ترجمة وتحرير: نون بوست
في 22 مايو/ أيار 2025، أُخرج سجل ضحايا القنبلة النووية الأمريكية على هيروشيما من حجرته الحجرية في النصب التذكاري للسلام بالمدينة، بعد دقيقة صمت أُقيمت في تمام الساعة 8:15 صباحًا، وهو التوقيت الدقيق لسقوط القنبلة يوم 6 أغسطس/ آب 1945، قبل 80 عاما.
يضم السجل 344,306 اسما، من بينها مجلد مخصص لضحايا مجهولي الهوية. وبمناسبة الذكرى الثمانين، سمحت السلطات للصحافة لأول مرة بمشاهدة الحجرة من الداخل.
وفي اليوم نفسه، وبينما كانت هيروشيما تحيي ذكرى ضحاياها في صمت، ظهر النائب الجمهوري راندي فاين على قناة فوكس نيوز مقترحًاإلقاء قنبلة نووية على غزّة. رغم تاريخه الحافل بالتصريحات المتطرفة والتحريضية، لم يكن أول سياسي أمريكي يُدلي بمثل هذا الكلام.
ففي 21 مارس/ آذار 2024، دعا النائب الجمهوري تيم والبيرغ أيضًا إلى قصف غزّة نوويًا، “كما حدث في ناغازاكي وهيروشيما“.
وفي نوفمبر/ تشرين الثاني من العام الذي سبقه، وبعد أقل من شهر على بدء العدوان الإسرائيلي في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، صرّحوزير التراث الإسرائيلي عميحاي إلياهو، المنتمي لحزب “القوة اليهودية”، لإذاعة عبرية بأنه ينبغي لـ”إسرائيل” إلقاء قنبلة نووية على غزّة.
وقد حذّر عدد من المعلّقين الإسرائيليين من أن مثل هذه الدعوات إلى “قصف غزّة نوويًا” قد تُثير موجة استنكار عالمي، وتهدّد سياسة “الغموض النووي” التي تنتهجها “إسرائيل” منذ زمن، والمتمثلة في رفض تأكيد أو نفي امتلاكها أسلحة نووية. وبعد أن أوقفه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عن حضور جلسات الحكومة وتبرأ علنًا من تصريحاته، ادّعى إلياهو أن كلامه كان “رمزيًا“.
ومنذ أن شنّت “إسرائيل” حربها الإباديّة على غزّة، تكررت المقارنات بالقصف النووي على هيروشيما، والذي تلاه قصف ناغازاكي بعد ثلاثة أيام، في 9 أغسطس/ آب 1945.
وقد أثارت كثافة ووقاحة الدعوات إلى تدمير غزّة نوويًا، الصادرة عن سياسيين ومحللين، غضبًا واسعًا في اليابان، حيث شهدت البلاد تناميًا ملحوظًا في مشاعر مناهضة الحرب والتضامن مع فلسطين.
ففي العام الماضي، فازت منظمة “نيهون هيدانكيو” – التي تمثّل الناجين من القصف النووي (هيباكوشا) – بجائزة نوبل للسلام. وصرّح أحد قادتها، توشييوكي ميماكي، بأن عمال الإغاثة في غزّة هم الأحق بالجائزة. وفي وقت سابق من العام ذاته، رفض رئيس بلدية ناغازاكي دعوة السفير الإسرائيلي لحضور مراسم المدينة التذكارية، رغم الانتقادات العلنية من السفارة الإسرائيلية وأنصارها.
ولم يقتصر الحراك المؤيد لفلسطين في اليابان على المجتمع المدني. ففي يوليو/ تموز 2025، تجاوز حزب “ريوا شينسينغومي” – وهو حزب يساري تأسس قبل خمس سنوات ويقوده الممثل السابق تارو ياماموتو – الحزبَ الشيوعي الياباني العريق في مجلس النواب، كما حصل على مقعد إضافي في مجلس الشيوخ. ويتبنّى حزب “ريوا” موقفًا واضحًا ضد الصهيونية، ويدعم بشكل صريح حقوق الفلسطينيين.
وبعد ما يقارب سنتين من الإبادة الجماعية التي تبث بشكل مباشر، يأتي الرد الياباني محمّلًا برمزية تاريخية خاصة.
ففي بلد لا تزال فيه ذاكرة الدمار النووي حيّة، تعكس الدعوات لإبادة غزّة نفس منطق الإبادة الجماعية. ويزداد وقع هذه الحقيقة حين تصدر الإدانة من ناجين من الدمار الشامل ممن عبّروا علنًا عن تضامنهم مع الفلسطينيين في غزّة، ما يُبرز فظاعة هذا الخطاب، ومدى سهولة إطلاقه دون محاسبة.
ثمانون عامًا بعد هيروشيما، تكشف الدعوات الصريحة من سياسيين إلى إبادة شعب بأكمله، بينما يُحاصَر الفلسطينيون ويُقصفون ويُحرَقون، إلى أي حدّ لم يتعلّم العالم شيئًا، وإلى أي مدى أصبحت هذه الوحشية الكارثية أمرًا عاديًا ومقبولًا.
الذاكرة المستيقظة من تحت الركام
هزت الصور المروعة القادمة من غزّة – رُضّع تحولوا إلى هياكل عظمية، وأطفال احترقوا أو تمزقت أوصالهم، أو استُهدفوا برصاص قناصة بأسلحة أمريكية الصنع، ومنطقة تحولت إلى أنقاض – ضمير العالم بأسره.
لكن في اليابان، كان وقع هذه المشاهد أعمق بكثير، إذ أيقظت الذاكرة التاريخية وأعادت إلى الأذهان مقارنات مؤلمة بحجم الدمار الذي لحق بهيروشيما وناغازاكي، حيث سُوّيت مدن كاملة بالأرض ولم يبقَ فيها مبنى قائم.
أظهرت الصور التي التقطها الجيش الأمريكي عام 1945 لجثث مشوهة ومحترقة للجمهور الياباني فظاعة السلاح النووي، قبل أن تظهر لاحقًا في الفيلم الفرنسي الشهير هيروشيما حبيبتي عام 1959.
ويبدو استعراض القوة الاستعماري اليوم أكثر وضوحًا في غزّة، حيث يبث جنود الاِحتلال الإسرائيلي أفعالهم السادية مباشرة، فيما وصفته منظمات حقوقية بجرائم حرب تُنقل على الهواء.
في كلتا الحالتين، لا يُمارَس العنف وحسب، بل يُنظَّم ويُشرعن أيضًا عبر أكاذيب تخدم مصالح الجناة وتمنحهم شرعية أخلاقية زائفة.
ورغم أن الإمبراطورية اليابانية كانت بدورها قوة استعمارية وحشية ارتكبت جرائم حرب في شرق وجنوب شرق آسيا والمحيط الهادئ، فإن القنابل النووية التي أُلقيت على هيروشيما وناغازاكي لم تُستخدم لإنهاء الحرب، بل لترسيخ الهيمنة الأمريكية على منطقة آسيا والمحيط الهادئ، بعد إعلان الاتحاد السوفييتي عام 1943 نيته دخول الحرب في المحيط الهادئ فور انتهاء المعارك في أوروبا.
بحلول أوائل عام 1945، كانت المفاوضات بين اليابان والاتحاد السوفييتي بشأن شروط الاستسلام قد بدأت بالفعل، قبل وبعد مؤتمر بوتسدام، الذي عُقد بين 17 يوليو/ تموز و2 أغسطس/ آب، وضمّ الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد السوفييتي.
حتى اختيار هيروشيما كهدف أول لم يكن مقررًا سلفًا؛ فقد كانت الخطة الأصلية تقضي بقصف مدينة كوكورا (المعروفة اليوم بكيتاكيوشو) في جزيرة كيوشو، لكن الغيوم الكثيفة حالت دون إجراء مسح جوي دقيق لتأثير القنبلة، فوقع الاختيار على هيروشيما في جزيرة هونشو لصفاء أجوائها.
أساطير الحرب
من بين الأساطير التي صيغت لتبرير القتل الجماعي الإمبريالي، تبقى الرواية الأمريكية القائلة إن قصف هيروشيما وناغازاكي كان “ضروريًا لإنقاذ الأرواح” من أكثرها ديمومة وانتشارًا.
ففي مذكراته عام 1955، زعم الرئيس الأمريكي السابق هاري ترومان أن استخدام السلاح النووي ضد اليابان “أنقذ حياة 500,000 أمريكي”.
لكن وثائق لجنة الخطط الحربية المشتركة، المؤرخة في 15 يونيو/ حزيران 1945، قدّرت خسائر الجيش الأمريكي، دون احتساب الضحايا اليابانيين من عسكريين ومدنيين، بـ 40,000 قتيل، و150,000 جريح، و3,500 مفقود، أي ما مجموعه 193,500، إذا قررت الولايات المتحدة غزو جزيرة كيوشو ثم هونشو من الجنوب.
وفي 18 يونيو/ حزيران، أيّد الجنرال دوغلاس ماك آرثر هذا التقدير في مذكرة للجنرال جورج مارشال، معتبرًا أنها “العملية الأكثر توفيرًا من حيث الجهد والأرواح الممكنة”.
وعلى خلاف معركة أوكيناوا الدامية، التي جرت بين 1 أبريل/ نيسان و22 يونيو/ حزيران 1945 وذهب ضحيتها نحو 150,000 من شعب جزر ريوكيو، إضافة إلى 50,000 جندي أمريكي و100,000 جندي ياباني، توقعت اللجنة أن يكون الغزو البري أقل دمويّة، نظرًا لتعدد منافذ الدخول إلى كيوشو، على عكس أوكيناوا المحصنة.
لكن بدلًا من الغزو، أسفرت القنابل النووية التي أُلقيت على هيروشيما وناغازاكي عن مقتل نحو 246,000 شخص، معظمهم من المدنيين. وكان ما بين 10 إلى 20 بالمئة من الضحايا من الكوريين الزاينيشي، الذين كانوا بدورهم ضحايا للاِستعمار الياباني، بعدما جرى جلبهم إلى اليابان كعمّال قسرًا إثر احتلال اليابان لشبه الجزيرة الكورية عام 1910.
وهكذا، فإن أسطورة “القنبلة التي أنقذت الأرواح” لا تصمد إلا إذا تمّ استثناء أرواح اليابانيين والكوريين من المعادلة، أي إذا كانت حياة الأمريكيين وحدها هي التي تُحتسب في منطق الحرب.
ومع ذلك، لا يزال اليمين الأمريكي والصهاينة القوميون يدافعون عن هذا الادعاء المشوَّه بشراسة.
ففي حلقة حديثة من برنامج “بيرس مورغان بلا رقابة”، استشهد الحاخام شمولي بوتيك، المؤيد بشدة لـ”إسرائيل”، بقصف هيروشيما وناغازاكي، ليتساءل عمّا إذا كان ترومان “مجرم حرب” لأنه أمر بقتل مئات الآلاف من المدنيين، بمن فيهم الأطفال.
فجاء رد بيرس مورغان بالنفي كما هو متوقَّع، مصرًّا على أنه لا يمكن اعتبار ترومان، الرئيس الأمريكي الوحيد الذي أمر بقصف سكان مدنيين نوويًا، وكذلك ونستون تشرشل الذي أشرف على مجاعة البنغال عام 1943، والتي أودت بحياة نحو 3.8 مليون بنغالي، مجرمي حرب.
التاريخ كسلاح
لم يعد استحضار هيروشيما مقتصرًا على النقاشات التاريخية. لقد أصبح اليوم أداة خطابية يستخدمها المدافعون عن “إسرائيل” لتبرير تدمير غزّة.
في حلقة حديثة أخرى من برنامج بيرس مورغان، قام كلاي ترافيس، وهو مذيع أمريكي يميني متطرف وخليفة راش ليمبو، بربط القصف الياباني لبيرل هاربر بالقصف النووي على اليابان في نقاش حول مفهوم “التناسب”.
رسم ترافيس تشبيهًا بين تلك الأحداث وهجوم حركة حماس في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، مُستخدمًا ذلك كمبرّر لتجويع سكان غزّة وقصفهم ومعاقبتهم جماعيًا.
إن العبثية التاريخية لمثل هذه المقارنات تكشف مدى تجذّر أسطورة “ضرورة القصف النووي” في العقل الأمريكي، ومدى مركزية هذه الأسطورة في الآلة الإعلامية والسياسية التي تبرّر اليوم إبادة أخرى.
حين شنّت الإمبراطورية اليابانية هجومها على بيرل هاربر (واسمها الأصلي بلغة هاواي هو “بُولُوا”، قبل أن تغيّره البحرية الأمريكية)، استهدفت كذلك منشآت عسكرية أمريكية أخرى في جزيرة أواهو، من بينها القاعدة البحرية في شبه جزيرة موكابو، والتي تُعد اليوم مقرًّا رئيسيًا لقوات مشاة البحرية الأمريكية.
لكن ما يتم تجاهله في هذه السرديات هو أن الهجوم العسكري الياباني في جزر هاواي جاء في سياق عدوانٍ استعماري أمريكي، وبالتحديد الانقلاب غير القانوني على مملكة هاواي ذات السيادة سنة 1893، والتي كانت تربطها باليابان معاهدة سلام منذ عام 1871.
تمجيد الإبادة
لا تزال القنابل النووية التي أُسقطت على اليابان تهيمن بقوة على المخيال الأمريكي والغربي، حيث تُصوَّر كأعمال تنقذ الأرواح، وتُبرَّر أخلاقيًا، وتُعرض كدليل على التفوق التكنولوجي والهيمنة الإمبريالية.
لكن استخدامها في عام 1945 لم يكن ردًا على هجوم بيرل هاربر كما يُزعم غالبًا، بل كان إعلانًا استراتيجيًا عن الهيمنة الأمريكية في منطقة المحيط الهادئ في مرحلة ما بعد الحرب، وهي حملة توسّعت لاحقًا لعقود من التجارب النووية.
في الأول من مارس/ آذار عام 1954، فجّرت الولايات المتحدة قنبلتها الحرارية ذات القدرة التدميرية العالية “قلعة برافو” في جزيرة بيكيني التابعة لجزر مارشال. وقد أدّت الموجات الإشعاعية إلى إصابة طاقم قارب صيد ياباني مكوّن من 23 رجلًا، وألهمت لاحقًا إنتاج أول فيلم عن “غودزيلا” في العام ذاته، حيث كان الوحش مجازًا عن الدمار النووي. وقد أجبرت آثار التفجير السكّان الأصليين من جزيرة بيكيني على النزوح، وما زالوا حتى اليوم ممنوعين من العودة إلى أرضهم.
وبينما واجهت الثقافة الشعبية اليابانية صدمة الحرب النووية، حوّلت الثقافة الغربية هذه الفظاعات إلى مادة للاستعراض. أُطلق اسم “بيكيني” على لباس السباحة النسائي الحديث تيمّنًا بتجربة القنبلة الذرّية “بيكر” التي نُفّذت عام 1946 في جزيرة بيكيني. واليوم، تسكن شخصية “سبونج بوب” الكرتونية في قاع “بيكيني”. لقد تحوّل سباق التسلّح النووي في الغرب إلى مصدر للترفيه، واقتحم عالم الموضة، ووصل إلى المسلسلات الكرتونية الموجهة للأطفال.
يمتدّ هذا التوجّه القائم على تلميع الموت الجماعي إلى أعمال فنية حديثة، مثل فيلم “أوبنهايمر” الصادر عام 2023، والذي يتمحور حول شعور عالم أمريكي أبيض بالذنب، متجاهلًا عدد القتلى المدنيين في هيروشيما وناغازاكي، والدمار البيئي الناتج عن التجارب النووية، وتهجيرالمزارعين من قبائل بويبلو لإفساح المجال لمشروع مانهاتن في لوس ألاموس.
يتبع هذا التجميل للمجازر تقاليد عريقة من الأساطير والدعاية الأمريكية العنف التكنولوجي وتمحو ذكر ضحاياه.
وهذا الانحراف الأخلاقي والثقافي له عواقب ملموسة. ففي لحظة صادمة خلال عرض لفيلم “غودزيلا” سنة 2014 في صالة سينما في فيلادلفيا، سخر الحضور عندما ألقى أحد الشخصيات الفيلم خطابًا مؤثّرًا ضد استخدام الأسلحة النووية. لقد تحوّل فيلم وُلد من رحم الصدمة النووية إلى ترفيه خالص في ثقافة تزدري الضحايا.
إن هذا المنظور الإبادي نفسه هو ما يسمح اليوم للساسة الأمريكيين والإسرائيليين بالدعوة علنًا إلى إلقاء قنابل نووية على غزّة وغيرها من أعداء الهيمنة الأمريكية.
على مدى عقود، روّجت “إسرائيل” لنفسها على أنها رائدة عالميًا في التكنولوجيا العسكرية، متباهية بأسلحة “تم اختبارها ميدانيًا” على الفلسطينيين. خلال عدوان 2014 على غزّة، عرضت “إسرائيل” تسجيلات مراقبة لمبانٍ تم قصفها، في معارض دولية للأسلحة للترويج لطائراتها المسيّرة. وقد رافقت عروض مشابهة العدوان الجاري حاليًا، حيث أفادت تقارير أن مسؤولين إسرائيليين يروّجون لأنظمة أسلحة جديدة بناءً على أدائها في غزّة.
سواء في اليابان أو في جزر المحيط الهادئ أو في غزّة، فإن العقيدة التي تبرر قتل المدنيين على نطاق واسع ما تزال قائمة. وهي مستمرّة عبر نزع إنسانية الضحايا المنتمين إلى الشعوب الأصلية أو المستعمَرة. واليوم، الضحية هم الفلسطينيون الذين تُختزل مآسيهم في أرقام مبيعات ومواد دعائية.
ومع وصول هذا النظام الإبادي إلى أقصى درجات وحشيته وانفلاته في غزّة اليوم، لا يزال العالم يدير وجهه، أو يفعل ما هو أسوأ.
مقارنات مضللة
بينما يسخر بعض الغربيين من الضحايا أو يتجاهلونهم تمامًا، يعترف آخرون بهول ما يجري في غزّة، لكنهم يُفرغون المأساة من معناها عبر مقارنات تاريخية مُضلِّلة.
فقد بات شائعًا تشبيه حجم الدمار في غزّة بالقصف النووي الذي تعرّضت له هيروشيما وناغازاكي، ما يُفضي إلى تشويش على طبيعة العدوان الإسرائيلي بدلًا من توضيحه.
في منشور لاقى رواجًا واسعًا على منصة “إكس” بتاريخ 26 يوليو/ تموز 2025، وضع المعلق السياسي بيتر داو خريطة لغزّة فوق خريطة نيويورك، وكتب: “بالمناسبة، هذا هو حجم غزّة. في الواقع، كأنها رحلة قطار من بروكلين إلى يونكرز. تخيّلوا الآن هذا الجزء من نيويورك وقد تعرّض لما يعادل ست قنابل من نوع القنبلة التي ضربت هيروشيما، وتجويع شامل، وطائرات مسيّرة تقنص الأطفال، ومستشفيات مدمّرة، وعمال إغاثة قتلى”.
ورغم أن الهدف من مثل هذه المنشورات قد يكون مفهومًا، إذ يحاول كثيرون إبراز حجم الكارثة في رقعة جغرافية صغيرة ومكتظة بالسكان، إلا أن هذه المقارنات غير دقيقة.
إجمالي وزن المتفجرات التقليدية التي أُلقيت على غزّة لا يمكن مقارنته بأي قنبلة نووية تقليدية، ناهيك عن ترسانة الأسلحة النووية الحديثة.
فالقنابل التي أُسقطت على اليابان عام 1945 كانت من نوع قنابل الانشطار النووي، بقدرة تفجيرية بلغت 15 و21 كيلوطنًا على التوالي. أما الأسلحة النووية الحرارية الحديثة، فتستخدم الانشطار والانصهار معًا، وتتمتع بقدرة تدميرية تفوق تلك القنابل بأكثر من 3000 ضعف.
وقد بلغت القوة التفجيرية لقنبلتي “الصبي الصغير” (هيروشيما) و”الرجل البدين” (ناغازاكي) ما يعادل 15,000 و21,000 طن من مادة تي إن تي.
بينما تصل قوة الأسلحة النووية الحرارية الحديثة إلى 10 ميغاطن، أي ما يعادل 10 ملايين طن من مادة تي إن تي، مثل القنبلة التي اختُبرت فوق جزيرة إينيويتوك في جزر مارشال في 1 نوفمبر/ تشرين الثاني 1952، والتي تجاوزت قوتها 700 ضعف قنبلة هيروشيما.
وحتى ما يُعرف اليوم بـ”الأسلحة النووية التكتيكية” قد تبلغ قدرتها التفجيرية 100 كيلوطن أو أكثر، أي ما يعادل خمسة أضعاف قنبلة ناغازاكي.
في إطار برنامج تحديث الأسلحة النووية، قام الرئيس باراك أوباما بتطوير أكثر من 1,550 رأس نووي أمريكي مزود بأنظمة صواريخ موجهة بدقة، بتكلفة بلغت تريليونًا وربع تريليون دولار، وذلك في إطار معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية الجديدة الموقعة مع روسيا عام 2011.
تتمتع جميع هذه الأسلحة بآثار مدمرة مروعة على المدى القصير والمدى البعيد.
رغم امتلاك إسرائيل ترسانة نووية، إلا أن من الأسباب التي قد تمنعها من استخدامها في غزة هو قرب مراكزها السكانية. تقع مدن تل أبيب والقدس والمستوطنات الإسرائيلية المحيطة على بعد 44 إلى 48 ميلاً (71 إلى 78 كيلومترًا) فقط من غزة، وهو مدى يكفي لوصول التلوث الإشعاعي.
رغم أن كثافة القصف في غزة استثنائية في سياق الحروب التقليدية في القرن الحادي والعشرين، مع تقارير عن استخدام قنابل خارقة للتحصينات من طراز “جي بي يو-31″ و”جي بي يو-32” و“جي بي يو-39” التي تُدمر أحياءً بأكملها، فإن هذه القنابل لا تقترب من حجم التدمير الذي تسببه الأسلحة النووية.
لذلك، فإن مقارنة كمية المتفجرات التي أُسقطت على غزة بما يعادل “ست قنابل هيروشيما” أمر مضلل، ولا يتناسب مع العقلية الأمريكية التي طالما مجّدت الأسلحة النووية بوصفها “منقذة للحياة” و”معجزة تكنولوجية”.
القوة التدميرية لست قنابل من نوع “الصبي الصغير” يمكنها أن تقتل جميع سكان غزة والمستوطنات الإسرائيلية المحيطة بالقطاع، وربما تمتد لتشمل بقية الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومن شأنها أن تلوث مياه البحر الأبيض المتوسط والمصادر العذبة المجاورة. ستتحول المنطقة بأكملها إلى ما يشبه تشيرنوبل.
الذكرى والمقاومة
في الفترة التي سبقت هجوم الرئيس دونالد ترامب على إيران في يونيو/ حزيران، دار حديث عن احتمال شن ضربة نووية تكتيكية على منشأة فوردو النووية الإيرانية.
لكن الرئيس الأمريكي أمر باستخدام قنابل خارقة للتحصينات من نوع “جي بي يو-57” تزن 30,000 رطل (13,607 كيلوغرامًا) ولا يمكن إطلاقها إلا من طائرة “بي-2″، على عكس الرؤوس النووية الاستراتيجية التي تُطلق عبر الصواريخ الباليستية.
السلاح النووي التكتيكي الذي نوقش كان قنبلة نووية حرارية من نوع “بي 61″، والتي لا تزال موجودة في الترسانة الأمريكية بقوى تفجيرية تتراوح بين 0.3 و300 كيلوطن، أي تصل قوتها إلى ستة أضعاف القنبلة التي أُلقيت على ناغازاكي.
أن نعيش في زمن يُطرح فيه احتمال استخدام أسلحة نووية ضد دولة غير نووية ووقّعت على معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، دفاعًا عن قوة نووية غير معلنة ولم توقع أيًا من هذه المعاهدات، يجب أن يجعلنا نتوقف ونتأمل.
ينبغي أن يدفعنا ذلك إلى مراجعة اللغة التي نستخدمها عند الحديث عن التهديدات النووية، سواء كانت فعلية أم مجازية، ونتساءل عمّن يُسمح له باستخدام هذه الأسلحة دون عواقب.
في هذا اليوم، السادس من أغسطس/ آب 2025، الذي يتزامن مع الذكرى 80 لأول استخدام لسلاح نووي ضد مدنيين، علينا أن نحيي ذكرى الضحايا بأن نشيد بشجاعة الناجين من القصف النووي، الذين تظاهروا تضامنا مع الشعب الفلسطيني، لا سيما في غزة، وواجهوا الإمبريالية الأمريكية وأذرعها في اليابان.
تذكرنا شجاعتهم بأن إحياء الذكرى بلا مقاومة هي مجرد ذكرى خاوية. لتكريم ضحايا هيروشيما بشكل فعلي، يجب مواجهة الأنظمة السياسية التي تتعامل مع أرواح الناس بازدراء. يجب أن نرفض تجريد البشر من إنسانيتهم، وندين العقلية العنصرية التي تبرر الاحتلال والعنف من المحيط الهادئ إلى فلسطين.
المصدر: ميدل إيست آي