في واحدة من أكثر المواجهات تعقيدًا في الشرق الأوسط خلال العقد الأخير، شكلت حرب الـ 12 يومًا بين “إسرائيل” وإيران، استخدامًا واسعًا للتكنولوجيا العسكرية، والهجمات السيبرانية، وتدخلات الوكلاء الإقليميين. كما أظهرت لأول مرة استخدامًا متزامنًا وواسعًا للطائرات المسيّرة، والصواريخ الدقيقة، ما جعلها موضوعًا لدراسة معمقة أصدرتها “أكاديمية الاستخبارات الوطنية” التركية، وحملت عنوان: “الحرب الـ”إسرائيلية -الإيرانية: النتائج المحتملة والدروس المستخلصة لتركيا”.
تقدم الدراسة تحليلًا متعدد الأبعاد لطبيعة الحرب ومجرياتها ونتائجها، ليس من باب مراقبة نزاع بعيد، بل باعتبار أن تركيا معنية استراتيجيًا بكل ما يحدث بين إيران و”إسرائيل”، لما له من تأثير مباشر على أمنها القومي وحدودها وخريطة تحالفاتها.
في هذا المقال، نستعرض أبرز ما ورد في الدراسة المنشورة، من تحليل مسار الحرب، إلى التوصيات الاستراتيجية المقترحة، وانتهاءً بالسيناريوهات المحتملة لما بعد التصعيد.
كيف قرأت تركيا الحرب؟
لم تتعامل الدراسة الصادرة عن أكاديمية الاستخبارات التركية مع الحرب الإسرائيلية–الإيرانية باعتبارها مجرد مواجهة عسكرية قصيرة وعابرة، بل قدّمتها بوصفها نموذجًا مبكرًا لصراعات إقليمية مركّبة، تُظهر كيف أصبحت الحروب في الشرق الأوسط أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى، سواء على صعيد الأدوات المستخدمة أو في شكل الانتشار الجغرافي وخريطة الفاعلين.

وبحسب التحليل التركي، فإن الحرب لم تكن مواجهة تقليدية بين جيشين، بل ساحة اختبار مزدوجة للتفوق التكنولوجي من جهة، والقدرة على إدارة الجبهات المتعددة من جهة أخرى. وقد رصدت الدراسة تغيرات ملحوظة في أسلوب إيران الهجومي، مقابل أداء أقل فاعلية من المتوقع لدى الجانب الإسرائيلية، خاصة في مجال القيادة والسيطرة والدفاعات الجوية.
كما لفتت الدراسة إلى أن هذه المواجهة – رغم قصر مدتها – قد تكون نقطة تحوّل في مفهوم الردع الإقليمي، بعدما نجحت إيران في فرض معادلة ضغط متعددة المستويات، وهو ما قد يدفع بقوى إقليمية أخرى، ومنها تركيا، إلى إعادة تقييم استراتيجياتها الدفاعية.
أبرز ما رصدته الدراسة من نقاط:
- تحوّل الحرب إلى نموذج للصراع الهجين
الحرب جمعت بين استخدام القوة الجوية التقليدية، وهجمات بالصواريخ الباليستية، والطائرات المسيّرة، إلى جانب هجمات إلكترونية استهدفت البنية التحتية المدنية والعسكرية، ما يجعلها أقرب إلى نموذج حرب هجينة متقدمة. - تفوق تقني لـ”إسرائيل” يقابله تطور تكتيكي لإيران
رغم تفوّق “إسرائيل” من حيث السلاح والتكنولوجيا، تمكّنت إيران من المفاجأة عبر أسلوب الانتشار المتزامن والرد غير المباشر، مستخدمة منظومات مثل “سوم خرداد” و“باور 373”، وموظِّفة الوكلاء مثل حزب الله وأنصار الله لتشتيت الاستجابة ال”إسرائيل”ية. - ضعف في التنسيق داخل المنظومة الأمنية الإسرائيلية
تشير الدراسة إلى أن “إسرائيل” واجهت ارتباكًا في التنسيق بين أجهزتها الأمنية والعسكرية خلال الأيام الأولى من الحرب، وهو ما انعكس في أداء الدفاعات الجوية، وفشل أنظمة مثل “القبة الحديدية” و“مقلاع داوود” في التصدي الكامل للهجمات المكثفة. - استخدام إيران للردع المتعدد الجبهات
من خلال إشراك أذرعها الإقليمية، أنشأت إيران وضعية ضغط ممتد على “إسرائيل”، وأجبرتها على توزيع مواردها على أكثر من جبهة، وهو ما ساهم في إطالة أمد المواجهة وتعقيد الرد ال”إسرائيل”ي. - حضور لافت للهجمات السيبرانية
للمرة الأولى، برزت الحرب السيبرانية كأداة فاعلة موازية للقوة الصلبة، إذ تبادلت تل أبيب وطهران ضربات إلكترونية طالت أنظمة تحكم حيوية، وخدمات اتصال، ومحطات طاقة، في سياق متزامن مع الضربات العسكرية. - حياد عربي لافت في المشهد السياسي
لاحظت الدراسة أن معظم الدول العربية تبنّت موقفًا صامتًا أو متحفظًا تجاه الحرب، ما فتح لإيران هامشًا سياسيًا غير مسبوق في المناورة، وساهم في تخفيف الضغط الدولي عليها خلال التصعيد.
ما الذي ينبغي على تركيا أن تتعلمه؟
لا تكتفي الدراسة التركية بتحليل مسار الحرب بين “إسرائيل” وإيران، بل تتعامل معها بوصفها ناقوس خطر استراتيجي يجب أن يدفع أنقرة إلى مراجعة جادة لمفهوم الأمن القومي. فالمواجهة التي جرت على بعد مئات الكيلومترات من الحدود التركية، تحمل في طيّاتها إشارات مباشرة حول طبيعة الحروب المقبلة، وما قد تجرّه من تداعيات غير متوقعة، سواء عسكريًا أو اقتصاديًا أو حتى سياسيًا.
وتنطلق الدراسة من فرضية أن تركيا ليست بمنأى عن آثار أي تصعيد كبير بين قوتين مثل إيران و”إسرائيل”، خصوصًا أن مناطق نفوذها الفعلي في سوريا والعراق والخليج قد تصبح مسرحًا جانبيًا أو ممرًا لارتدادات الصراع. كما أن حالة السيولة الأمنية في الإقليم، وتنامي دور الفاعلين من غير الدول، قد تضع الجيش والاستخبارات التركية أمام تحديات مركّبة ومتزامنة.
لهذا، تضع الدراسة مجموعة من التوصيات العملية التي ترى أن على تركيا تنفيذها عاجلًا، كي لا تجد نفسها في موقع ردّ الفعل لاحقًا، أو ضمن مسرح عمليات لم تختره.
أبرز التوصيات التي قدّمتها الدراسة:
- ضبط الحدود وتعزيز الجاهزية الميدانية
تحذّر الدراسة من احتمال تسلل جماعات مسلحة عبر الحدود الشرقية في حال توسع الصراع، أو تحوّله إلى مواجهة تشمل سوريا والعراق. توصي بزيادة عدد نقاط المراقبة، وتكثيف الطلعات الجوية الاستطلاعية، ونشر وحدات تدخل سريع على طول خطوط التماس.
- تحديث شامل للدفاعات الجوية
استنادًا إلى ما واجهته “إسرائيل” من صعوبة في التصدي للهجمات المركّبة، تدعو الورقة إلى تسريع تحديث منظومات الدفاع الجوي التركية، وتطوير أنظمة قادرة على اعتراض الطائرات المسيّرة والصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى، خاصة في ظل التهديدات المحتملة من الجنوب والشرق.
- الاستثمار في قدرات الحرب السيبرانية
تؤكد الدراسة أن الهجمات الإلكترونية باتت سلاحًا حاسمًا في أي حرب معاصرة. وتوصي بإنشاء وحدة وطنية متخصصة في الاستخبارات السيبرانية، وربطها مباشرة بمجلس الأمن القومي، مع تدريب طواقم قادرة على تنفيذ عمليات هجومية ودفاعية في الفضاء الرقمي.
- الاستعداد لاضطرابات في سوق الطاقة
يرى فريق الدراسة أن اندلاع أي مواجهة إقليمية قد يؤدي إلى تعطيل تدفق الغاز الإيراني إلى تركيا، أو ارتفاع كبير في الأسعار. ولهذا توصي الحكومة التركية بتوقيع اتفاقيات بديلة لتأمين الإمدادات، وتحديث خطط الطوارئ في قطاع الطاقة.
- تحييد الخطر الاقتصادي عبر تنويع الشراكات
في حال اتسع نطاق الحرب، فإن العلاقات التجارية القائمة مع طهران أو حتى تل أبيب قد تتأثر سلبًا. توصي الدراسة بتنويع الشركاء التجاريين، وتخفيف الاعتماد على طرف بعينه في القطاعات الحيوية، كالمعادن والتكنولوجيا والنقل.
- دور تركي محسوب في الوساطة
رغم أن تركيا تمتلك علاقات مع الطرفين المتصارعين، إلا أن الدراسة تحذّر من التسرع في تبنّي دور الوسيط دون مظلة دولية واضحة. كما تشترط لنجاح هذا الدور أن تحافظ أنقرة على توازن دقيق في خطابها السياسي، وألا تظهر انحيازًا يفرغ الوساطة من معناها.
- مراجعة العقيدة العسكرية التركية
تُختتم التوصيات بدعوة إلى مراجعة شاملة للعقيدة الدفاعية، خصوصًا في ما يتعلق بإدارة الأزمات الممتدة، والتنسيق بين فروع الجيش، وقدرة الاستخبارات على العمل في بيئات متغيرة وغير مركزية.
كيف قد تتطور الأمور بعد الحرب؟
لا تكتفي الدراسة التركية بفحص ما جرى خلال الحرب بين إيران و””إسرائيل””، بل تذهب أبعد من ذلك، محاوِلةً رسم خريطة للمرحلة المقبلة، من خلال استعراض السيناريوهات التي قد تنشأ عن هذا الصراع، سواء انتهى إلى تسوية محدودة، أو فُتح على تصعيد جديد. وترى الورقة أن المشهد الإقليمي بعد هذه الحرب لن يعود إلى ما كان عليه، حتى لو خمدت الجبهات ميدانيًا.
وتنطلق في تحليلها من قناعة بأن هذه الحرب لم تكن معركة عابرة، بل واحدة من الحلقات المؤسِّسة لتوازنات جديدة في الشرق الأوسط، تتقاطع فيها مصالح دولية كبرى، وتعيد ترتيب أولويات القوى الإقليمية. وفي قلب هذا المشهد، تجد تركيا نفسها معنية بكل الاحتمالات، بحكم موقعها الجغرافي، وامتداد مصالحها، وتماسها المباشر مع عدد من الأطراف المتأثرة.
وتفترض الدراسة أن طريقة تعاطي أنقرة مع هذه السيناريوهات، من حيث الاستعداد المبكر أو التباطؤ في التقدير، ستحدد مدى قدرتها على البقاء لاعبًا مؤثرًا لا مجرد متلقٍّ للتطورات.
السيناريوهات الأربعة التي ترسمها الدراسة:
- حرب شاملة تعيد تشكيل التوازنات
يُرجّح هذا السيناريو اتساع رقعة المواجهة إلى أكثر من جبهة، مع دخول أطراف إقليمية بشكل مباشر، مثل سوريا ولبنان وربما العراق، مما يؤدي إلى حالة استنزاف طويلة الأمد لكل من إيران و”إسرائيل”.
وترى الدراسة أن هذا السيناريو قد يخلق فراغًا استراتيجيًا تسعى قوى أخرى لملئه، بينها تركيا، سواء من خلال أدوات دبلوماسية، أو عبر توسيع انتشارها الأمني في مناطق النفوذ المتاخمة. - هدنة هشة برعاية دولية
يقوم هذا السيناريو على فرضية أن الحرب تنتهي بوقف إطلاق نار مؤقت، دون التوصّل إلى حل سياسي شامل. وتبقى أسباب الصراع قائمة، لكن من دون اشتعال عسكري فوري.
وتحذّر الدراسة من أن هذا الوضع يُبقي المنطقة في حالة توتر دائم، ويضع تركيا في موقع المراقب المقيّد، حيث لا مجال للتأثير المباشر ولا مفرّ من التعايش مع حالة اللايقين. - امتداد المواجهة إلى البحر الأحمر والخليج
ترى الورقة أنه إذا فشلت “إسرائيل” في تحقيق أهدافها على الجبهة الإيرانية، فقد تلجأ إلى نقل المعركة إلى الجبهات الخلفية، كاستهداف منشآت بحرية أو طرق إمداد في البحر الأحمر والخليج.
هذا السيناريو يهدد بشكل مباشر طرق التجارة الإقليمية وخطوط الطاقة، ويضع المصالح التركية في البحر الأحمر وقناة السويس وموانئ شرق المتوسط أمام مخاطر مباشرة، تستدعي إعادة انتشار أو تحالفات وقائية. - تثبيت توازن ردع جديد
يُعدّ هذا السيناريو، في تقدير الدراسة، الأكثر ترجيحًا. ويتأسس على أن إيران ستخرج من الحرب وقد عززت موقعها كقوة ردع حقيقية، دون انتصار كامل ل”إسرائيل”.
هذا التوازن الهش لا يفضي إلى حرب مفتوحة، لكنه يغيّر قواعد الاشتباك في المنطقة. وتُوصي الدراسة في هذا السياق بأن تُسرّع تركيا من تحديث بنيتها الدفاعية والاستخبارية، لأنها ستكون جزءًا من نظام أمني جديد يتشكل في الإقليم.
تُشكّل هذه الدراسة الصادرة عن أكاديمية الاستخبارات التركية قراءة مبكرة وناضجة لحرب قد تُعاد صياغتها بأشكال مختلفة في المستقبل. فرغم أن المواجهة لم تكن طويلة، إلا أن تداعياتها عميقة بما يكفي لتدفع أنقرة إلى مراجعة أولوياتها الأمنية والاستراتيجية. وبينما لا تدّعي الدراسة تقديم إجابات حاسمة، إلا أنها تضع بين يدي صانع القرار التركي أدوات لفهم المشهد وتقدير المخاطر القادمة.