تشهد مدينة الفاشر بولاية دارفور (غرب السودان) كارثة إنسانية غير مسبوقة، حيث يقبع مئات الالاف من سكانها محاصرين منذ مايو/أيار 2024 وسط إصرار من ميليشيات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) على رفض أي هدنة إنسانية تسمح بإدخال المساعدات الغذائية والطبية للمدينة البالغ سكانها أكثر من مليون ونصف نسمة.
ويتعرض سكان المدينة التي تعد آخر معاقل الجيش السوداني في دارفور لموجات قصف مدفعي وهجمات بالطائرات المسيرة على مدار الساعة، فيما وثقت المنظمات الحقوقية الدولية ما يجرى على أنه نمط من أنماط الجرائم ضد الإنسانية، وسط تحذيرات متصاعدة من تجاوز المشهد حاجز المواجهة العسكرية المنضبطة ببوصلة جغرافيا المدينة الضيقة، وانزلاقها نحو آفاق أكثر خطورة حيث مستنقع العنف العرقي والتطهير الطائفي الذي عرفته دارفور في العقدين الماضيين.
وأمام هذا المشهد الكارثي إنسانيًا، حيث التلاعب بحياة الملايين من السودانيين وتوظيفها كورقة ضغط وسلاح استراتيجي في معركة النفوذ بين الجنرالات، يقف المجتمع الدولي، ومن قبله العربي والإفريقي، عاجزًا عن تغيير قواعد اللعبة وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ليواجه أهالي الفاشر بمفردهم مصيرًا غامضًا، مرهونًا بمقاربات المكسب والخسارة لدى الأطراف المتنازعة.
وتحاول ميليشيا الدعم السريع السيطرة على مدينة الفاشر( تبلغ مساحتها 296 ألف كيلومتر مربع، وهي تعادل 12 في المائة من مساحة السودان تقريباً، وتمثل أكثر من نصف مساحة إقليم دارفور) لإحكام نفوذها على الإقليم الذي تسيطر حاليًا على 4 ولايات (ولاية جنوب دارفور وعاصمتها مدينة نيالا، ولاية غرب دارفور وعاصمتها الجنينة، ولاية شرق دارفور وعاصمتها الضعين، ولاية وسط دارفور وعاصمتها زالنجي) من أصل 5 ولايات تشكل خارطته الجغرافية.
وعلى مدار أكثر من 15 شهرًا تحولت الفاشر من رمز الاستقرار النسبي في إقليم دارفور إلى عاصمة التوتر ومرآة عاكسة لحالة الانهيار التي يعاني منها النظام السياسي والاجتماعي في السودان، بل تحولت إلى هيكل مجسم للمعاناة الوطنية وتجسيدًا واقعيًا للانهيار القيمي والإنساني، ونقطة مفصلية سيكون لها ما لها في هندسة المشهد السوداني ورسم بوصلة الحرب.
ما يحدث في الفاشر حلقة واحدة في مسلسل ما يعانيه السودان، ذلك البلد الأغنى إفريقيا بموارده الطبيعية، من تحديات إنسانية كارثية منذ اندلاع الحرب بين الجيش وميليشيا الدعم السريع في منتصف أبريل/نيسان 2023، تلك الحرب التي خلّفت أكثر من 20 ألف قتيل ( تقديرات أخرى تشير إلى تضاعف هذا الرقم بكثير) ونحو 15 مليون نازح ولاجئ، وفق الأمم المتحدة والسلطات المحلية.
جريمة حرب
تقف الفاشر اليوم على أعتاب كارثة إنسانية محققة، جريمة ضد الحياة مكتملة الأركان، فبينما تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن أكثر من 70% من سكان المدينة يعانون من انعدام الأمن الغذائي هناك من يتجاوز هذا الرقم ليؤكد أن المدينة بأكملها وعلى مدار أشهر طويلة سقطت عمليًا في مستنقع الجوع الممنهج الذي يضع عشرات الالاف على قوائم الموت البطيء
رئيس مجلس الوزراء السوداني، كامل إدريس، يصف ما يجري بأنه “جريمة حرب تُرتكب بدم بارد أمام أعين العالم، وصمت المجتمع الدولي هو شراكة غير مباشرة في هذه المجازر”، مضيفًا في بيان رسمي بثّته وكالة السودان للأنباء (سونا)، إن مدينة الفاشر “تخضع لواحدة من أكثر حالات الابتزاز الجماعي والتجويع الممنهج في التاريخ المعاصر”.
من جانبه حذّر برنامج الأغذية العالمي، من أن سكان الفاشر، يواجهون خطر مجاعة وشيكة، فيما قال المدير الإقليمي للبرنامج في شرق أفريقيا وجنوبها إريك بيرديسون إن “الجميع في الفاشر يواجه محنة يومية للصمود”، مشيرا إلى أن “القدرة على الصمود تلاشت بالكامل بعد أكثر من سنتين من الحرب”، محذرا من أن أرواحا “ستزهق في غياب وصول فوري ومستدام” إلى الموارد الأساسية.
شفت الامباز المعفن ده
الحمير رفضت تأكله… نحن نأكلهأسرة رجل مسن تأكل علف الحيوانات في مدينة الفاشر المحاصرة نتيجة الحصار والتجويع الممنهج الذي تفرضه مليشيا الدعم السريع المدعومة #إماراتيًا علي مدينة الفاشر. #الفاشر_تموت_جوعاََ#AlFashir_is_starving#August_for_Alfashir… pic.twitter.com/BRrCGnEgcQ
— Ahmed Shukri (@shukrisudani) August 5, 2025
أما على المستوى الصحي فالوضع يزداد سوءً يومًا تلو الأخر، فلا مستشفيات تعمل ولا وقود لتشغيل الأجهزة الطبية ولا أدوية متوفرة، يتزامن ذلك مع ارتفاعات قياسية في أعداد المصابين والمرضى، فيما يفاقم الجوع الأزمة ويجعل الموت أقرب للحياة لكثير من السودانيين في الفاشر.
ثم يأتي وباء الكوليرا ليُتوج تلك اللوحة السوداوية، ويزيد الصورة قتامة، حيث كشفت المنسقية العامة للنازحين واللاجئين في دارفور عن تسجيل 26 وفاة وأكثر من 1430 مصابا بالكوليرا في مدينة طويلة الواقعة على بعد 68 كيلومترا غربي الفاشر، كما حذرت من “تفش متسارع” للوباء يهدد المخيمات ومراكز الإيواء غير المجهزة بالمنطقة.
هذا في الوقت الذي تصاعد فيه التحذيرات من المؤسسات الصحية الرسمية من ارتفاع أعداد الوفيات بهذا الوباء في الفاشر، إذ سجلت السلطات الصحية المحلية في مخيمات النازحين واللاجئين على الحدود بين السودان وتشاد تفشيا متسارعا للوباء، لا سيما غربي مدينة المدينة ومحيطها.
كارثة إنسانية
نتيجة لهذا الحصار المطبق المفروض على الفاشر لأكثر من عام، مع منع ميليشا الدعم إدخال المساعدات، شهدت أسعار المواد الأساسية في المدينة ارتفاعا شديدا، حيث ارتفع سعر الذرة الرفيعة والقمح، وهما المحصولين المستخدمين في إعداد الخبز، السلعة الاستراتيجية الأكثر أهمية للسودانيين، بنسبة 460%، فيما تحولت كثير من الأسواق إلى مناطق أشباح، فارغة من السلع فيما أغلقت غالبية المطابخ المشتركة أبوابها.
وبسبب ندرة السلع من جانب وارتفاع أسعار الجنوني من جانب أخر، اضطرت عائلات عدة في الفاشر لتناول أعلاف الحيوانات، مثل “الأمباز” (مصنوع من قشور الفول السوداني) أو النفايات، في حين تحذر المنظمات الصحية من تبعات نقص التغذية في وسط الأطفال والتي بلغت مستويات مثيرة للقلق، إذ يعاني حوالي 40% من الأطفال دون الخامسة سوء تغذية حادًّا، من بينهم 11% مصابون بنقص شديد في التغذية، بحسب البرنامج الأممي، فيما حذرت منظمة اليونيسيف من تعرض أكثر من 640 ألف طفل دون سن الخامسة لخطر متزايد من العنف والجوع والمرض، وسط تفشي مرض الكوليرا في ولاية شمال دارفور
ونقلت وكالة “رويترز” عن عدد من سكان المدينة حجم المعاناة التي يتعرضون لها، حيث جاء على لسان أحدهم أنّ “مدفعية وطائرات الدعم السريع تقصف الفاشر صباحًا ومساءً”، مضيفًا أن “الكهرباء مقطوعة تمامًا، والمخابز مغلقة، والإمدادات الطبية شحيحة”، مشيرًا إلى أن عدد الوفيات “يزداد يوميًا، وأن المقابر تتوسّع”.
وتقول طبيبة في المدينة -طلبت عدم الكشف عن اسمها حفاظًا على سلامتها- إن: “الجوع مشكلة أكبر من القصف، فالأطفال كما الكبار يعانون من سوء التغذية، حتى أنا اليوم لم أتناول فطوري لأني لا أجد شيئًا”، فيما نقلت الوكالة عن أحد السكان المحللين تأكيده أن قوات الدعم السريع منعت وصول الإمدادات الغذائية، وأنّ قوافل المساعدات التي حاولت دخول المدينة كانت تتعرض للهجوم والنهب، ونتيجة لذلك، تجاوزت أسعار السلع المُهرّبة إلى الفاشر خمسة أضعاف السعر الوطني للمواد الغذائية.
هذا الوضع المأساوي دفع كثيرًا من سكان الفاشر للمغادرة والهروب إلى مناطق أخرى من بينها منطقة “الطويلة” التي تبعد نحو 60 كيلو مترًا غربًا، إلا أن طريق الهروب لم يكن مفروشًا بالورود، حيث واجهوا هجمات على طول الطريق من قبل مسلّحين تابعين لميليشيا الدعم السريع التي تفرض سيطرتها للحيلولة دون النزوح عن المدينة.
وتصف الشابة السودانية إنعام عبدالله ( 19 عامًا) ما تعرضت له خلال رحلة هروبها من الفاشر إلى الطويلة، قائلة : “فررنا أولًا إلى قرية شقرة، ثم إلى طويلة، فهاجمونا مجددًا”. وتضيف: “إذا وجدوا هاتفك، يأخذونه. المال؟ يأخذونه. حتى الحمار أو أي شيء آخر، يأخذونه، قتلوا الناس أمام أعيننا، واختطفوا الفتيات أمام أعيننا”.
وعن الواقع المرير الذي يعيشه أهل الفاشر، تقول عائشة عبد السلام، ربة منزل من حي الثورة “لا وجود للأسواق ولا للخبز، لا طعام، لا ماء صالح، أطفالي فقدوا الوزن، ولا أستطع تأمين الحليب منذ أكثر من عام. نأكل ما تبقى من المخزون ونحتمي في الزوايا من القصف”، مضيفة أن “الطائرات المسيّرة التابعة للدعم السريع تحلق فوق المدينة صباحا ومساء، ترصد وتضرب، ولا نعلم من سيكون الضحية التالية. لم يعد هناك مكان آمن، ولا بيت لم يُمسّ بأذى”
وهو ما أكد عليه الناشط الإغاثي سليمان هارون، الذي قال إن الوضع الإنساني في المدينة “لا يُوصف”، مشيراً إلى أن “قوافل الغذاء عاجزة عن الوصول، والناس تقتات على وجبة كل يومين، بعضها من التبرعات البسيطة، وبعضها من تبادل ما تبقى في المنازل المهجورة”، مضيفًا “شهدنا وفاة أطفال ونساء في الأيام الأخيرة جراء القصف المدفعي على مراكز الإيواء”.
وأشار الناشط السوداني إلى أن “فرق الإغاثة المحلية تعمل تحت الأرض لتفادي الاستهداف، وهي لا تستخدم السيارات، منوها أن الطائرات المسيّرة ترصد الحركة وتُهاجم سيارات الإغاثة وأماكن توزيع المواد، “ما جعلنا نلجأ إلى نقل المؤن بأيدي المتطوعين داخل حقائب صغيرة”، واختتم حديثه قائلا “ما يحدث هنا ليس مجرد حصار، إنها إبادة تُنفّذ بوعي كامل، وعلى المجتمع الدولي أن يُدرك أن بِصمته صار شريكا مباشرا في الكارثة”.
قوت أهل الفاشر #الفاشر_تموت_جوعاََ pic.twitter.com/8TvDVspdCp
— ROBEEN👑🇸🇩 (@abdoosh123) August 3, 2025
الاستهداف للفاشر لم يقتصر على التجويع ومنع إدخال المساعدات وفقط، بل استهدف نسف مقومات الحياة من جذورها، وإصابة المدينة بالشلل التام، فٌنسفت المشافي ودمٌرت المراكز الصحية، ومٌنعت الإغاثات الطبية من الدخول، وفٌرضت قيود مشددة على عمل الأطباء وأطقم التمريض والإسعافات، مما حول المدينة إلى أرض محروقة.
وفي سياق متصل كشف مرصد دارفور لحقوق الإنسان عن وجود معتقلات سرية في المدينة، في مقر الإمدادات الطبية (جنوب شرق) ومعسكر “جديد السيل” (شمال شر)ق، تحتجز فيها مليشيا الدعم السريع عددًا كبيرًا من النساء في ظروف غامضة، وسط تعتيم أمني كامل وغياب أي معلومات رسمية حول أوضاع المحتجزات.
ووفق ما تم توثيقه بحسب التحقيقات الأولية تعرض عدد من النساء داخل هذه المعتقلات لانتهاكات جسيمة، شملت حالات زواج قسري، وأسفرت بعض تلك الحالات عن حمل وسط المحتجزات، فيما لا زال العدد الحقيقي للنساء المحتجزات غير معروف بسبب الحصار المفروض والتكتم الشديد الذي يمنع حتى ذويهن من الوصول إليهن أو معرفة مصيرهن.
كل تلك الأدلة الموثقة عبر شهود العيان والمراقبين والنشطاء والجهات الحقوقية، دفعت المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، للميل إلى أن ما يحدث في الفاشر هي جرائم حرب منظمة ضد الإنسانية، داعيًا إلى جمع البيانات حول هذه الانتهاكات، تمهيدًا للتحقيق فيها ومحاسبة المتورطين.
البعض هنا يربط بين حصار الفاشر وأطول حصار غير تقليدي متواصل عرفته البشرية في التاريخ الحديث، هو حصار مدينة سراييفو على يد القوات الصربية عام 1992، والذي استمر نحو 1425 يومًا، وسط تعتيم إعلامي ممنهج وصمت دولي فاضح يعكس ازدواجية المجتمع الدولي في التعاطي مع الكوارث الإنسانية.
لماذا الفاشر؟
بجانب أنها ذات رمزية تاريخية بوصفها آخر عاصمة لإقليم دارفور قبل تقسيمه إدارياً إلى 5 ولايات في عهد نظام الرئيس السوداني المعزول عمر البشير، تتمتع الفاشر بموقع استراتيجي لوجستي هام، إذ تقع جغرافياً في ملتقى طرق ثلاث دول مجاورة للسودان، وهي: تشاد عبر معبر الطينة، وليبيا من خلال جبل عوينات، بالإضافة إلى مصر عبر الطريق التاريخية لدرب الأربعين.
ومن ثم فإن من يسيطر على تلك المدينة يعني عمليًا فرض الهيمنة على إقليم دارفور، الذي يحتل تقريبًا ربع مساحة السودان ( 493.18 ألف كيلو متر مربع)، ويربط البلاد بأربعة دول، ليبيا وتشاد وجمهورية إفريقيا الوسطى وجنوب السودان، الأمر الذي يجعل منه معركة حياة أو موت بالنسبة لحميدتي وميليشياته.
فالجيش إذا ما فقد الفاشر فإنه بذلك يتعرض لواحدة من أكبر خسائره العسكرية منذ بداية الحرب، ويفقد بشكل كامل إقليم دارفور بالكلية، وهو السيناريو الذي يثير شبح التقسيم ويطرحه على طاولة التكهنات، وفي المقابل يمنح الدعم مكتسبات لوجستية أخرى، إذ يؤمّن لها خطوط الإمداد العسكري، ويساعدها في تأسيس مركز للسيطرة والقيادة مفتوح المجال الجغرافي في الحدود الغربية، مما يساعدها لاحقا في مهاجمة ولايات كردفان، وتقوية دفاعاتها في ولاية الجزيرة (وسط السودان) لتهديد ولايات الشرق حتى الحدود الإثيوبية.
ونظرًا لقيمة تلك المعركة، حشدت ميليشيا الدعم كل ما يمكن حشده عسكريًا، مدعومة ببعض القوى الخارجية، حيث استقدمت مرتزقة أجانب للقتال إلى جوارها، خاصة من كولومبيا، لحسم موقعة الفاشر في مواجهة الجيش السوداني الذي نجح مؤخرًا في تحقيق بعض النجاحات الميدانية لكنها غير الكافية في هزيمة حميدتي بشكل كامل.
ومنذ فقدان الدعم السيطرة على ولاية الجزيرة والخرطوم، وأجزاء عدة من إقليم كردفان، يناور حميدتي بورقة الفاشر من أجل تحقيق أهدافه ومكاسبه السياسية، وذلك عبر خطة بديلة تٌبقيه على مسرح الأحداث وتحافظ على حظوظه السلطوية في اليوم التالي للحرب، تلك الخطة التي ترتكز على مسارين اثنين.
الأول وهو الضغط على حكومة بورتسودان والجيش السوداني لقبول مقترحات أو تقديم تنازلات تضمن مكاسب للدعم، وذلك من خلال دفع الأوضاع الإنسانية في الفاشر ودارفور بصفة عامة إلى ذروة التدهور، أما المسار الثاني فيتمثل في السيطرة الكاملة على إقليم دارفور تمهيدًا لإعلان فصله ثم فرض واقع التقسيم، وهو ما بدا تلوح إرهاصاته في الأفق عبر إعلان الدعم، إلى جانب القوى المتحالفة معها، عن تشكيل حكومة موازية في غرب السودان، حيث تسيطر حاليًا على أربع من ولايات دارفور الخمس.
وتحولت الفاشر – بفضل موقعها الجيوسياسي- إلى واحدة من أبرز ساحات النزاع في السودان بعد اندلاع الصراع في دارفور بين الحكومة وحركات التمرد عام 2003، حيث تعرضت لموجات نزوح جماعي غير مسبوقة حينها، مما أدى إلى إنشاء عدد كبير من معسكرات النازحين حول المدينة، مثل معسكر أبوشوك وزمزم، لتتحول إلى قنابل إنسانية موقوتة، حيث يعيش مئات الآلاف من السكان في ظروف غاية في الصعوبة والقسوة.
ومرت المدينة عبر تاريخها بالعديد من المحطات المحورية التي ساعدت في تشكيلها ووصولها إلى هذا المنعرج الصادم إنسانيًا، حيث مرت بأربعة منعرجات رئيسية، عاصمة للسلطنة حيث الازدهار والرخاء، ثم مركز للسلطة الاستعمارية البريطانية، مرورًا بالتهميش القاسي مع بزوغ فجر الدولة الحديثة، وصولا إلى المرحلة الحالية، بؤرة النزاعات المسلحة وساحة المعارك الكبرى التي يدفع السكان وحدهم ضريبتها الباهظة من قتل وانتهاكات وجوع وفقر ونزوح.
المجتمع الدولي بين الصمت والخذلان
لم يكن رد فعل المجتمع الدولي إزاء ما يتعرض له السودان بصفة عامة والفاشر على وجه الخصوص من كارثة إنسانية مكتملة الأركان، على المستوى المأمول، حيث جاءت الاستجابة مخيبة للأمال، فبينما كان البعض يعول على المنظمات الأممية في القيام بمسؤولياتها إزاء تلك المعاناة كان الصمت هو سيد الموقف.
ثمة أسباب أجهضت جهود الإغاثة الإنسانية الدولية المبذولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه سودانيًا، على رأسها عدم الوفاء بالالتزامات المادية المقررة، إذ لم يتم تمويل سوى 23 في المائة فقط من خطة الاستجابة الإنسانية العالمية للسودان التي تبلغ قيمتها 4.6 مليار دولار، وفق ما ذكر “مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية”.
هذا بجانب العقبات والتحديات اللوجستية حيث صعوبة الوصول إلى الكثير من المناطق المحتاجة للدعم والمساعدة، بسبب الطرق غير الممهدة، إما بفعل الأمطار أو عدم تعبيدها بالشكل المناسب، إضافة إلى وقوع مناطق أخرى تحت الحصار كما هو الحال في الفاشر.
في يونيو/حزيران الماضي كانت الأمم المتحدة قد اقترحت هدنة لمدة 7 أيام لإدخال المساعدات الإنسانية إلى الفاشر، وقد وافق عليها قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، إلا ان حميدتي رفضها بشكل قاطع، ومع ذلك لم يتحرك المجتمع الدولي جديًا لاتخاذ مواقف أكثر حسمًا ضد الدعم، وسط اتهامات غير رسمية بالتواطؤ.
وتناقش المنظمات الأممية حاليًا حزمة من الاختيارات والبدائل لإدخال المساعدات الإغاثية لسكان الفاشر المحاصرين، في ظل التقارير الصادمة عن الكارثة الإنسانية المحققة حال ما استمر الوضع على ماهو عليه، على رأسها الإنزالات الجوية، أسوة بما يحدث في غزة، وهي الخيارات التي ربما تصطدم بصلف وعناد حميدتي الذي يناور بهذه الورقة لتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب.
من جانبه يتهم وزير الثقافة والإعلام والسياحة في الحكومة السودانية، خالد علي الاعيسر، المجتمع الدولي بـ “ازدواجية المعايير” في المواقف تجاه الجرائم التي ترتكبها ميليشيات الدعم السريع والمرتزقة، لافتا أن تلك الازدواجية يدفع ثمنها اليوم الأطفال والنساء وكبار السن في السودان.
وأوضح الاعيسر في منشور له على فيسبوك نشرته وكالة الأنباء السودانية الرسمة “سونا” أنه “لو كانت المواقف الدولية صادقة، نابعة من مشاعر وقيم ومبادئ إنسانية راسخة، لما جاع المدنيون في الفاشر والدلنج وكادقلي وغيرها من المدن المكتظة بالأبرياء من المواطنين العزل”، داعيًا المجتمع الدولي لأن يتحمل مسؤولياته الأخلاقية والإنسانية، وأن يدعو إلى فك الحصار عن مدينة الفاشر، ويجرم القائمين بهذا الفعل اللا إنساني، ويدعم بوضوح خطة فتح الطرق المقطوعة نحو مدينتي الدلنج وكادقلي، ويرفض بحزم كل الأفعال الإجرامية المرتكبة في قرى ومدن وأرياف كردفان ودارفور، والتي يدفع ثمنها الأبرياء في ظل هذا الصمت الدولي المريب الذي يزيد معاناة المدنيين تفاقما”.