خلال الساعات والأيام القليلة الماضية، قامت أجهزة الأمن المصرية بالقبض على مشاهير “التيك توك”، بتهم مخالفة “قيم الأسرة المصرية”، ونشر محتوى “غير لائق”، وغير ذلك من اتهامات متباينة ومكرّرة وذات طابع جنائي.
لكن، توجد أهداف وأسباب سياسية وأمنية أُخرى وراء حملة الاعتقالات، فما هي؟ وقبل ذلك، كيف وصلنا إلى ظاهرة وجود ملايين المصريين على منصة “تيك توك”؟
القمع السلطوي وإفراغ الحياة العامة
صنعت منصات التواصل الاجتماعي نمطًا معيشيًا جديدًا في السنوات الأخيرة، لا سيما مع صناعة تطبيقات الألعاب والتحديات واللقاءات المرئية بين الأفراد بهدف التعارف وغير ذلك، منها كان تطبيق “تيك توك”، والذي أحدث ضجة في مصر من كثرة مستخدميه، لا سيما من الشباب الأصغر سنًا، فيما يُعرفون بجيل Z، حيث يستخدم التطبيق في مصر أكثر من 32 مليونًا، وهو عدد كبير جدًا، بل ومتزايد مقارنةً بسنوات التطبيق الأولى في مصر، منذ أواخر عام 2017، حيث كان عدد مستخدميه قرابة 5 ملايين فقط.
هذا الإقبال الكثيف على التطبيق، ليس بهدف التسلية والتعارف وملء أوقات الفراغ فحسب، فمنذ سنوات قليلة، أتاح التطبيق ألعاب التحديات بفتح غرف دردشة مع مستخدمين آخرين. ومن خلال هذه التحديات، والدعم الذي يأتي من المشاهدين والمتابعين، يربح المستخدم أموالًا كثيرة في شكل هدايا. من هنا، أصبح المستخدم يرى أن وجوده على المنصة بمثابة آلية ربح مادي سهلة، في ظل حالة إفقار يعيشها المصريون بسبب السياسات الاقتصادية الخاطئة للسلطوية التي تجاهلت احتياجات المواطنين وتسبّبت لهم في فقر شديد.
أيضًا، بجانب الربح، يعطي التطبيق لمستخدميه، وخصوصًا إن كانوا شخصيات مثيرة للضحك والسخرية، شهرة واسعة، والتي بدورها تُشبع صاحبها بحاجته للاعتراف، أي أنه أصبح شخصًا معروفًا وسط ملايين من المصريين وغيرهم، ما يُلبّي حاجته في الوجود. أي أنهم، حسب الفيلسوف الألماني أكسل هونيث، يصارعون من أجل الاعتراف، خصوصًا أن معظم من يستخدمون التطبيق جاءوا من طبقات وسطى وفقيرة ومهمّشة طيلة عمرها، سواء تهميشًا مجتمعيًا أو سلطويًا. لذا، أعطتهم هذه الشهرة قيمةً ومعنى لوجودهم، إذ أصبحوا، بمعايير السوشيال ميديا، نجوما في الضحك والسخرية، وكذلك ربما يصبحون نجوما للفن وصناعة الإعلانات، لما توفّره السوشيال ميديا كمحطة للانتقال إلى العمل الفني والتجاري لدى الشركات.
هذا الوجود، ودوافعه، لم يكن مُنعزلًا عن الحالة السياسية المُفرغة في مصر، فقد كبر هؤلاء الشباب في ظلّ صعود سلطوية ما بعد يوليو/ تموز 2013، حيث وجدوا سلطوية قمعية أفرغت الحياة العامة من قراءة وممارسة الفكر والسياسة، والمشاركة المدنية والثقافية والحقوقية، وغير ذلك من أعمال تخصّ الحياة العامة.
هذا الإفراغ، والذي فرضته السلطوية بأدواتها القمعية من السجن والقتل والتعذيب والإخفاء والمنع والترهيب، جعلهم يُفرّغون طاقتهم الحياتية، وما يُشبع احتياجاتهم النفسية والاجتماعية والمادية، من خلال تطبيقات التواصل الاجتماعي، وأهمّها تطبيق “تيك توك”.
كيف تفكر السُلطة؟
منذ أيام، قامت قوات الأمن المصرية بالقبض على الكثير من صانعي ومشاهير منصة “تيك توك”، وكانت التهم الأساسية التي تُصرّح بها بيانات وزارة الداخلية هي نشر محتوى “غير لائق”، والاعتداء على “قيم الأسرة المصرية”. هذه التهم لم تكن جديدة على المجتمع، فهي تُهم مُكرّرة، وقد وُجّهت إلى شباب وفتيات على تلك المنصات في السنوات الماضية، بعد أن تم القبض عليهم، وصدر بحقهم عقوبات بسنوات وأموال متباينة من السجن والتغريم. لكن، أيضًا، دائمًا ما وُجدت تهم أُخرى غير التهم “الأخلاقية”، مثل “الاتجار بالبشر”، كما في قضية حنين حسام، أو حتى “غسيل الأموال”، وهي التهمة التي وجّهتها وزارة الداخلية لصانعة المحتوى “سوزي الأردنية”، التي تم القبض عليها مؤخرًا.
فيما يخص الاعتداء على “قيم الأسرة المصرية” وعلى مفاهيم وتمثّلات الأخلاق الاجتماعية بشكل عام، فهي تُهم فضفاضة، ليس لها محدّدٌ ثابت. فنشر الفسق والفجور، وغير ذلك من محتويات جنسية لسانية وجسدية “غير لائقة”، تُحدّدها السلطة لا المجتمع. فأي سلطوية، ومنها السلطة في مصر، لها خطابها العام وتمثّلاته وتعريفاته للأخلاق. ويختلف هذا الخطاب في فرضه من طبقات إلى أُخرى. فترى السلطوية أن فضاءات التواصل الاجتماعي هي فضاءات غير رسمية، لا يجوز فيها ممارسة أي إساءات أو إيحاءات غير أخلاقية، بالرغم من أن كل هذه الإساءات والإيحاءات تحدث في البرامج التلفزيونية، وشاشات السينما والدراما، ولا تعاقبها السلطوية، وحتى في الفضاءات الواقعية المعروفة بوجود ذوي السلطة فيها، مثل المدن الجديدة في مصايف السواحل الشمالية.
هنا، تُحدّد السلطة فرض خطابها الأخلاقي حسب الطبقات الاجتماعية والمادية، إذ تفرض خطابها وعقابها على فئات طبقية معينة، ليس مسموحًا لها ارتكاب الممارسات “غير الأخلاقية”، كما أنه ليس مسموحًا لها الصعود الطبقي المادي السريع. إذ كان للسلطوية حادثة منذ أشهر، حين اعتقلت اليوتيوبر أحمد أبو زيد، بتهمة حيازة مبالغ مالية من الدولارات دون مصدر واضح. وقد أثبت أن أرباحه كانت من خلال مشاهدات “يوتيوب”، وهو مصدر شرعي تُقنّنه الدولة المصرية، لكن صادرت السلطة أمواله، ومن ثم أفرجت عنه دون أي تعويض أو استكمال للتحقيقات أو غير ذلك من مسارات قانونية واضحة وعادلة. ما يعني أن الطبقة الاجتماعية تفرض نفسها حيال محددات السلطوية لممارسة الأخلاق وحيازة الأموال.
افتقاد مسار العدالة والإصلاح
هناك أيضًا تُهم أُخرى وُجّهت في الحملة الأخيرة، منها “غسيل أموال”، حيث اتهمت وزارة الداخلية، في بيان لها، صانعة المحتوى المعروفة بـ “سوزي الأردنية” بغسيل قرابة 15 مليون جنيه مصري، بعدما تربّحت بهم من منصة “تيك توك”، لكنها أخفت مصادر تلك الأموال من خلال شراء وحدات سكنية، ولا يزال يُجرى التحقيق في القضية.
لكن، أيضًا، لم يكن هذا هو السبب الرئيسي في حملة الاعتقالات، فمن بين المقبوض عليهم صانع المحتوى ومقدّم البودكاست محمد عبد العاطي، وتهمته – ومعه العشرات من المقبوض عليهم – حسب بيان وزارة الداخلية حتى الآن، هي “مخالفة القيم العامة” ونشر محتوى “غير لائق”، فلا توجد عليهم شبهة جنائية خاصة بالاتجار بالبشر أو غسيل الأموال أو النصب أو حيازة مخدرات أو غير ذلك.
ومع الوقت، تظهر كواليس جديدة في تلك القضايا، وتظهر تُهم ذات طابع جنائي، إلّا أن هذا لا يتعارض مع عقلية السلطوية في فرض خطابها الأخلاقي والعقابي بشكل انتقائي حيال طبقات وسطى ومهمّشة، خطابها الذي تراه هي، لا المجتمع بجميع فئاته، وأيضًا عقابها الذي تراه، لا المجتمع.
فالإشكالية الأُخرى التي تُواجه المجتمع المصري مع السلطوية، ليست فرضها خطابًا أخلاقيًا بالاعتقال والسجن والاعتداء فحسب، بل افتقاد المسار الصحيح لمنظومة العدالة ذاتها، فتوجد قضايا ذات طابع سياسي ومجتمعي تُشكَّل منذ بداية الاعتقال وحتى إصدار الأحكام من خلال مكاتب “الأمن الوطني”، لا القضاء المصري، إذ ترى الجهة الأولى أنها جهة فوقية، أي جهة سيادية عليا، وهي التي تُقرّر أمن البلاد ومحاكمة من تراهم يُهدّدون أو يُخلّون بهذا الأمن.
هذا فضلًا عن منظومة السجون المصرية، التي تُعد مصنعًا لإنتاج كائنات مشوّهة ومُدمّرة، بسبب نمط الحياة المرير غير الإنساني الذي يعيشه السجناء، والتي تتجاهل كل القوانين الدستورية ضمن لائحة السجون، التي تُقرّ بحق السجناء في العيش بكل مقوّمات الحياة الإنسانية الكريمة.
ختامًا، تعمل السلطوية في مصر أولًا، من خلال رقابتها لما يحدث في الفضاء الرقمي، بواسطة وحدة الرصد بالنيابة العامة ومباحث الإنترنت. ومن ثم تفرض رؤيتها الأخلاقية والعقابية على المجتمع بالقمع، والانتقائية، والعنف، دون أي محاولة للإصلاح أو التفاهم أو بث خطاب مجتمعي هادئ، يتحدّث ويناقش وينصح، ويفتح المجالات العامة الفكرية والسياسية للنقاش والمشاركة.
وحتى عقاب السلطوية لا يأتي ضمن منظومة عدالة حقيقية لا تستثني فئات فقيرة أو مهمّشة، ولا تُطوَّع بأوامر من جهات سيادية أمنية وسياسية وعُليا، بل يأتي ضمن منظومة قضائية وسجنية غير عادلة ولا آدمية، بل ومُدمّرة للإنسان والمجتمع.