في وقت تتصاعد فيه التحولات الجيوسياسية في الشرق الأوسط، وتبحث الولايات المتحدة عن أدوات غير تقليدية لإعادة تثبيت نفوذها، برز اسم توم براك، رجل الأعمال الأميركي من أصول لبنانية، كمبعوث غير اعتيادي في ملفات هي من بين الأكثر تعقيدًا في المنطقة.
براك، الذي اشتهر في العقود الماضية كأحد عمالقة الاستثمار العقاري، وصديق شخصي للرئيس دونالد ترامب، بات اليوم أحد أبرز وجوه السياسة الأميركية في سوريا ولبنان، مكلفًا بإعادة ترتيب المشهد وفق رؤية “ترامبية” جديدة تتداخل فيها السياسة بالاقتصاد، والتكتيك بالدبلوماسية.
لم يكن اختياره لهذا الدور الرفيع مجرد مكافأة سياسية، بل انعكاسًا لتوجه الإدارة الأميركية نحو أدوات مرنة وغير نمطية في إدارة الملفات الخارجية الحساسة، فبراك الذي يحمل خلفية استثمارية ضاربة في العمق العربي، ويتقن اللغة العربية، أعيد توظيفه ضمن منظومة تهدف إلى هندسة توازنات جديدة في المشرق العربي، في ظل لحظة إقليمية غير مسبوقة فرضتها تداعيات الحرب الإسرائيلية واتفاقات التطبيع، وتراجع عدد من القوى التقليدية.
جذور لبنانية وبدايات قانونية
وُلد توماس جوزيف براك الابن، المعروف باسم توم براك، في 28 أبريل/نيسان 1947 بمدينة لوس أنجلوس بولاية كاليفورنيا الأميركية، لأسرة مهاجرة تنحدر من منطقة زحلة بمحافظة البقاع اللبناني. وقد نشأ في كنف عائلة متواضعة؛ كان والده صاحب متجر بقالة في مدينة كلفر سيتي، بينما عملت والدته سكرتيرة.
ينتمي براك إلى الجيل الثالث من العائلة التي هاجرت إلى الولايات المتحدة في مطلع القرن العشرين، تحديدًا عام 1900، ضمن موجة الهجرة المسيحية من لبنان إلى أميركا. وقد حافظ على ارتباطه بجذوره الثقافية، إلى جانب انخراطه المبكر في الحياة الأكاديمية والرياضية.
في عام 1969، حصل براك على درجة البكالوريوس في الآداب – تخصص التاريخ من جامعة جنوب كاليفورنيا ((USC، حيث تألق أيضًا كلاعب في فريق الرجبي الجامعي. واصل دراسته العليا في المجال القانوني، فالتحق بـ كلية جولد للحقوق في الجامعة نفسها، حيث شغل منصب رئيس تحرير مجلة Southern California Law Review، قبل أن يتخرج عام 1972 بدرجة الدكتوراه في القانون من جامعة سان دييغو.
امتلك براك ملكة لغوية لافتة، فهو إلى جانب الإنجليزية، يجيد التحدث بالإسبانية والفرنسية والعربية، ما منحه قدرة إضافية على التفاعل مع بيئات متنوعة، خاصة في المجالات التجارية والدبلوماسية لاحقًا.
على الصعيد الشخصي، تزوج براك في عام 2014 من راشيل روكسبره، وله منها طفلان.
من الاستثمار إلى التأثير السياسي
لم يكن صعود توم براك إلى دائرة السياسة الأميركية مفاجئًا لمن يعرفون خلفيته الاقتصادية وشبكة علاقاته الممتدة. فالرجل الذي بنى امبراطوريته في العقارات والاستثمارات، نسج علاقات قوية مع أبرز الفاعلين في الاقتصاد الأميركي، وعلى رأسهم دونالد ترامب، الذي فضّل منذ دخوله البيت الأبيض أن يُحيط نفسه برجال أعمال من طينة براك: أصحاب الخبرة في المال والصفقات الكبرى.
بدأ براك حياته المهنية محاميًا في مكتب هربرت كالمباخ، المستشار القانوني للرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون، ثم عاد إلى الولايات المتحدة منتصف السبعينيات ليؤسس خطواته الأولى في سوق الاستثمار العقاري، حيث تولى رئاسة شركة “دان إنترناشونال كوربوريشن” المتخصصة في بناء المجمعات الصناعية.
ومع بداية الثمانينيات، عُيّن نائبًا لوكيل وزارة الداخلية الأميركية في إدارة الرئيس رونالد ريغان، قبل أن ينتقل إلى رئاسة “أوكسفورد ديفيلوبمنت فنتشرز” في كندا، ثم شغل منصب نائب أول لرئيس شركة “إي إف هاتون” في نيويورك. وفي عام 1986، انضم شريكًا رئيسيًا في مجموعة “روبرت إم باس” الاستثمارية، وظل فيها حتى عام 1991.
كان العام 1991 مفصليًا في مسيرة براك، حين أسس شركة “كولوني كابيتال” (التي باتت تُعرف لاحقًا باسم “ديجيتال بريدج”)، والتي تحولت إلى واحدة من أكبر شركات الاستثمار العقاري الخاص في العالم، وتوسعت أعماله لتشمل أصولًا ضخمة، مثل فندق “بلازا” الشهير في نيويورك ومنتجع “نيفرلاند” الذي كان مملوكًا لمايكل جاكسون، إلى جانب استثماراته في قطاع الترفيه من خلال استحواذه على شركة “ميراماكس” السينمائية.
لم تقتصر مسيرته على عالم المال فقط، بل دخل براك مجالس إدارة مؤسسات مالية وسياحية بارزة، منها بنك “فيرست ريبابليك”، ومجموعة “أكور” الفندقية، ومجموعة “فيرمونت”، وشركة “كيرزنر” المختصة بالضيافة.
لكن تحوّله السياسي الحقيقي بدأ مع انتخاب دونالد ترامب، الذي تجمعه به علاقة تعود إلى تسعينيات القرن العشرين، حين باع له حصة في سلسلة متاجر “ألكسندرز”، إذ تطورت العلاقة تدريجيًا، إلى أن أصبح براك مستشارًا لحملة ترامب الانتخابية في عام 2016، ثم تولى رئاسة لجنة تنصيبه، مشرفًا على مراسم تنصيب الرئيس الخامس والأربعين في تاريخ الولايات المتحدة.
لاحقًا، وفي يوليو/تموز 2021، وُجهت إلى براك اتهامات فدرالية تتعلق بالعمل لصالح دولة أجنبية، ومحاولة التأثير على السياسة الأميركية من خلال قربه من حملة ترامب، بالإضافة إلى اتهامات بالإدلاء بمعلومات كاذبة لمكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI)، لكنه بُرّئ من تلك التهم في نوفمبر/تشرين الثاني 2022.
وعندما عاد ترامب إلى البيت الأبيض بعد فوزه في انتخابات عام 2024، أعلن نيّته ترشيح توم براك لمنصب سفير الولايات المتحدة لدى تركيا، وهو ما صادق عليه مجلس الشيوخ الأميركي أواخر أبريل/نيسان 2025، رغم غياب أي خبرة دبلوماسية سابقة لديه، في مشهد يعكس استمرار ترامب في تعيين رجال الأعمال المقرّبين في مواقع حساسة.
حصل براك خلال مسيرته على عدة أوسمة وجوائز، من بينها جائزة اللوحة الذهبية من الأكاديمية الأميركية للإنجاز عام 2000، ووسام جوقة الشرف الفرنسي عام 2010، إلى جانب دكتوراه فخرية من جامعة بيبردين ولقب “رائد أعمال العام” من مركز “لويد غريف” عام 2005.
علاقات قديمة في الشرق الأوسط
لم تكن علاقة توم براك بالشرق الأوسط مرتبطة بجذوره اللبنانية فقط، ولا بإجادته اللغة العربية التي ورثها عن أجداده المهاجرين من زحلة، بل كانت أعمق من ذلك بكثير، إذ تأسست العلاقة عبر عقود من الشراكات المالية والصفقات العابرة للحدود، وتشكلت في أروقة الاستثمارات ودهاليز الشركات العابرة للقارات، لتغدو لاحقًا جزءًا من شبكة النفوذ الأميركي في المنطقة.
بدأت الحكاية في العام 1972، حين سافر براك إلى السعودية ضمن وفد لشركة أميركية بهدف إبرام عقد لإقامة مصنع لإنتاج الغاز السائل، ولم يكن الشاب الأميركي حينها يدرك أن جلسة رياضية عابرة ستشكل منعطفًا حاسمًا في مسيرته. فقد طُلب منه أن يشارك سعوديًا في مباراة إسكواش، ليتبين لاحقًا أن هذا الشريك هو أحد أبناء العائلة المالكة في السعودية، وسرعان ما توطدت العلاقة، وبات براك – بحسب وصفه – “ممثل الأطفال لدى الولايات المتحدة”، أي ممثل أبناء الملك في أميركا.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل استثمر براك علاقته الوثيقة بالعائلة المالكة السعودية لاحقًا في دعم عدد من المشاريع، بما في ذلك مساعدة دونالد ترامب شخصيًا في تجاوز أزماته المالية. ففي عام 1994، كان ترامب يواجه ضائقة مالية حادة تهدد مشاريعه العقارية، واتصل به أحد مسؤولي بنك “تشيز مانهاتن” طالبًا مساعدته لإنقاذ مشروع متعثر لترامب في مانهاتن، حينها سافر براك في جولة إلى عدد من دول الشرق الأوسط، وحصل على تعهدات مالية مباشرة من أصدقائه القدامى في السعودية لإنقاذ استثمارات ترامب.
ولم تكن تلك الحادثة استثناءً، بل جزءًا من سجل طويل من الشراكات بين براك ورجال المال في المنطقة، فقد شارك في تأسيس شراكات كبرى مثل امتلاك حصة من شركة ميراماكس للسينما بالشراكة مع الصندوق السيادي القطري، كما كان شريكًا للأمير الوليد بن طلال في شركة “فيرمونت آند رافلز” المالكة لفنادق كبرى في مكة ودبي والقاهرة، بالإضافة إلى شراكة ضخمة في سلسلة متاجر “كارفور” العالمية إلى جانب رجل الأعمال الفرنسي برنارد أرنو.
وعندما بدأت حملة ترامب الانتخابية في 2016 تثير القلق في أوساط الخليج بسبب تصريحاته عن منع المسلمين من دخول أميركا، كان توم براك في قلب محاولات التهدئة، كشفت صحيفة نيويورك تايمز أن السفير الإماراتي في واشنطن، يوسف العتيبة، بعث رسالة إلى براك يقول فيها: “هناك غموض شديد يحيط بصديقك دونالد ترامب”، مضيفًا: “إنه يثير قلقًا عميقًا لدى كثيرين”. فرد عليه براك مؤكدًا أن ترامب “يفهم موقف دول الخليج” وأن “له استثمارات مشتركة في الإمارات”.
كما لعب براك دورًا في ترويج جاريد كوشنر، صهر ترامب، لدى المسؤولين الخليجيين، وكتب في رسالة إلى العتيبة عام 2016 يقول: “ستحبه، وهو يوافق على أجندتنا”، بحسب ما نقلته نيويورك تايمز.
دوره في قمة الرياض عام 2017 كان لافتًا، حيث قالت صحيفة واشنطن بوست إن براك عمل خلف الكواليس لتمهيد السبيل للقاء ترامب بقادة الخليج، مستغلًا علاقاته الوثيقة الممتدة منذ عقود. وبالتالي لم يكن براك مجرد رجل أعمال عادي، بل جسرًا سياسيًا واقتصاديًا بين الإدارات الأميركية وقادة الخليج، يُستدعى حين تعقِد العلاقات أو تُفتح أبواب النفوذ.
هندسة الهيمنة الأميركية في سوريا ولبنان
منذ توليه منصب سفير الولايات المتحدة لدى تركيا، ثم تكليفه كمبعوث خاص إلى سوريا وملف لبنان، برز توم براك كأحد أعمدة إعادة تشكيل النفوذ الأميركي في المشرق العربي، في لحظة مفصلية تسعى فيها إدارة ترامب لاستثمار التحولات الإقليمية التي فرضتها موجات التصعيد الإسرائيلي، وضربات تقاطعت مع التغيرات البنيوية في المنطقة ومحاورها.
في الملف السوري، بدأ براك مهمته بتصريحات تستبطن تحوّلاً في الخطاب الأميركي، إذ أعلن أن رفع العقوبات عن سوريا يخدم “هزيمة داعش” و”منح الشعب فرصة لمستقبل أفضل”، مقدّمًا نفسه كوسيط انتقال سلمي لا كراعٍ لمشروع تغيير بالقوة.
وسرعان ما بدأ مهمته بخطوات رمزية لافتة، على رأسها المشاركة في مراسيم رفع العلم الأميركي في مقر السفارة بدمشق لأول مرة منذ 2012، بحضور رسمي سوري، إيذانًا بعودة التواصل العلني مع الدولة السورية تحت قيادة الرئيس الانتقالي أحمد الشرع. وقد جاء ذلك متزامنًا مع تقليص مدروس ومتدرج للوجود العسكري الأميركي في شمال شرق سوريا، من 8 قواعد إلى قاعدة واحدة، بما يوحي برغبة واشنطن في إعادة تموضع وليس انسحابًا كاملاً.
لكن ما بدا مقاربة جديدة “نظيفة” حمل في طياته مشروعًا أكثر تعقيدًا، يقوم على إعادة صياغة النظام السياسي السوري الجديد، وتفكيك الكثير من المواقف، فقد دعا براك إلى اتفاق عدم اعتداء بين سوريا وإسرائيل، مشيرًا إلى محادثات “هادئة” بين الطرفين تجري برعاية أميركية، تمهيدًا لما وصفه بـ”انضمام تدريجي” لسوريا إلى اتفاقات أبراهام، وإن كان ذلك “قد يستغرق وقتًا”.
وترافق ذلك مع دور اقتصادي موازٍ، حيث رعى براك توقيع مذكرة تفاهم كبرى لإعادة تأهيل قطاع الطاقة في سوريا، بين حكومة دمشق وشركات أميركية وقطرية وتركية، بقيمة 7 مليارات دولار، ما يكرّس عودة أميركية ناعمة عبر البوابة الاستثمارية لا العسكرية.
أما في لبنان، فقد لعب براك دورًا بالغ الحساسية، مركّزًا على ثنائية الأمن والسيادة، فمنذ زياراته الأولى في يونيو ويوليو 2025، طرح ورقة أميركية تفصيلية على الحكومة اللبنانية، تتضمن:
- نزع سلاح حزب الله وحصر السلاح بيد الدولة.
- إصلاحات مالية واقتصادية ومكافحة اقتصاد الكاش.
- تحسين العلاقة مع سوريا وترسيم الحدود البرية والبحرية.
وحمل براك هذا المقترح إلى الرؤساء الثلاثة (عون، سلام، بري) وإلى البطريرك الماروني وزعيم “القوات اللبنانية”، مؤكدًا أن تنفيذ هذه البنود سيقابله دعم خليجي لإعمار الجنوب، و”فوائد” مباشرة للطائفة الشيعية.
لكن، وفي مقابل هذا العرض، لم يتردد براك في تحميل حزب الله مسؤولية “فشل” اتفاق وقف إطلاق النار مع إسرائيل، مشيرًا إلى أن تل أبيب ما تزال تنفّذ ضربات على لبنان، في وقت يرفض فيه الحزب تقديم تنازلات أمنية دون ضمانات حقيقية بوقف الاعتداءات الإسرائيلية.
وبرز هنا أسلوب براك الدبلوماسي الجديد في تفكيك أوراق الضغط، عبر تقديم المقترحات وتقديم نموذج مغاير لحالة “التبجح” التي اتبعتها المبعوثة الأمريكية السابقة مورغان أورتاغوس، وبذلك يعمل براك على محاولة استمالة شركاء محتملين في بيروت دون استفزاز بيئتهم.
ويقود توم براك – باسم إدارة ترامب – مقاربة تبدو في ظاهرها براغماتية وهادئة، لكنها ترتكز في جوهرها على إعادة هندسة دور الولايات المتحدة في منطقتين مركزيتين:
- في سوريا، من خلال إعادة دمج النظام الجديد في البيئة الإقليمية والدفع نحو تطبيع سياسي وأمني مع إسرائيل.
- في لبنان، من خلال إعادة ضبط التوازن الداخلي عبر تحجيم سلاح حزب الله وفتح قنوات دعم مشروطة، تحاكي تجربة “المال مقابل الاستقرار”.
ويستند براك في هذه المقاربة إلى لحظة إقليمية استثنائية تشهد تراجعًا إيرانيًا عقب الضربات التي تلقتها طهران وحلفاؤها في قطاع غزة ولبنان واليمن وسوريا، ما يجعل واشنطن – بحسب قوله – أمام “فرصة قصيرة الأمد” لإعادة ترتيب المشهد الإقليمي.
وفي ظل حديثه المتكرر عن “نهاية عصر التدخل الغربي” و”بداية شراكات قائمة على الاحترام”، تتجلى الازدواجية الأميركية المعتادة، عبر تقديم خطاب مهادن ومقاربة اقتصادية ناعمة، فيما تقف خلفها شروط سياسية وأمنية صلبة تستهدف حسم توازنات كانت عصية على التغيير لعقود.