لعقود شكّلت طهران محوراً مفصلياً في السياسة الخارجية الأمريكية ورسمت إلى حدٍّ بعيد مشهدها السياسي الداخلي بوصفها العدوّ الخارجي الذي ينبغي على واشنطن مواصلة مواجهته نيابة عن الحضارة الإنسانية. وكما أغلب القضايا يشكّل ملف طهران ملفاً خلافياً بين الحزبين الأبرزين في الولايات المتحدة حيث يلتقيان في بعض النواحي ويفترقان في أخرى. اختلافات تمتلك قدرة لافتة على توجيه نتائج الإنتخابات وتقييم أداء الإدارات.
كيف تعامل كل من الحزبين مع ملف طهران؟ هل هناك إختلافات فعلية بين الإستراتيجيات الديمقراطية والجمهورية؟ وهل تتبنى الإدارات المتعاقبة سياساتٍ واضحة اتجاه طهران؟ ما رأي المجامع الإنتخابية؟ وهل تغير الوضع كثيراً بعد أن دقّت ساعة الصفر بضرب ترامب لمفاعلات إيران النووية؟ يجيب هذا المقال عن هذه الأسئلة وغيرها.
الجمهوريون: كثيرٌ من الجعجعة قليلٌ من الطحين
تعكس سياسة الجمهوريين اتجاه طهران خطاً عاماً في خطابهم وهو الإنفصال بين الواقع والشعار؛ يميل الجمهوريون لتضخيم الخطاب حين يتعلق الأمر بأعداء واشنطن ومطالبة الرئيس بالقوة والضرب بحزم إلا أن الواقع يعكس خلاف ذلك براجماتيةً ونوعاً من عدم الإتساق يشي بحدود ما يمكن للسياسة الأمريكية أن تفعله أو لا تفعله.
منذ السنة الأولى للثورة الإسلامية تصدّرت طهران مشهد السياسة الداخلية الأمريكية وشكّلت موضوعاً ساخناً في المناظرات الإنتخابية. فبسبب أزمة الرهائن التي لم يستطع جيمي كارتر الديمقراطي حلها بالسرعة المطلوبة خسر إنتخاباته لصالح دونالد ريجن. ريجن الجمهوري ادّعى أن أزمة الرهائن عكست ضعف وتردد كارتر وأن أي “ديكتاتورية لا يمكن أن تتجرأ على مثل هذا الفعل لو كان هو رئيساً وقتها”.
خطاب جمهوري معتاد ويشكل نوعاً من الكليشيهات بزعم القوة التي تُلزِم الأعداء حدودهم؛ واستجابة أخرى لظروف هيأتها الساحة الدولية حينها. الإيرانيون الذين كرهوا كارتر لإستضافته للشاه وفرضه لأول حزمة عقوبات على نظام المرشد حينها وجّهوا إهانة أخيرة لكارتر عندما أفرجوا عن الرهائن الأمريكيين في اليوم الأول لتولي ريجن الرئاسة. كأنما يعيد التاريخ نفسه.
ريجن مدّعي القوة والبطولة سعى للتعامل مع المرشد من تحت الطاولة واتسمت فترتيه الرئاسيتين بالتحايل والتلاعب اتجاه طهران اكثر من الحزم ولجم التهديدات. فقد لعبت إدارته دوراً مزدوجاً في حرب الخليج الاولى ودعمت صدام والخامنئي بالأسلحة الأمريكية في حرب استنزاف أراد منها إضعاف النظامين ليخرج من زعامة البيت الأبيض بفضيحة عُرِفت بقضية “إيران-كونترا” التي باع بموجبها خلافاً لقرار الكونجرس أسلحة لطهران.
جورج بوش الأب في المقابل لم يظهر ميلاً لمهاجمة إيران ورغب على العكس من ذلك بمد يد التعاون حال أبدت طهران استعدادها للجم نفوذها في الشرق الأوسط وتحرير الرهائن الأمريكيين بيد حزب الله أواخر ثمانينات القرن الماضي الأمر الذي لم يحدث فعلاً.
مرة أخرى، اتسمت إدارة جورج بوش الإبن بالإنفصال بين الشعار والواقع؛ فبينما وصم بوش إيران بمحور الشر إضافة لكوريا الشمالية والعراق وأمل أن تتسارع الاحداث في حربه المفتوحة على الإرهاب بإتجاه إسقاط نظام الخامنئي؛ كما وحرّضت إدارته بصورة مباشرة على مهاجمة أهداف في طهران كردٍّ على المليشيات الإيرانية التي تهاجم جنودها في العراق؛ لم يتم حقاً مهاجمة طهران بل إنّ أنباء تواترت عن إيقاف بوش الإبن لهجمة إسرائيلية على مواقع نووية إيرانية والإكتفاء بإيقاع مزيد من العقوبات الإقتصادية والأممية عليها مخافة تهديد مصالحها في الشرق وفتح بوابة لحرب دموية إقليمية لن تنجو واشنطن من نارها.
إدارة ترامب الأولى وقعت أيضاً ضمن المعسكر الجمهوري المعتاد؛ الكثير من الجعجعة والقليل من التنفيذ. إدارة ترامب الأولى ضمّت متحمسين من الصف الأول لضرب الأرض الإيرانية على رأسهم وزير الخارجية مايك بومبيو ومستشار الأمن القومي جون بولتون. إلا أن التهديدات المتواترة والتحريض غير المسبوق لم يثمر سوى عن اغتيال قاسم سليماني والإكتفاء بضرب مليشيات ومصالح إيران في الخارج وإلغاء خطط مهاجمة الأرض الإيرانية.
انسحاب ترامب من الإتفاق النووي الذي وقعه أوباما وانتهاجه سياسة الضغط القصوى بإيقاع مزيد من حزم العقوبات على طهران أتى ايضاً ضمن المعسكر الجمهوري المعتاد بسياسة الحرب الصامتة وعدم الرغبة في المواجهة العسكرية المباشرة مع طهران. غير أن ترامب على عادته لم يكن يسعى لحرب مع طهران بقدر سعيه لتسجيل نقاط باسمه في ملفها؛ حيث رافق سياسة الضغط القصوى التي انتهجها عرض بما يسمى “الصفقة الكبرى” لإنهاء برنامج إيران النووي وكذا برنامجها الصاروخي مقابل رفع العقوبات وهو ما رفضته طهران وقاومته حتى تولي بايدن ظناً منها أنّ رياح واشنطن ستتغير بتولي الديمقراطيين الحكم مرة أخرى.
وحتى الضربة الأمريكية الأخيرة لمفاعلات إيران النووية إبان فترة حكم ترامب الحالية لم تكن مخططاً بعيد الأمد بل ردة فعل لازمة لإظهار حزم الولايات المتحدة وإستجابة لضغوط اللوبي الصهيوني في الداخل الأمريكي؛ حتى إنّ كثيراً من المحللين وصفوها بأنها دون المستوى المتوقع وتحمل رمزية أكثر من الحسم وتنحو بإتجاه وقف الحرب لا إشعالها؛ فقد خرجت ابواق صهيونية متعددة تشير إلى أن برنامج إيران النووي لم يتأثر فعلاً بالضربة الأمريكية وإنما تأخر فقط لبضعة شهور في مطالبة بضربة أمريكية وازنة وفعّالة.
الحزب الجمهوري بين الإنعزالية والتدخلية
نهج الجمهوريون على حرب الظل مع طهران؛ شعارات رنانة وإتهام للديمقراطيين بالتخاذل والضعف وإدعاء الحزم والقوة في مقابل سياسات أقل عدوانية بكثير على الأرض. تبنت الإدارت الجمهورية عموماً حزم عقوبات اقتصادية متجددة على طهران وحشدت الحصار العالمي ضدها وحاربت مصالحها وشخوصها وأذرعها العسكرية في الشرق الأوسط دون أن توجع طهران حقاً في عقر دارها خشية ردّ فعلٍ سيكلّفها كثيراً.
ورغم هذا، لا يقف الجمهوريون على قلب رجل واحد فيما يخص طهران؛ فقد انقسم الحزب بين من يعرفون بالحازمين “التدخليين” و”الإنعزاليين” الجمهوريين الذين يختلفون في تراتبية السياسة الخارجية ومصالح الامن الداخلي الأمريكي. وقد ظهر أثر هذا الإنقسام بشكل جلي عقب توجيه إدارة ترامب لضرباتها العسكرية الأخيرة لمفاعلات طهران النووية.
يتقدّم صفوف التدخليين السيناتور الجمهوريين تيد كروز وليندسي جراهام وكيفين كريمر ويرى هذا المعسكر ضرورة التدخل العسكري المباشر وضرب طهران في عقر دارها لدرأ خطرها عن واشنطن وربيبتها تل أبيب بشكل حازم وقاطع.
في المقابل يرى الإنعزاليون الذين تقودهم شخصيات جمهورية مثل تاكر كارلسون وستيف بانون وراند بول وتايلور جرين ومعظمهم ينتمي لشعار “أمريكا أولاً” وجماعة ماجا المؤيدة التقليدية لترامب، وسط اتهامات لترامب ذات نفسه بالإنتماء اكثر من أي رئيس جمهوري سابق لهذا التيار، أن واشنطن يجب أن تنأى بنفسها عن النزاعات الخارجية وتركز على السياسة الداخلية والإصلاحات الأمنية والإقتصادية في الولايات المتحدة.
وقد أثار تفكير ترامب بضرب المفاعلات الإيرانية حرباً إعلامية بين تياري الحزب ومحاولات كل منهما للتاثير على قرار ترامب بشأن توجيه الضربة من عدمه. إلا أن هذا الإختلاف ما لبث ان تقلص بعد الضربة مباشرة؛ فقبيل الضربة أظهرت استطلاعات رأي أن 22% فقط من الجمهوريين يؤيدون تدخلاً عسكرياً لواشنطن مع طهران؛ بينما أظهر استطلاع آخر أن نسبة التأييد بين الجمهوريين وصلت ل68% بعيد الضربة مباشرة ما يشي بأن الشعار لا يمثل الواقع تماماً وأن التيار الإنعزالي لا يبحث عن تصادم فعلي مع الحزب وسياساته الخارجية.
الديمقراطيون: دبلوماسية الأفاعي
ظل بيل كلينتون يدور في فلك سلفه بوش الأب بإنتهاج سياسة الإحتواء والمحاصرة بعيداً عن المواجهة المباشرة مع طهران؛ ففي واقع مثقل بالعقوبات الأمريكية وإنقطاع تام للعلاقات الدبلوماسية بين البلدين وشك بنوايا بلد مؤدلج مثل طهران لم يستطع كلينتون التوجه لدبلوماسيته المعتادة مع إيران خاصة في ظل الدور السلبي الذي أداه ربيب إيران الأول “حزب الله” في درة الدبلوماسية الكلينتونية “عملية السلام في الشرق الاوسط”.
عقب توليه لمنصبه أوائل تسعينات القرن الماضي سارع كلينتون لإعلان “استراتيجية الإحتواء الثنائي” التي هدفت للجم ومحاصرة كل من العراق وإيران بوصفها قوى معادية ومهددة للمصالح الأمريكية في المنطقة.
لم تكن بغداد وطهران على قدم المساواة أمام إدارة كلينتون؛ فكل منهما شكلت خطراً متبايناً على المصالح الأمريكية وأمن حليفتها إسرائيل. بالنسبة لطهران تم تبني عدد من الإستراتيجيات المتكئة أساساً على العقوبات الإقتصادية التي تحول دون الإستثمار في طهران والدبلوماسية التي تحاصر جهود طهران بتجنيد الإرهاب دولياً وتجفف مصادرها إضافة للإستراتيجية العسكرية القائمة على التأسيس لقواعد عسكرية في دول الخليج جاهزة للتدخل عسكرياً في أي وقت وتمثل تهديداً مباشراً لطهران ونفوذها وأطماعها التوسعية في المنطقة.
مزيد من العقوبات فرضتها إدارة كلينتون لا على إيران وحسب ولكن ايضاً على كل حكومة أو طرف رسمي او غير رسمي يعاون إيران في برنامج أسلحة الدمار الشامل WMD.
ففي عام 1994 وقّع كلينتون القرار التنفيذي 12938 الذي أعلن حالة الطوارئ بخصوص برنامج إيراني لأسلحة الدمار الشامل وأتاح لإدارته إيقاع عقوبات مالية وإقتصادية على الجهات والأفراد الضالعين في البرنامج وفرض منع لتصدير الاسلحة والسلع ثنائية الإستخدام التي يمكن توظيفها مدنياً أو عسكرياً. لاحقاً تعرض القرار للتعديل ليضم عقوبات على الجهات والأفراد غير الإيرانيين الضالعين في تقديم المعونة للبرنامج ومنهم شخصيات وجهات روسية.
عام 2000 وقبيل إنتهاء الولاية الثانية لكلينتون وقع الأخير قانون عدم الإنتشار الإيراني 2000 والذي يخص جهات رسمية روسية بعقوبات مالية منها قطع تمويل برامج ومشاريع مشتركة بين الولايات المتحدة وروسيا خاصة في مجال الفضاء لضلوع الحكومة الروسية في دعم البرنامج العسكري الإيراني.
ملف الإرهاب من ناحية اخرى والذي تم صياغته وإرساء قواعده بشكل كبير إبان إدارة كلينتون القى بظلاله على العلاقات الأمريكية-الإيرانية وحال دون تقدم في العلاقات الدبلوماسية بين البلدين. فالشكوك الأمريكية بضلوع إيراني في تفجيرات أبراج الخُبر في السعودية والذي استهدف القوات الجوية الأمريكية عام 1996 دفع بواشنطن بإتجاه وصم إيران وأذرعها العسكرية في الشرق الأوسط بالإرهاب وإدراج تلك المليشيات تباعاً على قائمة الإرهاب التي اعدتها وزارة الخارجية الامريكية إبان حكم كلينتون وحددت سياستها الخارجية إتجاه دول وقوى المنطقة منذ ذلك الحين.
لم تنأ إدارة كلينتون بنفسها عن أي إنتقام عسكري من الهجمات المدعومة من إيران وحسب بل حاولت مدّ جسر دبلوماسي لإحتواء حكومة خاتمي اواخر تسعينات القرن الماضي وعملت على تقوية بعث التبادل الشعبية وأواصل المجتمع المدني دون التوصل الفعلي إلى مصالحة دبلوماسية رسمية بين البلدين كان ابرزها توسط عُمان حيث طالبت واشنطن طهران بالتحقيق في ضلوع الحرس الثوري في هجمات إرهابية ضد المدنيين الأمريكيين والتعهد بعدم الإنخراط المستقبلي في هكذا نشاطات، طهران نفت تورط حرسها الثوري في الهجمات واكدت على حسن نواياها اتجاه واشنطن.
في محاولة أخيرة للدبلوماسية من طرف كلينتون؛ اعتذرت وزيرته الخارجية أولبرايت عن تورط وكالة الإستخبارات الامريكية في إنقلاب عام 1953 الذي أطاح بحكومة محمد مصدّق المنتخب ديمقراطياً من الشعب الإيراني وتثبيت حكم الشاه مكانه. كما وعدت برفع العقوبات عن واردات الأغذية والسجاد الإيراني وقطع غيار الطائرات وغيرها، الخطاب الذي اعتبرته طهران حبراً على ورق وطُويت به محاولات كلينتون الدبلوماسية مع طهران.
أوباما: يد الديمقراطيين الممدودة لطهران
اتسم المعسكر الإنتخابي لباراك أوباما بالإيجابية اتجاه إيران وتقديم الدبلوماسية على التصادم لإحتواء وللجم البرنامج النووي الإيراني؛ خلال أشهر إنتخابه الأولى واجهت إدارة أوباما عقبات عدة مع طهران فأحمدي نجاد معروف مواقفه المتشددة من واشنطن وإعادة إنتخابه 2009 وما نجم عنها من إحتجاجات للمعارضة وعلى رأسها الحركة الخضراء تركت واشنطن في حيرة من امرها بين أن تدعم المعارضة في مطالباتها وتخاطر بفشل تلك الجهود وقطع طريق الدبلوماسية مع طهران وبين أن تتخلى عن حصانها الموثوق في إيران والمتمثل في قوى المعارضة.
تخلى أوباما عن المعارضة بحجة التخوف من إضعاف شرعيتها؛ وتوجه في الآن ذاته لفرض عقوبات جديدة على طهران جمعها في ظل قانون الكونجرس للعقوبات الشاملة والمساءلة وسحب الإستثمارات 2010. ووسع عقوبات مجال الطاقة وتجميد الاصول وعقوبات الحكومة والحرس الثوري والمسؤولين الإيرانيين بحزمة من القرارات التنفيذية.
أثبتت حزم العقوبات التي فرضها أوباما فشلها فهي لم تحقق أياً من أهدافها بكبح جموح البرنامج النووي الإيراني ما دفع أوباما لفتح باب المفاوضات مع إيران اولاً ومن ثم التهديد بضربة عسكرية مع إستياء حليفة الولايات المتحدة الأولى إسرائيل وتهديدها بإتخاذ خطوة عسكرية أحادية لضرب البرنامج النووي الإيراني.
مع إنتهاء الفترة الرئاسية الاولى لأوباما كان الأخير في مأزق فعلي بشأن ما يجب فعله مع إيران بصورة تضمن له غجتياز إنتخابات الفترة الرئاسية الثانية؛ وكانت أزمة مضيق هرمز ونشر القوات العسكرية الامريكية في المنطقة والتهديد بضربة وشيكة دون التجرؤ على إصدار أمر الهجوم نقطة فارقة في إدارة أوباما الأولى.
لكن إنتقاداته اللاذعة لحرب بوش على العراق وسياسته الجانحة للدبلوماسية والتي ضمنت له فوزه في الإنتخابات الأولى حالت دون توريط واشنطن بحرب جديدة في الشرق الاوسط؛ فدخل اوباما فترته الإنتخابية الثانية 2013 بنية التوصل لإتفاق مع طهران. إنطلقت المفاوضات الدولية مع طهران مباشرة بعد بداية الفترة الرئاسية الثانية لأوباما وتوجت تلك الجهود بالتوصل للإتفاق النووي الشامل JCPOAمع طهران والذي سلمت بموجبه قرابة 97% من اليورانيوم المخصب المعلن عنه لديها مقابل رفع العقوبات الاممية والأمريكية ضمن خطة طويلة الأمد ستنتهي بإيقاف البرنامج النووي العسكري لإيران وإعادة إنخراطها في الدبلوماسية والسوق العالمية.
بمصلحة إسرائيل الفضلى في أجنداتهم؛ سعى الديمقراطيون لتطويق إيران بالعقوبات والدبلوماسية بعيداً عن المواجهة العسكرية المباشرة؛ وحضّوا بإتجاه الحفاظ على الإتفاق النووي الذي وقّعه أوباما على أمل أن يحول هذا المسار دون مواصلة طهران لجهود تخصيب اليورانيوم لأغراض عسكرية مع إبداء استعداد تام للمواجهة العسكرية حال نجاح طهران في تطوير سلاح نووي. على العكس من ذلك، اعتبر الجمهوريون الإتفاق النووي خطأً استراتيجياً لا يلزم سوى أوباما وإدارته مدّعين أن تخفيف العقوبات عن طهران ورفع التجميد عن أصولها في الخارج يعتبر ضرباً من الجنون وتمويلاً لنظام متطرف وتخلياً تاماً عن أمن إسرائيل ومصالح الأمن القومي لأمريكا وحلفائها.
وعقب إنتهاء ولاية ترامب الأولى؛ اتخذ الحزب الديمقراطي موقفاً على أقصى النقيض من سياسة ترامب اتجاه طهران؛ ففي نقلة نوعية مفاجئة جاء في برنامج الحزب لعام 2020 والذي حدد الخطوط العامة لسياسته القادمة في ظل إدارة بايدن؛ أشار الحزب لرغبته بإنهاء حرب أمريكا التي لا تنتهي مع طهران ونأيه بنفسه حتى عن فكرة الإطاحة بنظام الخامنئي. مشدداً على ضرورة إحياء الإتفاق النووي الذي انسحب منه ترامب والعودة للدبلوماسية والحوار.
أثار البرنامج ردود أفعال غاضبة من الحزب الجمهوري ومن إسرائيل الذي اعتبرته خطراً محدقاً بمصالح واشنطن وتل ابيب على السواء. إلا أن اللغة الإنسانية لبايدن اتجاه طهران خلال حملته الإنتخابية ومطالباته لترامب بتخفيف العقوبات الإقتصادية والإنصياع للمهمة الإنسانية والأخلاقية للولايات المتحدة بمساعدة الإيرانيين إبان انتشار جائحة كورونا لم تترجم إلى سياسة خارجية واضحة عقب فوزه في انتخابات 2020.
استمرت إدارة بايدن بالتردد فيما يخص طهران؛ فمن ناحية لم تعجّل الإدارة على عكس برنامج الحزب ووعوده الإنتخابية بإعادة الإنضمام للإتفاق النووي مع طهران حال إلتزام الأخيرة بعكس أنشطتها النووية منذ 2019 والعودة لطاولة المفاوضات؛ متحججة بقرار لمجلس الشيوخ يمنع الإدارة من إحياء الإتفاق إلا بإنهاء كلي وشامل لبرنامج إيران النووي والصاروخي. وسط اتهامات ديمقراطية لها بالجبن والتقاعس عن رفع سقف التحدي بالعودة للإتفاق في وجه الرغبات الجمهورية والمحافظة المدعومة من تل ابيب وجماعات ضغطها في الكونجرس.
ورغم ذلك فقد اكتفت إدارة بايدن برفع محدود لبعض العقوبات والإفراج عن بعض الأصول لطهران والتي بلغت 100 مليار دولار أمريكي مقابل الإفراج عن أسرى امريكيين محتجزين لديها، إضافة لرفع أنصار الله، ذراع طهران في اليمن، عن قائمة المنظمات الإرهابية كبادرة حسن نية قبل أن يعود بايدن لإدراجها مرة أخرى مع نهاية فترته الرئاسية لدورها في طوفان الاقصى.
التلكؤ الذي اتسمت به إدارة بايدن وخشيتها من إتخاذ خطوات تقاربية معلنة مع طهران أثارت حفيظة الأخيرة ودفعتها للتحلل من إلتزاماتها بموجب الإتفاق النووي الذي كان من المفترض أن يقوّض قدرتها على تطوير سلاح نووي. وقد وصفت فترة بايدن بخلوها من وجود سياسة خارجية واضحة بشأن إيران.
غير أنه من الخطأ الإفتراض أن الديمقراطيين حتى وهم يصافحون رجالات المرشد ويبتسمون أمام الكاميرات يتخذونهم ندّاً أو طرفاً حريّاً بالإحترام المتبادل كقادة لدولة وازنة في المنطقة. فالديمقراطيون لا يخجلون من التصريح بإتجاه سعيهم للجم إيران كدولة إرهابية ضالعة في كلّ النزاعات الشرق أوسطية ومسبب رئيس لعدم استقرار المنطقة وعدوٍّ مشترك لدول العالم المتحضر وأن جهدهم الحقيقي يتجه لشراكات مع الإيرانيين المناوئين للحكومة كلما سنحت الفرصة.
ساحة لتصفية الحسابات
دبلوماسية الديمقراطيين المتغطرسة لم تسلم من الهجوم الجمهوري والمحافظ؛ ففي كتابه “البيت الإيراني: حكايات الثورة والإضطهاد والحرب والمؤامرت” يتهم السياسي والصحفي اليميني كينيث تيمرمان الديمقراطيين من بيل كلينتون إلى أوباما وحتى جو بايدن بمحاولة إرضاء طهران وترويضها على حساب أمن ومصالح الأمريكيين.
وقد اتهمت أبواق جمهورية ومحافظة مثل نيويورك بوست الديمقراطيين بالإنصياع لتأثير ما أسمته باللوبي الإيراني والذي يمثله الكونجرس الإيراني- الأمريكي AIC وهي مجموعة سياسيين مناصرين لطهران في الكونجرس الأمريكي أسسها هوشانج أميرأحمدي تسعينات القرن الماضي وسعت لإستثمار امريكي في حقول النفط والغاز في إيران ونجحت بإدعاء النيويورك بوست في إقناع بيل كلينتون للجلوس للتفاوض بشأن صفقة مع طهران قبيل انتخابات عام 2000 لتحقيق نصرٍ أخير للديمقراطيين قد يعزز من فرصهم في الإنتخابات القادمة.
ورغم أن جورج بوش الإبن فاز بانتخابات تلك الدورة إلا أن جماعة الضغط لم تتوقف عن محاولة إقناع الديمقراطيين بالسعي لصلح مع طهران؛ ففي عام 2002 سعت الجماعة بقيادة طبيب إيراني هو صادق نمازي خاه لتمويل معسكر جو بايدن الإنتخابي لمنصب رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ والتي كانت تمتلك اثراً مباشراً على سياسات الولايات المتحدة الخارجية.
من ناحية أخرى اتهم الجمهوريون إدارة أوباما بكونها “مناصرة لطهران” وصديقة للحرس الثوري متتبعة كل خطوة خطتها بإتجاه التقارب مع نظام الخامنئي منها تلكؤها عن مد يد العون للإيرانيين الذي نزلوا إلى الشوارع احتجاجاً على إعادة إنتخاب أحمدي نجاد وتواصلها مع الاخير بعد أن هدأت ريح الإحتجاجات.
كما اتهموا وزير خارجية أوباما، الديمقراطي جون كيري، بكونه من المتحمسين لبناء علاقات مع طهران؛ فالرجل الذي تزوج ابنته من إيراني أمريكي، طالب بضم طهران لمنظمة التجارة العالمية ورفع الإيرانيين عن قائمة التاشيرات المشددة التي تبعت هجمات الحادي عشر من سبتمبر.
وقد تابعت أبواق الجمهوريين هجومها على كامالا هاريس بتهمة الوقوع تحت تأثير اللوبي الإيراني في واشنطن خاصة مجلس العلاقات الإيرانية الأمريكية الوطني NAIC ونيتها تعيين فيليب جوردون، أحد عرابي الإتفاق النووي أيام اوباما وأحد المعجبين بمجلس العلاقات المذكور، كوزير خارجيتها حال فوزها في انتخابات 2024.
ساعة الصفر: كيف رأت المجامع الإنتخابية ضربة ترامب لطهران
أظهر إستطلاع رأي لشبكة سي بي أس الامريكية عقب الضربات الأمريكية للمفاعلات النووية لطهران أن 44% من الامريكيين يؤيدون تلك الضربات في مقابل 56% يرفضونها. وأن 85% من المؤيدين هم من الجمهوريين و94% منهم هم جمهوريون محسوبون على حركة ماجا اليمينية المتطرفة.
بينما أظهر ذات الإستطلاع أن 44% من الأمريكيين فقط يخشون بشدة إندلاع حرب بين واشنطن طهران بينما لا يلقي 21% بالاً للأمر؛ يخشى الديقراطيون الحرب مع طهران بنسبة 94% منهم في مقابل خوف جمهوري بنسبة 62% بينما يبدو أن 89% من الجمهوريين المستطلعة آراؤهم راضون عن تعامل إدارة ترامب مع الملف الإيراني في مقابل 14% من الديمقراطيين.
وبالنسبة لإعلان الحرب ضد طهران فإن 91% من الديمقراطيين يرون ان ترامب يجب ان يحصل على موافقة الكونجرس قبل توجيه ضربات لطهران بينما 30% فقط من الجمهوريين يقاسمونهم الرأي.
ضرب ترامب لإيران يحشد له المزيد من القاعدة الشعبوية بين المحافظين وأطياف اليمين؛ فالضربة وما رافقها من خطاب تهييجي قادته إدارة ترامب لتصويره بالمخلّص الذي يعني ما يقول؛ في المقابل فقد ثارت ثائرة الديمقراطيين الذين يسعون جاهدين لضرب شرعية إدارة ترامب وسياساتها الشعبوية داخلياً وعلى المستوى الدولي.
إلا أن الضربة العسكرية لإيران استدعت توخي الحذر قبل أن يصطف الديمقراطيون ضدها لأنها كانت مطلباً وحاجة إسرائيلية خاصة في ظل الحرب المتبادلة بين الطرفين. وعليه فقد حاول الديمقراطيون نزع شرعية قرار ترامب بضرب المفاعلات النووية الإيرانية بحجة عدم توجهه للكونجرس ممثل الشعب وصاحب سلطة إعلان الحرب. فقد صرّح كين مارتن، رئيس لجنة الديمقراطيين الوطنية، بحجم الخطأ الذي ارتكبه ترامب بتوريط الأمريكيين في حرب قد تكون تكاليفها فادحة دون أن يتكلف عناء التوجه للكونجرس.
لكنّ موافقة الكونجرس على الضربة العسكرية لإيران او أذرعها في المنطقة ليست سوى مماحكة سياسية من الحزب الذي لا يتسيّد البيت الأبيض. فرغم ان الكونجرس وحده يملك سلطة إعلان الحرب ورغم أنّ الرئيس يستطيع في حالات طارئة مثل مهاجمة الأمريكيين أو الأرض الأمريكية التحرك بقرار فردي لتحريك القوات المسلحة؛ إلا أن تاريخ كلا الحزبين زاخر بإساءة استخدام تلك السلطة. فمن بيل كلينتون الذي هاجم يوغوسلافيا أيام حرب البوسنة إلى أوباما الذي حرّك القوات العسكرية لمهاجمة ليبيا وصولاً إلى بايدن الذي هاجم أذرع إيران في اليمن وسوريا، لم يسع رئيس ديمقراطي واحد لموافقة الكونجرس واكتفوا جميعاً بالتشاور مع الكابيتول.
بالمثل؛ صرّح مايك جانسون، المتحدث باسم مجلس النواب، دفاعاً عن قرار الجمهوريين وفي مقدمتهم ترامب بضرب طهران دون موافقة الكونجرس أن التاريخ بعد الحرب العالمية الثانية شهد 125 تدخلاً عسكرياً أمريكياً في الشرق الأوسط وكوريا وأفغانستان وفيتنام، لم يسع رئيس ديمقراطي ولا جمهوري فيها لإستشارة الكونجرس.
أخيراً، يتفق الحزبان على خطورة تطوير طهران لسلاح نووي على أمن الولايات المتحدة القومي كما يتفقان على خطورة إندلاع مواجهة عسكرية مباشرة بين إيران وواشنطن، لكنهما يختلفان في كل شيءٍ آخر بالخصوص وعلى رأس نقاط الإختلاف كيفية إدارة الملف الإيراني ومدى نجاعة المواجهة العسكرية مع طهران.
غير أنّ هذا التصنيف الواضح لسياسات واشنطن اتجاه طهران بحيث يضع معسكر الديمقراطيين في مواجهة معسكر الجمهوريين لم يكن الحال على الدوام؛ فمنذ 1979 اتسمت سياسات واشنطن اتجاه طهران بالإنفصام، بين الدبلوماسية السامة وسياسة الضغط القصوى يقبع ملف كامل من التخبطات وعدم وضوح الرؤية اتجاه طهران. إنها كما سمّاها جيه سلومن، مسؤول السياسة الخارجية في شبكة جي ستريت جرنال لعقود، حروب إيران؛ دلالة على العنتريات الأمريكية والمغامرات المحسوبة وغير المحسوبة لرؤساء الحزبين اتجاه طهران والتي رسمت سياسات واشنطن لعقود طويلة.