أسدل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الستار على الجدل المثار منذ سنوات حول “الإيجار القديم” وذلك بعد التصديق رسميًا على القانون الجديد الذي دخل حيز التنفيذ اعتبارًا من الثلاثاء 5 أغسطس/آب 2025، ليطوى واحدًا من أكثر الملفات الشائكة التي تمس حياة الملايين من الشعب المصري.
وبحسب المادة الثانية من القانون، ستكون مصر خالية تمامًا من أي وحدات مؤجرة بنظام الإيجار القديم بحلول 2032، حيث تنتهي عقود الإيجار لغرض السكن بعد مرور سبع سنوات من تاريخ تطبيق القانون، لتنتهي رسميًا مطلع أغسطس/آب 2032، بينما تنتهي عقود الأماكن المؤجرة لغير غرض السكنى بعد خمس سنوات في أغسطس/آب 2030، ما لم يتفق الطرفان على إنهاء التعاقد قبل ذلك.
ويتضمن القانون المثير للجدل والذي قوبل بموجات عاصفة من الانتقادات، والتي ضٌرب بها عرض الحائط، زيادة الإيجار الحالي في المناطق المميزة بنحو 20 ضعفًا، وبحد أدنى 1000 جنيه شهريًا ( 20.6 دولار) ، ونحو عشرة أضعاف في المناطق المتوسطة بحد أدنى 400 جنيهًا (8.2 دولار) ، فيما ارتفعت القيمة الإيجارية في المناطق الشعبية خمسة أضعاف بحد أدنى 250 جنيهًا(5.1 دولار).
ويُعرف قانون الإيجار القديم بأنه النظام المعمول به وفق القانون رقم 136 لسنة 1981، والذي ينظم العلاقة بين المالك والمستأجر، حيث يمنح الأخير حق البقاء في الوحدة المؤجرة مدى الحياة، نظير مبلغ مالي دفعه مقدمًا للحصول على الوحدة، بجانب أجر شهري ثابت غير قابل للزيادة، مع إمكانية توريثها للأبناء والأحفاد، مقابل قيمة إيجارية زهيدة.
ويعد نظام الإيجار القديم أحد الأضلاع الرئيسية في مثلث العدالة الاجتماعية ( السكن المدعم – التعليم المجاني – الصحة بدون مقابل) الذي وضع قواعده الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وبحسم هذا الملف يكون السيسي قد تخلص بشكل شبه كامل من الإرث الناصري الاشتراكي، مٌعلنًا القطيعة التامة مع تلك المرحلة التي كان يٌنظر إليها – رغم علامات الاستفهام بشأنها- على أنها العنوان الأبرز للانتصار لمحدودي الدخل.
ورغم استحضار السيسي بين الحين والأخر لذكرى ناصر وإبداء إعجابه بتلك المرحلة، إلا أنه وفي غضون عشرة سنوات تقريبًا، استطاع أن يٌجرد الدولة المصرية من ارتباطاتها بالحقبة الناصرية بالكلية، ما عدا نظرية الصوت الواحد والرأي الواحد والإعلام الواحد وأنه لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، ناسفًا بذلك كافة مكتسبات تلك الفترة حتى وإن كانت شكلية، إيذانًا بالدخول نحو عهد جديد من الرأسمالية المتوحشة، المٌجردة من أي اعتبارات إنسانية أو اجتماعية.
مصير الملايين على المحك
تشير التقديرات إلى وجود 3.019 مليون وحدة سكنية مؤجرة بنظام الإيجار القديم، تشكل نحو 7 % من إجمالي عدد الوحدات السكنية في مصر، تحتل أربعة محافظات فقط أكثر من ثلثيها، – القاهرة، بعدد وحدات (1.099.426) مليون وحدة، وبنسبة 36% ، الجيزة، بعدد وحدات (562.135) ألف وحدة، وبنسبة 19% ، – الإسكندرية، بعدد وحدات (269.403) ألف وحدة، وبنسبة 9% ، ثم القليوبية، بعدد وحدات (150.961) ألف وحدة، وبنسبة 5% ، بحسب الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء ( حكومي).
كما يبلغ عدد الأسر التي تقيم في تلك الوحدات 1.6 مليون أسرة ( القاهرة بنسبة 41% – الجيزة 18.7% – الإسكندرية 12.9 –القليوبية 9%) بواقع 7% من إجمالي عدد الأسر، يشكلون نحو 6.1 مليون شخص، ، بواقع 6.5% من إجمالي عدد الأفراد بحسب إحصاء 2017.
معنى ذلك أنه في غضون 7 سنوات على أقصى تقدير سيكون هناك 6.1 مليون مصري بلا مأوى، بعد إخلائهم لمحل سكنهم بحسب القانون الجديد، وعليه ليس أمامهم سوى مسارين لا ثالث لهما، إما التقدم لأجل الحصول على وحدة إيجارية أو تمليك في مناطق الإسكان الشعبي على حدود القاهرة وبقية المحافظات، وبأسعار تنافس القطاع الخاص، أو اضطرار شراء وحدة جديدة أو الاستئجار بنظام الإيجار الجديد الذي وصل إلى أرقام فلكية.
كلمتين وبس #قانون_الإيجار_القديم pic.twitter.com/rJ1FViZdLB
— 🇪🇬THEEGYPTIANIST🇪🇬 (@THEEGYPTIANIST1) August 4, 2025
يقول المحامي والحقوقي عامر سعد الدين، إن القانون به عوار دستوري واضح، إذ تجاوز بشكل فجً ما قضت به المحكمة الدستورية العليا، والتي أكدت على ضرورة الموازنة بين حقوق المالك والمستأجر، وضمان عدم الإخلال بالعدالة الاجتماعية أو إخراج المواطنين من مساكنهم بقرارات تشريعية متعجلة، مضيفًا في حديثه لـ “نون بوست” أنه بمثابة اعتداء صريح على السلم الاجتماعي وكرامة المواطن المصري، من خلال الدفع بملايين الأسر إلى حافة المجهول
وألمح سعد الدين إلى أن القانون بالتصديق عليه هو انحياز مطلق لطرف دون أخر، انحياز للملاك على حساب المستأجرين، وهو ما يخل بالتماسك المجتمعي ويقوض اللحمة الوطنية وربما يكون له ارتدادات عكسية على الاستقرار والأمن المجتمعيين، فحين يجد الملايين أنفسهم في الشارع، مضطرين لمغادرة البيت الذي ولدوا وتربوا وبنوا ذكرياتهم بداخله، فلا تأمن رد فعلهم.
تقول تغريد ( 50 عامًا) والتي تسكن في إحدى الوحدات بنظام الإيجار القديم في منطقة رمسيس بوسط القاهرة، إن الصدمة تخيم على أسرتها منذ فتح هذا القانون للنقاش داخل البرلمان مايو/أيار الماضي، متسائلة : كيف بعد هذا العمر أخرج أنا ووالدتي المٌسنة ونترك الشقة التي عشنا فيها منذ أن ولدنا؟ إلى أين نذهب؟ كيف نأخذ ذكرياتنا وسنين عمرنا التي قضيناها في تلك الوحدة؟
بعد التصديق عليه.. رئيس اتحاد المستأجرين لـ "أوان مصر": سنطعن على قانون الإيجار القديم أمام المحكمة الدستورية العليا pic.twitter.com/Zj1YTH4bn7
— awanmasr (@awanmasr1) August 4, 2025
وأعربت الخمسينية المصرية في حديثها لـ “نون بوست” أنها كانت تتوقع أن يعيد السيسي النظر في القانون بعد الانتقادات الكبيرة التي تعرض لها، فليس من المنطقي أن يقبل بتشريد الملايين في الشارع، معظمهم من كبار السن، لكن المفاجأة أنه صدّق فعليًا على القانون، ضاربًا بكل الاستغاثات والمناشدات عرض الحائط، وأضافت “فعلا عرفنا دلوقتي إننا نور عينيه”.
ورغم تعهد الحكومة بتوفير وحدات بديلة للمقيمين بنظام الإيجار القديم بعد انقضاء المهلة، إلا أن هذا التعهد يظل محل شك في ظل غياب البيانات الدقيقة، خاصة وأن التجارب السابقة، كما هو الحال مع مهجّري العشوائيات، تشير إلى أن الوحدات الجديدة قد تكون غير ملائمة، وتقع في أماكن نائية خارج القاهرة. فضلًا عن أن هذا التهجير قد يجرّد المسنين من ذكرياتهم ومحيطهم الذي عاشوا فيه لعقود.
خنجر في ظهر العدالة الاجتماعية
تعود معرفة المصريين بالإيجار القديم إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، كإجراء احترازي في مواجهة الفوضى الاجتماعية والاقتصادية التي خلفتها الحرب، والتي أجبرت الحكومات حينها على التدخل المباشر لكبح موجات الانفلات التي اجتاحت الأسواق العقارية، حيث جاء هذا القانون في ذلك التوقيت لحماية المواطنين من حالة الارتباك التي خيمت على المشهد المصري ، والتي أفرزت أزمة سكن خانقة، حيث باتت شريحة كبيرة من الناس دون مأوى.
وأمام أسعار السكن الباهظة التي تفوق قدرات المصريين، بعد أن تٌرك السوق عرضة لقوانين العرض والطلب التي كانت تهدد الطبقات المتوسطة ومحدودة الدخل، كان التدخل الرسمي وجوبيًا، عبر سنّ قوانين تضمن توفير سكن ملائم وبأسعار مقبولة، فتم وضع سقف للإيجارات، ونصت العقود على عدم طرد المستأجر بعد الوفاة، مع السماح بتوريث الوحدة السكنية للأبناء.
لكن مع عصر الانفتاح في سبعينات القرن الماضي بدأت تتعالى أصوات بعض ملاك تلك الوحدات، مطالبة بإعادة النظر في هذا القانون الذي كبّل أيديهم في التصرف في أملاكهم الأشبه بـ “المجمدة” أو الميتة” نظير إيجارات زهيدة لا تتناسب مع قيمتها الحالية، خاصة مع تصاعد الأسعار والقفزات الاقتصادية المتتالية.
ورغم ارتفاع تلك الأصوات إلا أن الدولة ظلت متمسكة بعقدها الاجتماعي مع المواطن، وفقًا لقوانين الإيجار القديم، لا سيما القانونين رقم 49 لسنة 1977، ورقم 136 لسنة 1981، المنظِّمين للعلاقة بين المؤجّر والمستأجر، وخلال تلك العقود، لم تجرؤ أي حكومة أو نظام على المساس بهذا الملف الملغّم، خشية إشعال فتنة مجتمعية أو تهديد الاستقرار الداخلي.
لكن سرعان ما تغير الموقف بعد تولي السيسي السلطة، ففي عام 2023 بدأ التلميح ضمنيًا لضرورة إعادة النظر في هذا القانون، حينها ظن البعض أنها لا تعدو مجرد تصريحات للاستهلاك المحلي وإرضاء الملاك، إلا أن الأمر تطور بشكل سريع لتتحول تلميحات الرئيس إلى مشروع قانون بتعديلات جذرية، يٌعرض على البرلمان فيحظى بالموافقة السريعة، ثم يحول للسيسي فيٌصدق عليه، دون أي اعتبار لأنين المسنين من ضحايا تلك التعديلات.
وفي الوقت الذي يُرحّب فيه الملاك بهذه الخطوة التي يرونها تعيد الحقوق إلى أصحابها، هناك من يرى أنها شهادة وفاة لمستقبل أكثر من ستة ملايين مواطن، قد تدفع بهم إلى الشارع خلال السنوات السبع المقبلة، خصوصًا أن الغالبية الساحقة من المستأجرين هم من كبار السن، الذين عاشوا عقودًا في وحدات سكنية ارتبطوا بها نفسيًا وروحيًا، ليُطلب منهم اليوم مغادرتها في نهاية أعمارهم، دون مراعاة لكرامتهم أو احترام لأوضاعهم الصحية والاجتماعية.
لا أحد يُنكر حق الملاك في الاستفادة من ممتلكاتهم، فالقيمة الإيجارية الحالية لا تكاد تُذكر مقارنةً بالقيم السوقية اليوم، لكن في المقابل، من حق من سكنوا هذه الوحدات بعقود قانونية، وبدفع مقدمات لم تكن زهيدة وقتها، أن يشعروا بالأمان وألّا يُجبروا على مغادرة منازلهم وهم في خريف العمر، فهي معضلة مزدوجة تتطلب تدخلاً جراحيًا دقيقًا، بمشرط قانوني حساس يراعي مصالح الطرفين — المالك والمستأجر — دون الإخلال بحق أي منهما.
التخلي عن إرث ناصر الاشتراكي
بالتصديق على قانون الإيجار القديم ينسف السيسي رسميًا إرث عبدالناصر الاجتماعي والذي استند في ركيزته الأساسية على الحقوق الإنسانية الثلاثة ( السكن – الصحة – التعليم):
أولا: السكن المدعم.. كشف النظام المصري عبر تعاطيه مع ملف الإسكان، انحيازه الكامل للرأسمالية العقارية في مواجهة الجماهير الكادحة، ففي غضون سبع سنوات من نفاذ هذا القانون سيجد الملايين من المستأجرين أنفسهم في العراء، أو تسليمهم إلى قبضة الإيجارات الجديدة المسعورة التي يعجز عنها غالبية المواطنين
وقد أولى عبد الناصر اهتمامًا كبيرًا ببناء الوحدات السكينة لمتوسطي ومحدودي الدخل، بأسعار قليلة تتناسب وحجم الدخول وقتها، ففي الفترة من 1952 حتى 1971 تم بناء نحو 364 ألفًا و721 وحدة سكنية، طبقًا لتعداد السكان حينها ( 26 مليون تقريبًا في الستينات)، كما اتبع أسلوب الإيجار القديم بمقابل رمزي تسهيلا على غير القادرين، حيث كان سعر إيجار الوحدة يتراوح بين 3 و5 جنيهات حسب المنطقة، والمقدم كان لا يزيد على 150 جنيهًا.
لكن اليوم انقلب الوضع رأسًا على عقب، فرغم ملايين الوحدات التي بنتها الدولة في عهد السيسي إلا أن أسعار الوحدات فيها تنافس القطاع الخاص، وأحيانا تتفوق عليه، بما تتجاوز قدرات غالبية الشعب المصري، حيث تتراوح سعر الوحدة 90 مترًا لمتوسطي ومحدودي الدخل ما بين 800 ألف جنيهًا – 1.3 مليون جنيهًا ( 16.5 ألف دولار – 20.6 ألف دولار) هذا في الوقت الذي تبلغ فيه متوسطات الأجور 6 ألاف جنيهًا شهريًا (124 دولارًا)
ثانيًا: التعليم المجاني.. شهدت خارطة التعليم في عهد السيسي تغيرات جذرية في بنيتها الهيكلية، لتتحول من التعليم المجاني إلى الخاص أو مدفوع الأجر، حيث شهدت السنوات العشرة الأخيرة طفرة كبيرة في بناء الجامعات الخاصة والأهلية، في مقابل تراجع الدعم المقدم للتعليم الحكومي، الأمر الذي حوله إلى رئة مهملة لا حضور لها، مما أجبر الكثير من الأهالي للتوجه للتعليم الخاص حتى لو تطلب الأمر تبني استراتيجيات تقشفية قاسية.
وكان للجامعات الأهلية تحديدًا وقع الزلزال في بنية التعليم العالي، إذ تجاوزت دورها كإضافة نوعية أو صيغة موازية، لتفتح بابًا واسعًا للتساؤل حول جوهر التعليم نفسه: هل هو حق اجتماعي مكفول تدعمه الدولة، أم امتياز يُمنح لمن يملك المال والنفوذ؟ سؤال تتفرع عنه قضايا أعمق تتعلق بالعدالة وتكافؤ الفرص، وتؤثر في نهاية المطاف على شكل المجتمع ومستقبل العقل الجمعي للمصريين.
تشير الإحصائيات إلى أن عدد الجامعات الحكومية على مستوى البلاد بلغ نحو 27 جامعة فقط، في حين زاد عدد الجامعات الخاصة والأهلية من 26 جامعة عام 2014 إلى 40 جامعة في 2022، حسب وزارة التعليم العالي، في مؤشر يقول إن عصر الجامعات الأهلية والخاصة قد بدأ فعليًا.
حتى على مستوى التعليم قبل الجامعي، فقد ساهمت السياسات المتبعة في تنفير الطلاب من المدارس الحكومية، حيث لا اهتمام ولا ميزانية ولا معلم مؤهل، بجانب التكدس الطلابي الكبير وفقدان الرؤية وبوصلة التطوير، ما دفع الأهالي لطرق أبواب الدروس الخصوصية التي أرهقت كاهل الأسر وحوّلت العملية التعليمية إلى سلعة تحتاج في بعض الأحيان إلى الاقتراض للإنفاق عليها حتى لو كانت تحت شعار حكومي.
ويتناقض هذا المسار شكلا ومضمونا مع الوضع إبان الحقبة الناصرية الاشتراكية حيث كان التعليم من مراحله الأساسية وصولا إلى الجامعة مجانًا من الألف إلى الياء، هذا بخلاف الاهتمام بالمعلم وتأهيله والمستوى الدراسي والمناهج التي يتم تدريسها، وهو ما ساهم في تخريج أجيال من المؤهلين فكريًا وعلميًا كانت لهم صولات وجولات في ميادين العلم والنبوغ.
وكان سكرتير عبد الناصر، سامي شرف، قد تحد في مقال له، نٌشر بصحيفة «المصري اليوم»، في 7 أغسطس/آب 2019 عن “خطورة تسعير التعليم وتحويله من مجّاني كما قرّر عبد الناصر بعد ثورة 1952، ليكون مجّانياً بالاسم كما كان في أواخر عهد الملكية”، محملا الدولة مسؤولية ما وصلت إليه أوضاع التعليم في مصر
وأرجع هذا التوجه إلى “تراجع دور الدولة، التي تكاد تكون نفضت يدها عن مسؤولية التعليم مثلما فعلت في كثير من المجالات الأخرى، فانهارت منظومة التعليم، وتحولت المدارس المصرية التي خرّجت أجيال من العلماء والمثقفين والعباقرة ممن أفاضوا بعلمهم على الدنيا بأسرها، وتعجز مساحة المقال بحصر أسمائهم، إلى خرائب بلا معلمين أو طلاب، بل باتت مكان يتفق فيه المعلم مع الطالب على موعد الدروس الخصوصية، ومقر لانعقاد الامتحانات، ناهيك عن العلاقة المزرية بين المعلم والطالب، والمحتوى الدراسي الذى يقدم، وآلية التقديم، والتقييم…إلخ من مظاهر فساد منظومة التعليم في مصر”.
ثالثًا: الصحة للجميع.. وضع عبدالناصر ملف الصحة على رأس أولويات مرحلته، فعلى مستوى البنية التحتية فقد بلغ عدد المستشفيات التي بنيت في عهده 104 مستشفى بحلول عام 1960 كما بلغ عدد الوحدات الصحية 600 وحدة بالقرى، واتجهت الدولة لنزع ملكية العديد من المستشفيات الخاصة وتحويلها إلى الخدمة العامة.
وفي دستور عام 1956 نصت المادة (56) منه على أن الرعاية الصحية حق للمصريين جميعًا، تكفله الدولة بإنشاء مختلف أنواع المستشفيات والمؤسسات الصحية والتوسع فيها تدريجيًا، وهو نفسه النص الذى تضمنته مادة 42 من دستور 1964، مع حذف لفظ تدريجيًا .
وفي عهده صدرت حزمة من القوانين التي تكرس لمجانية الرعاية الصحية للمواطنين وشمولها لكافة المواطنين، وتغطيتها لكافة أوجه الخدمات الطبية، كشف ومتابعة وعلاج، من أبرزها قانون 490 لسنة 1955، لتنظيم وإدارة المؤسسات العلاجية، وقانون 75 لسنة 1964 لإنشاء هيئة التأمين الصحي الاجتماعي، وقرار رئيس الجمهورية رقم 135 لسنة 1964 لتنظيم المؤسسات العلاجية.
كما شهدت الفترة من 1952 – 1976 زيادة نصيب الفرد من الإنفاق العام على الصحة بنسبة 500%، بجانب العديد من المشاريع التي أنجزتها الحكومة مثل برنامج التأمين الصحي بدءًا من عام 1959، والتوسع في إنشاء عدد المستشفيات والوحدات الصحية في القرى والمناطق النائية.
لكن مع تولي السيسي المسؤولية تغيرت الخارطة الصحية بشكل كبير، حيث هيمن القطاع الخاص على المشهد، لتبلغ مستشفياته قرابة 63% من عدد القطاع الصحي في مصر، ورغم زيادة النسبة السكانية لنحو 19% بين عامي 2012 – 2021 إلا أنه لم يواكبها زيادة في عدد المستشفيات العامة سوى بنسبة ضئيلة هي 3% بينما زادت المستشفيات الخاصة بنسبة 24%، وانخفض عدد الأسرّة في المستشفيات العامة بنسبة 14% وارتفع في الخاصة بنسبة 35%.
هذا بخلاف القفزات الجنونية في أسعار الأدوية، والتي وصلت لمستويات من الارتفاع لم يعرفها المصريون في تاريخهم، لتصبح الرعاية الصحية في مصر حكرًا على القادرين فقط، من يملك المال فله الحق في العلاج ومن لا يملك فما عليه سوى الاستسلام أو البحث عن مسارات أخرى كارثية، مثل اللجوء للأدوية المغشوشة (بير السلم) والوصفات الطبية المدمرة.
التخلي عن إرث عبدالناصر الاشتراكي لا يقف عند حاجز هذا المثلث وفقط، بل شمل بقية مجالات الحياة الأخرى والتي كان للحقبة الناصرية بصمتها الواضحة فيها، على رأسها “دعم الفلاح” الذي كان يٌعد حينها ركيزة التنمية الأهم، حيث منح ناصر هذا الملف أهمية كبرى، عبر حزم من القوانين والإجراءات التي انتصر فيها للمزارع، وحوله من أجير إلى مالك أرض عبر قانون الإصلاح الزراعي والذي يقضي بإعادة بتوزيع ملكية الأراضي الزراعية من الإقطاعيين إلي صغار الفلاحين، بصرف النظر عن علامات الاستفهام حول مشروعية مثل هذا القانون.
لكن اليوم يعاني الفلاح من أزمات خانقة، دفعت كثير من المزارعين للبحث عن مصادر رزق أخرى ومهن مختلفة، حيث أصبحت الكلفة باهظة، ارتفاع جنوني في أسعار الأسمدة الزراعية، وتراجع في ثمن المحاصيل، وفقدان الدعم الحكومي الذي كان موجها للفلاح عن طريق الجمعيات والبنك الزراعي، لتتحول الفلاحة إلى عبء كبير وضجيج لا يجد الفلاح له طحينًا.
الرأسمالية المتوحشة شعار المرحلة
“هتدفع هوريك اللي مشفتوش مادام هتدفع، إنما ببلاش أنا معرفش حاجة اسمها ببلاش، أنا بكلمك جد”.. أثبت السيسي بتلك الجملة التي قالها في 2013 أنها ليست اعتباطية ولا من قبيل الاستعراض اللفظي ولا حتى المزاح مع الحضور المتواجدين أمامه من المدنيين والعسكريين، بل تعكس استراتيجية معمقة لها جذورها في عقليته، ترجمها حرفيًا بعدما أتيحت له الفرصة وجلس على كرسي الحكم.
ومنذ اليوم الأول لتولي السيسي السلطة في مصر بدأت ملامح سياسته تتكشف، تلك القائمة في مرتكزها الأساسي على الرأسمالية المتوحشة، فلا حديث هنا عن أي مقاربات اجتماعية أو إنسانية، من يملك القدرة المادية يحصل على ما يشاء من خدمات ومصالح ومكتسبات، ومن لا يملك لا حظ له ولا مكان.
وأسفر هذا التوجه، بعد أكثر من عقد كامل من الحكم، عن تسليع كل شيء في البلد، التعليم والصحة والإسكان والطعام والشراب والحقوق والحريات، بل تجاوز الأمر إلى تسليع التاريخ والحضارة، فٌعرضت أصول الدولة للبيع بزعم الاستثمار، وهُدم تراثها بدعوى التجديد، نظير حفنة من الدولارات، ليتحول المواطن في نهاية الأمر إلى سلعة في سوق كبير، بعدما جٌرد من حقوقه الأساسية ليجد نفسه عاريًا في مزاد الابتزاز والاستقطاب.