد الأهداف، في وقتٍ كانت فيه غزة تُسحق تحت القصف.
لكن الأخطر أن مايكروسوفت لم تكتفِ بدورٍ تقني في ماكينة القتل، بل انزلقت إلى التواطؤ مع أدوات الحصار والتجويع، من تمويلها للمستثمرين القائمين على ما يُعرف بـ”مؤسسة غزة الإنسانية”، التي حوّلت توزيع الغذاء إلى مصائد موت تُطلق فيها النار على الجائعين، إلى شراكاتها مع شركات تصنيع القنابل والطائرات المسيّرة التي دكّت المخابز والمزارع ومنشآت المياه.
الشريك الصامت في خطة التجويع
لم تُنشأ “مؤسسة غزة الإنسانية” منذ البداية بغرض “إنساني”، فلم تكن جهة إغاثية لمساعدة الفلسطينيين المجوّعين في غزة على الحصول على الغذاء، ولا حتى بديلًا لآلية الأمم المتحدة لإدخال المساعدات إلى القطاع، بل كانت خطة إسرائيلية أميركية لتجويع الفلسطينيين وإذلالهم، ثم قتلهم أمام طوابير مراكز المساعدات.
تُعدّ “مايكروسوفت” شريكة في هذه الخطة بشكل غير مباشر، من خلال الدعم الذي قدّمته للأعضاء المؤسسين لهذه الخطة الدموية، والتي يقف وراءها مجموعة من العسكريين ورجال الأعمال والسياسيين الإسرائيليين، يطلقون على أنفسهم مسمّى “منتدى مكيفيه إسرائيل”.
إذ كشفت حملة “لا أزور للفصل العنصري”، التي أطلقها موظفان سابقان في مايكروسوفت عام 2021 لكشف شراكات الشركة مع الاحتلال، أن مايكل أيزنبرغ، الذي استضاف “منتدى مكيفيه إسرائيل” في منزله، هو أحد شركاء “مايكروسوفت” في مجال الإعلانات، باعتباره أحد مؤسسي شركة “Aleph”، التي تربطها شراكة مع قسم الإعلانات في “مايكروسوفت” على مستوى أوروبا.
مؤسسة غزة القاتلة تفتح مصائد الموت للنساء، معلنة يومًا مخصصًا لهن.. ليصبح الدور عليهن في مخطط الإبادة الذي يفتك بالقطاع. pic.twitter.com/neFfrCr1id
— نون بوست (@NoonPost) July 25, 2025
لم تمانع مايكروسوفت أن تكون داعمًا رئيسيًا لليران تانكمان، الضابط في وحدة “أعمال الحكومة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية” (COGAT)، المسؤولة عن حرمان الفلسطينيين من الطعام والماء، والذي لعب دورًا محوريًا في التنسيق بين الأميركيين المنفّذين للخطة والجيش الإسرائيلي، فقد تلقى تانكمان التمويل من “مايكروسوفت” لشركته الأمنية “Rezilion”، وتُباع برمجياته عبر “Microsoft Marketplace” بكل فخر.
اللافت أن مايكروسوفت قدّمت أيضًا تمويلًا مباشرًا لرئيس قسم الأبحاث في معهد “تحليث”، إيلاد چيل، المسؤول عن وضع الخطة التفصيلية لـ”مؤسسة غزة الإنسانية”، وصاحب تصور “مناطق الانتقال الإنساني” أو ما يُعرف بـ”معسكرات الاعتقال البيومترية”، حيث لا طعام بلا بصمة، ولا نجاة دون إذن الحارس المسلّح.
كما قدّمت مايكروسوفت خدماتها في مجال الذكاء الاصطناعي لشركة “مجموعة بوسطن للاستشارات” (BCG)، التي تولّت وضع النموذج الاقتصادي لـ”مؤسسة غزة الإنسانية”، بما في ذلك سيناريوهات لتهجير أعداد كبيرة من الفلسطينيين خارج قطاع غزة.
تحالفات مع جيش الاحتلال الإسرائيلي
لم تكتفِ “إسرائيل” بحصار الغذاء، بل استهدفت فعليًا كل مصادر إنتاجه وتخزينه، في وصفة متعمّدة لتجويع القطاع، وقد وثّقت منظمات أممية أن أكثر من 85% من منشآت مياه الشرب والصرف الصحي في غزة أصبحت خارج الخدمة بسبب القصف الإسرائيلي المتواصل، كما حذّر تقرير حديث للأمم المتحدة من أن الحرب الإسرائيلية قضت على الزراعة في القطاع، ولم يتبقَّ سوى 4.6% من أراضي غزة صالحة للزراعة.
وتشارك مايكروسوفت بشكل غير مباشر في ضرب مقوّمات الحياة الأساسية في غزة، من المياه إلى المخابز، عبر شبكتها من الشركاء العسكريين الذين يزوّدون جيش الاحتلال الإسرائيلي بأدوات القتل والدمار.
على سبيل المثال، شركة “جنرال دايناميكس” (General Dynamics)، الشريك الذهبي الرسمي لمايكروسوفت، تزوّد جيش الاحتلال بقنابل MK-82 بوزن 500 رطل، إحداها استُخدمت في يونيو/حزيران 2025 لقصف مقهى مكتظ بالمدنيين في غزة، مما أدى إلى استشهاد 41 فلسطينيًا على الأقل.
أما شركة “بوينغ” (Boeing)، أحد أكبر عملاء مايكروسوفت المصنّفين ضمن قائمة S500، فقد زوّدت “إسرائيل” بقنابل تزن 2000 رطل، استخدمها الجيش في قصف منطقة المواصي، التي كانت تُعرّف كمأوى آمن للنازحين، مما أسفر عن استشهاد نحو 90 فلسطينيًا وتدمير أحد المصادر الحيوية للمياه في المنطقة.
ويُضاف إلى ذلك شركة “هوني ويل” (Honeywell)، الشريك الاستراتيجي لمايكروسوفت في الصناعات الدفاعية، إذ زوّدت جيش الاحتلال بذخائر استُخدمت في يونيو/حزيران 2024 لقصف مدارس الأونروا التي كانت تأوي مئات العائلات النازحة.
ولم يقتصر دعم مايكروسوفت للاحتلال على الشركات المزوّدة للقنابل فحسب، بل كشفت حملة “لا أزور للفصل العنصري” أنها تمنح تقنية “أزور” وأدوات الذكاء الاصطناعي لشركة “كاتربيلر”، التي يستخدم الاحتلال جرافاتها لتجريف الأراضي الزراعية وتدمير محطات معالجة المياه، ما يعمّق من الكارثة الإنسانية في القطاع.
وفي السياق ذاته، تُعتبر مايكروسوفت متورطة في تلويث البيئة الزراعية ومصادر المياه في قطاع غزة إلى جانب الاحتلال الإسرائيلي، نظرًا لعلاقاتها الوثيقة مع الشركتين اللتين تزوّدان “إسرائيل” بمادة الفوسفور الأبيض، التي تُستخدم في قصف القطاع وتؤدي إلى تلويث التربة والمياه بشكل خطير.
إذ تعتمد شركة “ICL” على منصة “مايكروسوفت أزور كوانتُم إليمنتس” لتطوير المواد الكيميائية، ولدى الشركتين تاريخ من الشراكات التقنية الممتدة لسنوات، أما “باير” الألمانية فهي عميل استراتيجي لـ”مايكروسوفت” في مجال الحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي.
كيف دعمت مايكروسوفت أدوات الحصار؟
اتخذ الحصار الإسرائيلي على غزة بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 شكل عقاب جماعي عبر قطع الخدمات الأساسية كالتيار الكهربائي وإمدادات المياه بشكل شبه كامل، ما فاقم كارثة التجويع، فبحسب “هيومن رايتس ووتش”، أوقف الاحتلال الإسرائيلي تزويد غزة بالكهرباء تمامًا في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وبحلول 15 أكتوبر/تشرين الأول توقفت جميع محطات معالجة مياه الصرف الصحي بسبب نفاد الوقود، ما أدى إلى انهيار خدمات المياه والصرف الصحي، وانتشار أمراض خطيرة كشلل الأطفال والإسهالات والتهابات الكبد الجلدية نتيجة التلوث.
وتبيّن أن لشركة مايكروسوفت دورًا في هذه المأساة أيضًا، كونها تزوّد شركة “كهرباء إسرائيل” (IEC)، المسؤولة المباشرة عن قطع الكهرباء، بتقنيات “أزور” وأنظمة “أزور مونيتور” الخاصة بمراقبة الأداء، أي أن الشركة التي حرمت مليوني نسمة من الطاقة الحيوية تعتمد في بنيتها التقنية على خدمات مايكروسوفت السحابية.
ولم يتوقف الأمر عند الكهرباء؛ فمشهد مشابه وقع في قطاع المياه، ففي 9 أكتوبر/تشرين الأول 2023، أقدمت شركة “ميكوروت” الإسرائيلية على قطع إمدادات المياه عن غزة بشكل متعمَّد، ومنذ ذلك الحين يحصل الفلسطينيون على كميات شحيحة ومتقطعة من المياه، بفعل الإضرار المنهجي بالشبكات، والتقطيع المتكرر، ومنع إدخال الوقود اللازم لتشغيل المضخات.
أما الدور الذي تلعبه مايكروسوفت في هذه المأساة، فلا يقلّ فداحة؛ فعدا عن أن شركة “ميكوروت” تُعد زبونًا لمنصة “أزور”، فهي أيضًا تربطها شراكة مع مايكروسوفت لدعم مشاريع الشركات الناشئة.
استهداف المساعدات بعيون الذكاء الاصطناعي
بلغت سياسة التجويع حدًّا وحشيًّا باستهداف كل من يحاول توفير الغذاء أو الماء لسكان غزة، إذ وثّقت منظمات دولية حالات قنص وقصف متعمّد للصيادين في البحر، وللمزارعين في الحقول، وحتى لموظفي الإغاثة الذين يجلبون الغذاء، وتقف وراء هذه الجرائم تقنيات عسكرية متقدمة، بعضها يعتمد في تشغيله على خدمات حوسبة من تطوير مايكروسوفت، ما يجعلها مسؤولة بشكل غير مباشر عن تجويع الفلسطينيين في القطاع.
ساهمت تقنيات مايكروسوفت بشكل مباشر في تنفيذ واحدة من أكثر المجازر دموية خلال حرب التجويع على غزة، حين قصفت طائرات مسيّرة إسرائيلية في يناير/كانون الثاني 2024 تجمعًا لمئات الفلسطينيين كانوا ينتظرون للحصول على كيس طحين أمام مركز توزيع تابع للأمم المتحدة، ما أدى إلى استشهاد أكثر من 50 شخصًا دفعة واحدة.
الطائرات المستخدمة في الجريمة كانت من إنتاج شركة “إلبيت سيستمز”، التي تربطها علاقات مالية وتقنية وثيقة بمايكروسوفت، إلى جانب طائرات “Matrice 600” التي كشفت الوثائق أن تشغيلها يعتمد على خدمات “أزور” السحابية التابعة لمايكروسوفت، مما يجعلها شريكًا تقنيًا في القرار القاتل.
ولم يتوقف التورط عند استهداف الجوعى، بل امتد إلى قتل عمال الإغاثة الدوليين أنفسهم، ففي أبريل/نيسان 2024، اغتال جيش الاحتلال الإسرائيلي طاقمًا كاملًا من منظمة “المطبخ المركزي العالمي”، بينما كانوا يتنقلون بسياراتهم في مهمة إغاثية في القطاع، مستخدمًا صواريخ موجهة من طراز “سبايك”، من إنتاج شركة “رافائيل” للصناعات الدفاعية، وهي شركة تجمعها بمايكروسوفت شراكات طويلة وسجل من التعاون في تطوير تقنيات التسليح.
عقوبة الفصل لكل من يعارض دعم الاحتلال
بينما تسخّر مايكروسوفت مواردها وخدماتها التقنية في دعم الحرب الإسرائيلية على غزة، والمشاركة في تجويع الفلسطينيين، والتواطؤ في واحدة من أبشع جرائم الإبادة الجماعية في العصر الحديث، تتصاعد في المقابل أصوات من داخل الشركة نفسها تُدين هذا الدور الخطير وتكشفه، رغم المخاطر التي يواجهها أصحابها من فصل وتعسف مهني.
من أبرز هذه الأصوات، المهندسة ابتهال أبو السعد، التي أحدث تحركها صدى واسعًا في الرأي العام العالمي، بعدما قاطعت كلمة المدير التنفيذي لقسم الذكاء الاصطناعي في مايكروسوفت، مصطفى سليمان، خلال احتفال الشركة بمرور خمسين عامًا على تأسيسها، وواجهته باتهامات مباشرة بتسخير أدوات الذكاء الاصطناعي لصالح آلة القتل الإسرائيلية.
وأكدت ابتهال أنها لم تعد قادرة على الصمت، خاصة بعد اكتشافها أن مايكروسوفت متورطة في تطوير تقنيات تُستخدم لصالح جيش الاحتلال الإسرائيلي، مشيرة إلى عقد ضخم أبرمته الشركة مع وزارة الجيش الإسرائيلية بقيمة 133 مليون دولار، لتوفير خدمات تخزين ومعالجة بيانات عبر منصة “مايكروسوفت أزور”.
لكن أبو السعد لم تكن الوحيدة، فقد سبقها المهندسان المصريان حسام نصر وعبده محمد، اللذان نظّما في 24 أكتوبر/تشرين الأول 2024 وقفة احتجاجية داخل حرم الشركة، أحييا فيها ذكرى الشهداء الفلسطينيين الذين سقطوا في غزة، وجمعا تبرعات لدعم المنكوبين.
إلا أن تعامل “مايكروسوفت” كان حاسمًا وواضحًا مع كل صوت يعارض دعمها للإبادة؛ فالقاعدة كانت أن التعبير عن التضامن مع فلسطين داخل مايكروسوفت يُقابَل بالعقاب، وأن أي محاولة لمساءلة الشركة من الداخل تُواجَه بالإقصاء.
في ضوء كل ما سبق، وإن كان الاحتلال الإسرائيلي هو اليد التي تضغط على الزناد، فإن مايكروسوفت توفر له الإصبع الرقمي والخوارزمية والبنية السحابية التي تجعل كل هذا القتل أكثر دقة وتنظيمًا، وما لم تتحمّل الشركة مسؤوليتها الأخلاقية، ويتحرّك العالم لمحاسبة المتورطين، فإن الشراكة بين التكنولوجيا والإبادة ستظل تتكرّر في وجوه جديدة.