منذ أن انطلقت “مؤسسة غزة الإنسانية” في مايو الماضي، بدأت معالم مشروعها الدموي تتكشف تدريجيًا، فقد كشفت صحيفة نيويورك تايمز أن المؤسسة ليست مجرد فكرة جديدة، بل كان يجري تطويرها منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة في أكتوبر 2023، من قبل عسكريون إسرائيليون، وبينت التحقيقات اللاحقة أن خلفية المؤسسة الإدارية تتسم بالولاء لإسرائيل وافتقارها التام للخبرة في تقديم المساعدات الإنسانية.
كل شيء في هذا المشروع كان مُعدًا بعناية، ليبدو كما لو أنه عمل إنساني، بينما في الحقيقة يكشف عن وجه وحشي، ولإتمام هذا السيناريو، كان لا بدّ من مدير تنفيذي يدير صورة المؤسسة ويروج لأكاذيبها، وقد أوكلت هذه المهمة للقس جوني مور، رجل العلاقات العامة المعروف، الذي أصبح دوره ليس فقط إدارة المساعدات المزعومة بل تصدير صورة الاحتلال والولايات المتحدة كداعمَيْن إنسانيين لتحسين أوضاع الغزيين.
إحدى الطبيبات العائدات من #غزة تتحدث عن إجرام الاحتلال في مصائد المساعدات: شهدتُ ليالٍ كان الاحتلال يستدرج خلالها الغزيين عند الساعة الثالثة فجرًا، ثم يطلق النار عليهم مستهدفًا الأجزاء العلوية من أجسادهم بهدف القتل #غزة_تباد pic.twitter.com/sjSTzSgrAx
— نون بوست (@NoonPost) August 3, 2025
الخلفية “المهنية”
اختيار جوني مور لرئاسة “مؤسسة غزة الإنسانية” لم يكن مصادفة، بل هو تكتيك مدروس من الإدارة الأمريكية، التي تدرك تمامًا أن أي مشروع يهدف لدعم الإبادة وتجويع الفلسطينيين يحتاج إلى شخصية مؤيدة لـ”إسرائيل” ومتماهية مع العقيدة الصهيونية، ومن خلال مسيرته، يتضح تمامًا توافقه مع هذا الدور.
درس مور المولود عام 1983 البكالوريوس والماجستير في الدراسات الدينية في جامعة الحرية بولاية فرجينيا التي تعتبر من أبرز الجهات الإنجيلية في البلاد، عمل في عدة مناصب ضمنها، منها كنائب رئيس الجامعة لشؤون الاتصالات، ومحاضر إنجيلي،كما عمل مساعدًا لرئيسها جيري فالويل، أحد أبرز رموز الصهيونية المسيحية، واشتهر بتصريحاته المعادية للإسلام وللنبي محمد صلى الله عليه وسلم.
ومن المناصب التي شغلها والتي تظهر عقليته المؤيدة لـ”إسرائيل”، عضويته في مجلس إدارة “الزمالة الدولية للمسيحيين واليهود”، التي تزعم أن هدفها هو بناء جسورًا بين المسيحيين واليهود، وتساعد على هجرة اليهود إلى إسرائيل وتجمع التبرعات لأجل ذلك، إلى جانب عضويته في رابطة مكافحة التشهير التي تعتبر من أقوى جماعات الضغط اليهودية في أمريكا.
ليس من المستغرب تعيين جوني مور في هذا المنصب، نظرًا لعلاقته الوثيقة مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. فقد شغل مور منصب المستشار الإنجيلي لترامب خلال حملته الانتخابية في 2016، وأشاد بالتزامه الراسخ بقضايا الحريات الدينية، وبعد فوزه، عينه ترامب في لجنة الولايات المتحدة للحريات الدينية الدولية، وظل في هذا المنصب خلال فترة ولاية الرئيس جو بايدن.
وإلى جانب عمله الديني نشط في مجال العلاقات العامة، إذ عمل عام 2017 متحدثًا إعلاميًا باسم متحف “الكتاب المقدس”، الذي يقع في العاصمة واشنطن، بعد أن أسس شركة “كايروس” للعلاقات العامة والاتصالات في ولاية كاليفورنيا الأميركية والتي استحوذت عليها الآن شركة أكبر، كما عمل كرئيس لشركة “جي دي إي” للتسويق والاتصالات والخدمات العامة في ولاية إنديانا.
داعم للإبادة من الطراز الأول
يتمتع جوني مور بسجل حافل من المواقف المؤيدة للاحتلال الإسرائيلي، حيث كان له دور محوري في “اتفاقيات أبراهام” في عام 2017، وتحديدًا في نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس المحتلة، والتي اعتبرها المجتمع الدولي خطوة غير قانونية، ففي تصريحاته لوكالة رويترز وقتها، أكد مور أن “الإنجيليين كان لهم دور كبير في هذا القرار”، مؤكدًا أن ذلك لم يكن ليحدث من دونهم.
وعبّر في أكتر من مناسبة عن هذا الدور، فقد صرح في 2017 لصحيفة “نيويورك تايمز” بأنه هو وإنجيليون آخرون قد ضغطوا على ترامب للاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، مشيرًا إلى أن هذه القضية كانت “أولوية” لديهم لسنوات، وفي 2018، أوضح لمجلة “واشنطن بوست” أنه نصح مسؤولي البيت الأبيض قائلًا: “من يبارك إسرائيل فسوف يُبارَك”.
ليس هذا فحسب، بل زار مور القدس بعد ذلك، كقائد لما يسمى “وفد سلام متعدد الأديان”، في رحلة وصفها بأنها “حج إلى المدينة المقدسة”، وهو ما يعكس مدى تورطه في تبييض صورة الاحتلال تحت غطاء ديني زائف.
مع بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في أكتوبر 2023، لم يتردد في إظهار دعمه اللامحدود لتل أبيب، حتى أنه بعد 3 أشهر، زار “إسرائيل” وكتب على حسابه في “إكس” قائلاً: “لم أر مثل هذا الرعب من قبل”، معبرًا عن تعاطفه مع قوات الاحتلال بدلاً من إدانته لما ترتكبه من جرائم بحق الفلسطينيين، لاعبًا دورًا في سردية الضحية التي يحاول الاحتلال الترويج لها في حربها ضد القطاع.
وفي فبراير 2025، أبدى مور دعمه لخطة ترامب التي أثارت الجدل، والتي تقترح أن تتولى الولايات المتحدة السيطرة على قطاع غزة، فدافع عن التصريحات، مشيدًا بـ”الرئيس ترامب الذي يصنع السلام ويوقف الحروب” كما زعم، وتابع متفاخرًا بأن واشنطن ستكون المسؤولة الكاملة عن مستقبل غزة، وأنها ستمنح “الجميع الأمل والمستقبل”.
President Trump always sees war through the eyes of its human cost, & he thinks creatively — never bound by conventional wisdom. He stops wars & makes
🕊️ peace 🕊️
The USA will take full responsibility for future of Gaza, giving everyone hope & a future
— Rev. Johnnie Moore ن (@JohnnieM) February 5, 2025
مهمة مور.. إدارة سمعة ملطخة بدماء الأبرياء
لفتت تصريحات مور ومواقفه المؤيدة للاحتلال، وتهجّمه المستمر على كل من يدين مجازره، الأنظار إليه كمرشح محتمل لرئاسة “مؤسسة غزة الإنسانية” عقب استقالة جيك وورد، الذي انسحب من منصبه لأسباب تتعلق بـ”عدم الالتزام بالمبادئ الإنسانية”، الحاجة كانت ملحّة لشخصية تتمتع بقدرة على ترميم صورة المؤسسة، التي بدأت تتآكل سريعًا رغم مرور أسابيع قليلة فقط على انطلاقها.
مع تعيينه، شرع مور فورًا في تنفيذ مهمته الأساسية: ترميم السمعة وبناء خطاب دفاعي متماسك، ففي أول مقابلة له، قدّم تبريرًا فجًا لمجازر الاحتلال بحق المدنيين المنتظرين للمساعدات أمام نقاط التوزيع، إذ زعم أن “الضحايا انحرفوا عن الممر الآمن”، مؤكدًا أن المؤسسة “لا تتحمّل مسؤولية ما يحدث خارج حدود مراكزها”، متجاهلًا حقيقة أن الآلية المتبعة في توزيع المساعدات تُشكّل خطرًا مباشرًا على حياة الفلسطينيين.
رواية مور سرعان ما تهاوت أمام الأدلة الحقوقية، إذ وثّقت عشرات المنظمات الإنسانية زيف مزاعمه، وفي مقدمتها المنظمة العربية لحقوق الإنسان في بريطانيا، التي تقدّمت بشكوى رسمية إلى مكتب المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية. وقدّمت المنظمة أدلة حاسمة، تضمنت صورًا جوية تُظهر أن مراكز التوزيع صُمّمت على نمط عسكري، بمداخل ضيّقة تمتد في اتجاه واحد لمسافات طويلة، تؤدي إلى مناطق اختناق تدريجي، حيث يتم استدراج المدنيين، وما إن يتقدّموا في هذه الممرات حتى يبدأ إطلاق النار عليهم.
مع تصاعد الانتقادات، لجأ مور إلى حملة إعلامية مضادة، محاولًا قلب الرواية وتوجيه الأنظار نحو أطراف أخرى، مدّعيًا أن “مؤسسة غزة الإنسانية” تُستهدف ضمن “مؤامرة تقودها الأمم المتحدة” بهدف احتكار توزيع المساعدات واستثمارها سياسيًا. وفي أحد تصريحاته، اتهم مور وكالات الأمم المتحدة بترك شحنات الغذاء تتلف على المعابر، بينما يعاني الفلسطينيون الجوع داخل القطاع.
لم يتوقف عند هذا الحد، بل ذهب إلى الادّعاء بأن عدد الضحايا الذين قضوا أثناء محاولتهم الحصول على مساعدات من وكالات الأمم المتحدة يفوق أولئك الذين سقطوا أمام مراكز توزيع مؤسسته، في تناقض صارخ مع إحصائيات وزارة الصحة في غزة، التي وثّقت استشهاد 1568 فلسطينيًا وإصابة أكثر من 11,230 آخرين في طوابير المساعدات أمام مراكز المساعدات.
ومع مواصلة المجاعة اجتياح القطاع، كثّف مور من هجماته، مدّعيًا أن حركة حماس تقود “حملة أكاذيب” بشأن الأوضاع الإنسانية، وأن استخدام مصطلح “التجويع” يدخل ضمن أجندة سياسية، في خطاب يهدف لتقزيم الكارثة الإنسانية وتصويرها كخدعة إعلامية.
وفي إطار كشف أساليب الدعاية التي يقودها، سلّطت وكالة “سند” للتحقق التابعة لشبكة الجزيرة، الضوء على نوعية المحتوى الذي تبثه الحسابات الرسمية والداعمة لمؤسسة “غزة الإنسانية”. وقد بيّنت الوكالة أن الرواية تعتمد على تكرار مكثّف لأرقام ضخّ المساعدات، باستخدام صيغ مبالغة من قبيل “عشرات الملايين من الوجبات يوميًا”، و”أضخم عملية إنسانية في العالم حاليًا”، دون إرفاق أي تفاصيل أو شفافية في الأرقام، في حين لم تسجل مؤشرات الجوع أي تحسّن منذ بدء عمل المؤسسة.
كما كشفت “سند” عن اعتماد المؤسسة على صور منتقاة لفلسطينيين يتلقون المساعدات وهم يبتسمون أمام الكاميرات، بهدف طمس صور المجازر والانتهاكات، وتقديم انطباع زائف عن الفاعلية والرضا، في وقت توثّق فيه وسائل الإعلام والمنظمات الدولية مجازر متكررة بحق المدنيين أثناء محاولتهم الحصول على الطعام.
ولا يتوقف دور مور عند الدفاع عن المؤسسة، بل يتعداه إلى توجيه رسائل مدروسة لجمهور أمريكي محدد من مؤيدي إسرائيل، ممن يفتقرون إلى إدراك شامل لحقيقة ما يجري في غزة، بحسب تحقيق استقصائي للصحفي أرنو روزنفيلد. ويؤكد روزنفيلد أن المهمة الأساسية لمور تتمثل في إقناع هذه الشريحة بأن إسرائيل والولايات المتحدة غير مسؤولتين عن كارثة التجويع، بل تسعيان للحل الإنساني.
هذا الخطاب الدعائي يتناغم تمامًا مع استراتيجية إدارة ترامب، التي تسعى لتقديم نفسها كمنقذ لغزة، بينما تلعب دورًا مباشرًا في تعميق الكارثة، وكانت زيارة مبعوث الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، لمراكز توزيع المساعدات قبل أيام، تصب في الاستراتيجية ذاتها مشكلة حلقة جديدة في مسلسل هندسة الرواية الأمريكية الإسرائيلية، الذي يقدّم التجويع كسياق خلفي لإبراز “الجهود الإنسانية” الأمريكية.
وبجانب الدبلوماسية، تضخ واشنطن أموالها في خدمة هذه الرواية، حيث أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية في حزيران/يونيو الماضي تقديم دعم مباشر بقيمة 30 مليون دولار لـ”مؤسسة غزة الإنسانية”، داعية الدول الأخرى إلى أن تحذو حذوها، ووفق ما نقلته وكالة “رويترز” عن مصادر مطلعة، تدرس الإدارة الأمريكية تخصيص 500 مليون دولار إضافية لتعزيز عمل المؤسسة، في خطوة تؤكد التواطؤ المالي والسياسي في تغذية واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في العصر الحديث.
هكذا تتحول الكارثة في غزة من جريمة موثقة إلى مسرحية علاقات عامة، تتقن فيها واشنطن وتل أبيب توزيع الأدوار، فبينما يُقتل الفلسطينيون في طوابير مراكز تشرف عليها مؤسسته، يجتهد مور في هندسة خطاب يُلبس المذبحة ثوبًا إنسانيًا، ويحوّل الجلاد إلى منقذ.
لكن وسط كل هذا التزييف، تبقى الحقيقة ثابتة وهي أن المساعدات التي تُوزّع تحت قصف الاحتلال، ليست إلا سلاحًا جديدًا في حرب إبادة تُرتكب على مرأى ومسمع العالم.