في خطوة أثارت جدلاً واسعاً في الأوساط التجارية والاقتصادية، أصدرت الإدارة الأميركية بقيادة الرئيس دونالد ترامب لائحة جديدة للرسوم الجمركية شملت أكثر من 40 دولة، من بينها 14 دولة عربية. وتراوحت نسب الرسوم بين 10% كحد أدنى، كما هو الحال في مصر والسعودية والإمارات وقطر، وصولاً إلى نسب مرتفعة تجاوزت 30% في دول مثل العراق وتونس والجزائر وليبيا. إلا أن اللافت في هذه اللائحة كان تصنيف سوريا كأعلى دولة في العالم من حيث نسبة الرسوم المفروضة التي وصلت ال 41%، متجاوزة بذلك حتى الدول المصنفة ضمن قائمة الشركاء التجاريين “الأكثر تعقيداً” بالنسبة لواشنطن.
ورغم أن سوريا تصدّرت قائمة الرسوم الجمركية الأميركية، إلا أن هذه الخطوة قد لا تكون من فراغ بحسب الكثير من المتابعين؛ إذ تفرض دمشق بدورها رسوماً جمركية مرتفعة على المنتجات الأميركية تصل إلى 81%، ما قد تكون دافعاً من إدارة ترامب إلى اعتبار هذه الإجراءات بمثابة “رد بالمثل” على ما وصفه بـ”المعاملة غير العادلة” للسلع الأميركية.
لكن هذا التبرير، وإن بدا منطقياً على الورق، يغفل عن حقيقة جوهرية في ميزان القوة التجارية: الولايات المتحدة لا تعتمد على السوق السوري، بينما سوريا تعتمد بشكل متزايد على التكنولوجيا والمنتجات الأميركية في خططها التنموية. وبالتالي، فإن الأثر الاقتصادي لهذه الرسوم سيكون أكثر وطأة على دمشق، حتى لو بدا حجم التبادل التجاري محدوداً من حيث الأرقام المطلقة.
تقوم السياسة الاقتصادية للرئيس الأميركي دونالد ترامب على مبدأ واضح: “إذا كنت تصدّر لي أكثر مما أشتري منك، فسأفرض عليك رسوماً جمركية”، وهو ما يفسّر الإجراءات السابقة بحق دول مثل الصين والمكسيك، رغم أن حجم التبادل التجاري معها يُقدّر بالمليارات. غير أن تطبيق هذا المنطق على الحالة السورية يثير تساؤلات، إذ أن حجم التبادل التجاري بين واشنطن ودمشق محدود للغاية، ومع ذلك، فرضت الولايات المتحدة على سوريا أعلى نسبة رسوم جمركية في العالم.
وفي ضوء التصعيد الجمركي الأخير بين واشنطن ودمشق، تبرز مجموعة من التساؤلات الجوهرية التي تستدعي التوقف والتحليل:
ما هو حجم التبادل التجاري بين سوريا والولايات المتحدة خلال السنوات الأخيرة؟ وهل يعكس هذا الحجم مبرراً اقتصادياً للرسوم المفروضة؟. وإلى أي مدى يمكن أن تؤثر الرسوم الجمركية الأميركية المرتفعة على بنية الاقتصاد السوري، لا سيما في ظل محدودية التبادل التجاري المباشر؟. وهل تمثل هذه الرسوم عقبة إضافية أمام جهود إعادة الإعمار في سوريا؟ وما مدى تأثيرها على قدرة البلاد في جذب الاستثمارات الأجنبية؟
حجم التبادل التجاري السوري الأمريكي
تُظهر بيانات التجارة الخارجية أن العلاقات التجارية بين سوريا والولايات المتحدة لا تزال محدودة من حيث الحجم. فقد بلغت قيمة الصادرات السورية إلى السوق الأميركية نحو 11.3 مليون دولار في عام 2023، مسجلةً زيادة سنوية بنسبة 16.5% مقارنةً بـ5.28 مليون دولار في عام 2018.
وفي عام 2024، استقرت قيمة الصادرات السورية إلى الولايات المتحدة عند 11.18 مليون دولار، ما يعكس استمرار التبادل التجاري ضمن نطاق ضيق. وبالمقارنة، بلغ إجمالي الصادرات السورية إلى مختلف دول العالم نحو 1.27 مليار دولار في عام 2023، ما يجعل حصة الولايات المتحدة من هذه الصادرات لا تتجاوز 1% تقريباً.
وتتركّز الصادرات السورية إلى الولايات المتحدة بشكل رئيسي في الصناعات النسيجية، والمنتجات الزراعية الخفيفة، إلى جانب مجموعة محدودة من السلع الحرفية والتراثية. ووفقاً لبيانات “تريدينغ إيكونوميكس”، وسجّلت أبرز البنود المصدّرة في عام 2023 أرقاماً متقدمة نسبياً، حيث بلغت قيمة بذور التوابل نحو 3.01 مليون دولار، وأحجار البناء حوالي 2.3 مليون دولار، فيما وصلت قيمة التحف والمنتجات التراثية إلى 1.31 مليون دولار.
في المقابل، تقتصر صادرات الولايات المتحدة إلى سوريا على المواد الكيميائية والدوائية، التي تُورّد ضمن نطاقات ضيقة وتحت تراخيص خاصة، إضافة إلى السلع الغذائية المُعلبة مثل أغذية الأطفال والمكمّلات الغذائية، فضلاً عن بعض المواد البلاستيكية والورقية التي تمثّل نسبة أقل من إجمالي التبادل التجاري.
ولا تعكس هذه المحدودية في التبادل التجاري بين البلدين تأثير القرار الأميركي الأخير فحسب، بل ترتبط بسياق طويل من العقوبات الاقتصادية التي فرضتها واشنطن على النظام السوري السابق، والتي استمرت لسنوات وأثّرت بشكل غير مباشر على البنية الاقتصادية للبلاد. ورغم التحولات السياسية التي أعقبت سقوط نظام بشار الأسد، لا تزال آثار تلك العقوبات تلقي بظلالها على قدرة سوريا في الانخراط التجاري مع القوى الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة.
عوامل بنيوية أدت لفرض التعرفة الجمركية الأمريكية
ولمعرفة مدى تأثير هذه الرسوم على الاقتصاد السوري وعلى حركة إعادة الإعمار وجذب المستثمرين صرّح المستشار الضريبي والمالي وعضو المجلس الاستشاري لمجلس الأعمال الأمريكي السوري، لؤي الحمصي لـ”نون بوست”، أن استمرار فرض التعرفة الجمركية الأمريكية المرتفعة على المنتجات السورية يعود إلى مجموعة من العوامل البنيوية منها ضعف حجم التبادل التجاري الثنائي بين سوريا والولايات المتحدة، وغياب الاتفاقيات التجارية الحرة، ومحدودية الثقة بالبيئة التنظيمية السورية، إضافة إلى مبدأ “المعاملة بالمثل”، كلها عوامل تساهم في إبقاء التعرفة على حالها دون تغيير.
وبيّن الحمصي أن الميزان التجاري بين البلدين لا يشكل ثقلاً اقتصادياً كافياً لتحفيز الجانب الأمريكي على تقديم استثناءات جمركية، كما أن عدم وجود اتفاقيات تجارة حرة يحرم سوريا من الامتيازات التي تحصل عليها دول أخرى. وأضاف أن غياب الشفافية وصعوبة التحقق من الامتثال للمعايير المالية والتنظيمية الأمريكية يعيق التعاون الجمركي، ويضعف فرص بناء شراكات تجارية مستدامة. أما مبدأ المعاملة بالمثل، فيُنظر من خلاله إلى مستوى التعرفة السورية المفروضة على المنتجات الأمريكية كعامل مؤثر في صياغة التعرفة الأمريكية المقابلة.
وفيما يتعلق بالتأثير الاقتصادي على سوريا، أشار الحمصي إلى أن القرار لا يشكل تهديداً مباشراً في الوقت الراهن نظراً للظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد، إلا أن تداعياته تظهر بوضوح في تعطيل إمكانات النمو طويل الأمد، خاصة في ما يتعلق بتوسيع القاعدة التصديرية السورية نحو السوق الأمريكي، الذي يُعد من أكبر الأسواق الاستهلاكية في العالم. ولفت إلى أن التعرفة المرتفعة تشكل حاجزاً فعلياً أمام المصنعين السوريين، إذ أن عبء الرسوم ينتقل إلى المستورد الأمريكي، ما يجعل المنتجات السورية غير تنافسية. كما أن الواردات الأمريكية إلى سوريا تخضع مسبقاً لتعريفات مرتفعة، ما يحد من إمكانية الاستفادة من التكنولوجيا الأمريكية المتقدمة، خصوصاً في قطاعات حيوية مثل الطيران والطب والتقنيات الزراعية.
وأكد الحمصي أن تجاوز هذا الواقع يتطلب مقاربة ذكية ومتدرجة تقودها وزارة الاقتصاد السورية، تبدأ بفتح قناة حوار مباشر مع الجانب الأمريكي، وتشمل مراجعة التعرفات الجمركية الثنائية، وبناء إطار قانوني يسمح باستثناء بعض القطاعات من التعرفة المرتفعة، وفتح المجال أمام استيراد معدات وتقنيات ضرورية لمرحلة التعافي الاقتصادي.
إشارة تحذير تستدعي تحركاً
وفي سياق متصل، شدد الحمصي على أن مجلس الأعمال الأمريكي السوري يعمل منذ تأسيسه على تقليص الفجوة التنظيمية والمالية بين السوقين السوري والأمريكي، وقد حقق خطوات ملموسة في هذا الاتجاه، منها تنظيم طاولة مستديرة جمعت كبرى المصارف السورية والأمريكية، بحضور حاكم مصرف سوريا المركزي وسفير الولايات المتحدة السيد توم براك، حيث تم عرض السياسات السورية في مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. كما عقد المجلس ندوة اقتصادية في يوليو 2025، شارك فيها كبار رجال الأعمال السوريين ومسؤولون من وزارات الخزانة والخارجية والتجارة الأمريكية، إلى جانب الوزراء السوريين المختصين، حيث تم عرض الفرص الاستثمارية وقوانين التملك والتشغيل الجديدة.
واختتم الحمصي تصريحه بالتأكيد على التزام المجلس بالعمل مع وزارة الاقتصاد السورية وغرف الصناعة والتجارة لتفعيل حوار تقني ومهني مع الجهات الأمريكية ذات العلاقة، ورفع قيمة التبادل التجاري، وتعزيز التكامل الاقتصادي، وصياغة حلول عادلة لتعريفات جمركية متوازنة تخدم المنتج السوري والمستهلك الأمريكي، ودعم دخول المستثمر الأمريكي إلى السوق السورية، بالتوازي مع دعم صادرات سورية نوعية إلى السوق الأمريكي. واعتبر أن القرار الجمركي الأمريكي يجب أن يُنظر إليه كإشارة تحذير تستدعي تحركاً مؤسسياً مرناً يعيد تموضع سوريا ضمن المشهد التجاري الدولي.
التفاف الصادرات السورية إلى أمريكا.. والمستوردات أيضاً
محمد حلاق، النائب السابق لغرفة تجارة دمشق، بين في تصرحه لـ”نون بوست”، أن معظم المواد السورية المصدّرة إلى الولايات المتحدة تندرج ضمن فئة المنتجات الغذائية، وهو ما يعكس تأثير العقوبات الاقتصادية المفروضة سابقاً على سوريا، والتي حدّت من تنوع الصادرات. وأوضح أن هذه المواد كانت تُنقل قبل مرحلة التحرير إلى لبنان، حيث تُعاد تصديرها إلى أمريكا تحت اسم منشأ لبناني، في محاولة للالتفاف على القيود المفروضة.
وأضاف حلاق أن جزءاً كبيراً من هذه المنتجات الغذائية السورية كان يُصدّر أيضاً من دول مجاورة مثل الأردن ومصر ولبنان، ما يجعل من الصعب تتبع المصدر السوري الحقيقي لها. وأشار إلى عدم وجود بيانات دقيقة حول حجم الصادرات السورية الفعلية إلى الولايات المتحدة، أو مدى تأثرها بفرض الرسوم الجمركية على السلع ذات المنشأ السوري، ما يعيق تقييم الأثر الاقتصادي المباشر لهذه السياسات التجارية.
وأكد أن حجم الاستيراد السوري من الولايات المتحدة يُعد من الأدنى عالمياً، وذلك نتيجة البعد الجغرافي ووفرة بدائل أرخص في شرق آسيا وأوروبا، ما يجعل المنتجات الأمريكية أقل جاذبية من الناحية التجارية. وأشار إلى أن العقوبات الأمريكية المفروضة خلال السنوات الماضية ساهمت في تقليص حجم التبادل التجاري، وزادت من تعقيد الإجراءات المرتبطة بالتحويلات المالية الدولية.
وأوضح حلاق أن سوريا تواجه صعوبات كبيرة في عمليات التحويل المالي، إذ أن معظم الحوالات الخاصة بالتجار السوريين لا تصدر من حساباتهم الشخصية، بل تتم عبر علاقات مع صرافين خارجيين يقومون بتحويل الأموال من جهة إلى أخرى، ما يثير شبهات تتعلق بغسل الأموال ويؤدي إلى إرباكات متكررة. وأضاف أن التجار يُطلب منهم غالباً دفع دفعة أولى قبل الشحن، ثم دفعة ثانية بعد صدور البوالص، مع اشتراط أن يكون مصدر الحوالة الثانية مطابقاً لمصدر الأولى، وهو ما يخلق تحديات كبيرة ويزيد من الأعباء المالية على القطاع التجاري السوري.
وبيّن حلاق أن بعض المنتجات الأمريكية، مثل العدد والأدوات الصناعية، تصل إلى سوريا عبر دول وسيطة كدبي ولبنان، بعد تغيير أوراق المنشأ، وتُورد بكميات صغيرة لا ترقى لمعايير الحوكمة والشفافية، ما يفتح المجال أمام احتمالات التلاعب في سلسلة التوريد. واعتبر أن البيئة القانونية الحالية لا تزال تُقيّد حركة التجارة وتُحمّل التجار السوريين تكاليف إضافية، ما يستدعي مراجعة شاملة للسياسات التجارية والمالية لضمان انسيابية العمليات وتعزيز الثقة الدولية.
الرسوم الجمركية الأميركية وتأثير جذب المستثمرين إلى سوريا
وعن تأثير الرسوم الجمركية الأميركية على جذب المستثمرين إلى سوريا، لفت حلاق، إلى أنه لا يمكن تقييمه بمعزل عن البيئة الاستثمارية العامة في البلاد. وأوضح أن من الضروري التمييز بين مناخ الاستثمار، ورغبة المستثمرين، وطبيعة الفرص المتاحة، وبين فئة من المستثمرين الذين يمتلكون ولاءً لسوريا ويبدون استعداداً للاستثمار فيها بغض النظر عن مستوى الربحية.
وأشار حلاق إلى أن سوريا تمتلك فرصاً استثمارية كبيرة، لا سيما في قطاعات السياحة، وإعادة الإعمار، والصناعة التي تراجعت بشكل ملحوظ خلال السنوات الماضية. وأضاف أن من نقاط القوة في سوريا توفر اليد العاملة، وإن كانت تفتقر في كثير من الأحيان إلى الكفاءة المطلوبة، في حين تبقى أبرز نقاط الضعف متمثلة في عدم استقرار سعر الصرف، رغم أن التعامل بالدولار بات متاحاً بشكل شبه كامل دون عوائق قانونية تُذكر.
وبيّن أن بعض المؤسسات تواجه صعوبة في دفع الرواتب بالليرة السورية، وتضطر إلى احتساب التكاليف بالدولار، ما يؤدي إلى البيع بالدولار أيضاً، وهو ما يخلق إشكالية في ظل تقلبات سعر الصرف التي تصل إلى نحو 15%. وأكد أن هذه التقلبات تُعد عائقاً كبيراً، خاصة في القطاعات ذات الربحية المنخفضة مثل الصناعات الغذائية، التي لا تتجاوز هوامش أرباحها 1 إلى 2%، في ظل اشتداد المنافسة.
ورغم هذه التحديات، يرى حلاق أن المستثمر الذي يقرر دخول السوق السورية من البداية، ويقوم ببناء منشأته واحتساب تكاليفه بالدولار، لن يكون عرضة للخسائر، بل قد يستفيد من الفرص المتاحة في ظل تحسن نسبي في المناخ الاستثماري. وأشار إلى أن بيئة الأعمال في سوريا شهدت تطوراً ملحوظاً، لكنها لا تزال بحاجة إلى المزيد من العمل، خصوصاً فيما يتعلق بتضارب القوانين وتعارضها، مؤكداً وجود جهات رسمية تستمع إلى المشكلات وتسعى لمعالجتها، وهو ما اعتبره مؤشراً إيجابياً.
وختم حلاق بالقول إن الطموح اليوم يتمثل في الوصول إلى بيئة أعمال شفافة ومنظمة، تتيح للمستثمر أن يعرف مسار عمله من البداية إلى النهاية، بدءاً من الإجراءات الجمركية، مروراً بالتسعير، وصولاً إلى التحويلات المالية، بما يضمن وضوحاً واستقراراً في العملية الاستثمارية.
في المحصلة، لا تمثل الرسوم الجمركية الأميركية بنسبة 41% على سوريا تهديداً اقتصادياً مباشراً، وبينما تسعى الحكومة السورية إلى ترميم اقتصادها وتعزيز بيئة الاستثمار، يبدو أن الرهان الحقيقي يكمن في توسيع العلاقات التجارية مع دول الجوار، حيث الفرص أكثر واقعية والتأثير أكثر فاعلية. ويبقى تفكيك منظومة العقوبات الغربية خطوة ضرورية، تتطلب جهداً دبلوماسياً متواصلاً يعيد لسوريا حضورها الاقتصادي ويمنح المستثمرين رؤية أوضح لمستقبل السوق المحلي.