في تطور لافت على صعيد السياسة الخارجية لسوريا ما بعد الأسد، وصل وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إلى موسكو في زيارة هي الأولى لمسؤول سوري رفيع منذ تشكيل الحكومة الجديدة في دمشق. وتأتي هذه الخطوة في سياق توجه واضح نحو بناء علاقات استراتيجية مع الكرملين، في ظل حاجة ملحّة لاحتواء تحديات داخلية متراكمة وضغوط خارجية متزايدة.
وتبدو القيادة السورية الجديدة مدركة أن موسكو -ورغم دعمها السابق للأسد- لم تغلق أبوابها أمام العهد السوري الجديد، بل بدا الكرملين من خلال التصريحات والتحركات الدبلوماسية الخاصة بسوريا مستعداً لإعادة التموضع بما يراعي المتغيرات دون أن يتخلى عن مصالحه الاستراتيجية في سوريا.
ومع وصف الخارجية السورية للقاء الذي جمعه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنه “تاريخي”، يبرز السؤال التالي: هل تراهن دمشق بالفعل على علاقات قوية مع موسكو كمدخل لحلحلة الملفات الشائكة؟ وهل تمثل موسكو شريكا موثوقا في مسار التحول السوري؟
موسكو مفتاح التهدئة في الساحل
مع كل تصاعد أمني تشهده منطقة الساحل السوري، تعود الأنظار إلى موسكو باعتبارها الطرف القادر – وربما الوحيد – على ضبط التوازن الهش في معقل النظام السابق. فروسيا التي تمتلك قاعدة عسكرية راسخة في طرطوس، وعلاقات وثيقة بالطائفة العلوية وبقايا المؤسسة العسكرية للنظام المخلوع، تحولت عملياً إلى الطرف الأكثر تأثيراً في الساحل، سواء عبر القوة أو من خلال أدوات النفوذ المحلي.
وقد نفت موسكو على لسان مصدر دبلوماسي أي علاقة لها بالتحركات العسكرية التي شهدها الساحل قي آذار الماضي، مشيرة إلى أن الاتهامات التي طالتها بشأن دعم فلول النظام لا أساس لها من الصحة. المصدر ذاته شدد في تصريحات صحفية على أن روسيا ملتزمة بدعم وحدة سوريا، وتعارض أي انزلاق نحو الفوضى أو النزاعات الأهلية.
إلا أن هذا النفي لا يلغي واقع النفوذ الروسي المتزايد في المنطقة، كما يؤكد الباحث في الشأن السوري محمود حمزة، الذي يرى أن موسكو ترتبط بعلاقات عميقة مع الساحل السوري، “لا سيما مع الطائفة العلوية، حيث يقيم الآلاف من ضباط النظام المخلوع في روسيا، وبعضهم تحت رعاية مباشرة، وفي مقدمتهم بشار الأسد نفسه”، بحسب ما صرّح به لموقع نون بوست.
ويضيف حمزة أن النفوذ الروسي يستند إلى ركيزتين أساسيتين: القاعدة البحرية في طرطوس، والعلاقات السياسية والاجتماعية مع شبكات النفوذ المحلية في الساحل. “وهو ما يمنح موسكو ورقة ضغط حقيقية في أي تسوية سياسية مقبلة، وقدرة عملية على احتواء أو تفكيك أي تحركات عسكرية خارج سيطرة الدولة السورية الجديدة”، حسب تعبيره.
وتتفق تحليلات أخرى، من بينها تقرير نشره Carnegie Middle East Center، على أن روسيا باتت تمثل “ضامناً أمنياً غير معلن” في الساحل، من خلال شبكة مصالح معقدة تضم زعامات محلية ومليشيات سابقة وضباطاً مؤثرين في بنية ما بعد النظام. هذه الشبكة تضع موسكو في موقع يمكنها – إن رغبت – من لعب دور حاسم في تهدئة الأوضاع، أو على العكس، من استخدام الساحل كورقة ضغط في ملفات إقليمية أوسع.
هل تؤثر موسكو بملف “قسد”؟
منذ لحظة تشكّل قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، أدركت موسكو أنها أمام كيان صاعد لا يمكن تجاهله في المعادلة السورية. ورغم ما أبدته روسيا من تمسك دائم بوحدة الأراضي السورية ورفض المشاريع الانفصالية، إلا أنها اختارت مقاربة أكثر براغماتية مع قسد، قوامها النفوذ الناعم والتأثير غير المعلن، بدل المواجهة أو التحالف المباشر.
هذا الحضور الروسي لم يكن وليد مرحلة ما بعد سقوط النظام فحسب، بل يمتد إلى ما قبله بسنوات، ففي 10 فبراير/شباط 2016، افتتحت الإدارة الذاتية الكردية مكتب ارتباط رسمي لها في موسكو، وهو تطور غير مسبوق في العلاقات، عُزِّز بلقاءات عسكرية جرت في الشهر ذاته بين قيادات من قسد وضباط روس.
ولم يقتصر الأمر على الدبلوماسية، بل تعداه إلى تعاون ميداني مباشر، حيث تولّى ضباط روس تدريب عناصر من “وحدات حماية الشعب” الكردية في منطقة عفرين، وقدّمت روسيا دعماً جوياً لقوات قسد خلال معاركها ضد فصائل الجيش السوري الحر، مما شكّل حينها تحولاً لافتاً في التموضع الروسي تجاه الأكراد.
ومع سقوط نظام بشار الأسد ودخول سوريا مرحلة انتقالية جديدة، ازدادت قدرة موسكو على التأثير في ملف قسد، لا سيما مع تراجع الدور الأميركي وتبدّل مواقف دمشق، فروسيا التي لطالما انتقدت واشنطن لدعمها لقسد، تحتفظ بعلاقة متقدمة مع هذه القوات رغم غياب أي اتفاق مبدئي أو تحالف معلن.
وفي هذا السياق يؤكد الباحث حمزة أن من بين المؤشرات على وجود تنسيق غير رسمي بين موسكو و “قسد” قيام روسيا بنقل معداتها العسكرية إلى مطار القامشلي، الواقع عملياً ضمن مناطق سيطرة قسد، مما يرجح وجود تفاهمات غير معلنة، وربما تمت بطلب من دمشق التي تسعى إلى احتواء الملف الكردي دون الدخول في صدام مباشر.
ويتابع الباحث حمزة أن ذلك يعزز موقع موسكو كطرف فاعل خلف الستار، قادر على التأثير في قرارات قسد، وتوجيه مواقفها، وربما تهيئتها للاندماج في إطار الدولة السورية الجديدة وفق رؤية روسية واضحة، مبنية على الحفاظ على وحدة سوريا واستقرارها من جهة، والحفاظ على مصالح موسكو من جهة أخرى.
موسكو وتل أبيب بين التصعيد والتنسيق
رغم فتور العلاقات الروسية الإسرائيلية مؤخراً، ما تزال موسكو تملك مفاتيح ضغط مؤثرة في مواجهة التصعيد الإسرائيلي داخل سوريا، لا سيما في الجنوب، حيث سبق أن لعبت دور “الضامن الأمني”، ويؤكد مراقبون أن بيد الكرملين القدرة على لجم الانتهاكات الإسرائيلية، التي تهدد بإفشال جهود إعادة الإعمار وترسيخ الاستقرار في سوريا الجديدة.
وفي هذا السياق كشفت زيارة وزير الشؤون الإستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر إلى موسكو في نوفمبر/تشرين الثاني، وسط تصاعد الغضب الروسي من المجازر الإسرائيلية في غزة، عن محاولة إسرائيلية لإعادة ترميم التنسيق، الذي تراجع بشكل واضح منذ انحياز تل أبيب لأوكرانيا في حربها ضد روسيا.
من ناحيته يرى المستشار في شؤون السياسة الخارجية الروسية رامي الشاعر أن موسكو باتت أكثر استعداداً للعب دور مباشر في ضبط السلوك الإسرائيلي في سوريا، مرجحاً أن يكون هذا الملف قد طُرح ضمن زيارة الوفد السوري الأخيرة إلى موسكو، في إطار تفاهمات أوسع حول النفوذ العسكري في الساحة السورية.
ويضيف الشاعر لموقع نون بوست أن المندوب الروسي في مجلس الأمن يبذل جهوداً مستمرة لمنع الهجمات الإسرائيلية، في وقت أقرّ فيه المبعوث الروسي ألكسندر لافرنتيف بوجود اتصالات عسكرية متواصلة مع الجانب الإسرائيلي بشأن التحركات على الأراضي السورية.
روسيا وشراكة الاستقرار في سوريا الجديدة
لا تنظر دمشق إلى موسكو كقوة دولية تقليدية فحسب، بل باعتبارها شريكًا استراتيجيًا يمكن أن يلعب دورا محوريًا في حماية الاستقرار خلال المرحلة الانتقالية، وتوفير غطاء سياسي في مواجهة الضغوط الغربية. فبعد سقوط النظام المخلوع تعوّل القيادة السورية الجديدة على روسيا لإعادة رسم صورتها الدبلوماسية، والاعتراف بشرعيتها أمام المجتمع الدولي.
وتأتي هذه الثقة مدعومة بمواقف رسمية صريحة، كان أبرزها ما صرّح به المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى الشرق الأوسط وإفريقيا، ميخائيل بوغدانوف، في فبراير/شباط الماضي، حين أكد ضرورة رفع العقوبات أحادية الجانب المفروضة على سوريا، داعيًا إلى التخلي عن النهج المسيس، وتكثيف الدعم الدولي لمساعدة الشعب السوري على التعافي.
هذا التوجه لا يعبّر فقط عن موقف إنساني أو اقتصادي، بل يعكس إدراكًا روسيًا لأهمية الاستقرار السياسي في سوريا كمدخل لأي تسوية إقليمية قادمة. وتؤكد دراسة صادرة عن مركز “تقدّم للسياسات” (مارس/آذار 2025) أن القيادة السورية الجديدة تدرك جيدًا أن لموسكو ثقلاً دبلوماسيًا لا يُستهان به، نظراً لتحالفاتها مع قوى كبرى مثل الصين وإيران، وعلاقاتها الخاصة مع إسرائيل، فضلاً عن قدرتها على استخدام حق النقض في مجلس الأمن، ما يجعل موقفها إما دافعًا أو معرقلاً لمساعي دمشق للانخراط الدولي مجددًا.
وتخلص الدراسة إلى أن التعدد والتناقض في أجندات القوى الدولية المتواجدة على الأرض السورية، يفرض على دمشق الحفاظ على توازن مدروس في علاقاتها، لكن يبقى للكرملين دور خاص لا يمكن تجاوزه. إذ من شأن انخراط موسكو النشط في دعم الحكومة السورية الجديدة أن يسهم في تخفيف الضغوط، وتأجيل الاصطفافات الدولية الحادة، وفتح مسار سياسي أكثر اتزانًا خلال مرحلة إعادة الإعمار وإعادة الشرعية الدولية للدولة السورية.
الغرب يراقب بتوجس
ينظر الغرب، ولا سيما بعض العواصم الأوروبية الكبرى مثل باريس وبرلين ولندن، بقدر كبير من الارتياب إلى التقارب المتنامي بين القيادة السورية الجديدة وموسكو، ويعتبره تهديدًا لمسار “التحول الديمقراطي” الذي يشترطونه لرفع العقوبات عن دمشق. وقد عبّر الاتحاد الأوروبي مرارًا عن رغبته في إنهاء الوجود العسكري الروسي في سوريا، بل وربط رفع العقوبات الأوروبية الشاملة بعدد من الشروط، من بينها تحسين الحوكمة، وتفكيك القواعد الروسية، وتقليص النفوذ السياسي والعسكري لموسكو داخل البلاد.
إلا أن معطيات الواقع الجيوسياسي تميل لصالح موسكو، خاصة في ظل تحسّن علاقاتها مع واشنطن خلال ولاية الرئيس الأميركي دونالد ترامب، مقابل توترها مع أوروبا، ما عزّز موقعها التفاوضي وفتح الباب أمام اتفاقات جديدة مع دمشق تتيح لها الإبقاء على قواعدها ونفوذها، وإن ضمن ترتيبات محدثة.
ويرى المستشار رامي الشاعر أن أي تقارب بين روسيا ودول المنطقة لا يُقابل بارتياح غربي، مؤكدًا أن الولايات المتحدة ليست معنية حاليًا بتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط، وأن العالم يتجه نحو نظام دولي تعددي يُنهي مرحلة الهيمنة الأميركية. وبحسب الشاعر فإن القيادة السورية الجديدة تدرك تمامًا هذا التحول، وتبني علاقاتها الخارجية على أساسه.
في المقابل يؤكد الباحث محمود حمزة أن دمشق تتبنى سياسة الانفتاح على مختلف الأطراف الدولية ضمن مبدأ “صفر مشاكل”، وتسعى لبناء علاقات متوازنة تخدم مصالحها الوطنية، وليس لتلبية حسابات أو ضغوط خارجية. ويضيف أن الغرب قد لا ينظر بعين الارتياح إلى التقارب السوري الروسي، لكنه في النهاية سيتعامل مع الواقع وسيتفهم أن سوريا الجديدة تتحرك ضمن أولوياتها السيادية، لا تبعًا لمواقف الآخرين.