آلاف مبتوري الأطراف في قطاع غزة يعيشون آلام مضاعفة وأجساد مُثقلة، أحلامهم معلقة من أشهر طويلة على أبواب معبر رفح البري في انتظار خروجهم للعلاج في العلاج وتركيب أطراف صناعية لتعود حياتهم إلى طببعتها.
صلاح رجب “58 عامًا” بترت يده وقدمه جراء قصفٍ إسرائيلي في مدينة بيت لاهيا بتاريخ 3-4-2024 ، خرج لأجل لقمة العيش مع ابن عمه، ما أدى لإصابته واستشهاد ابن عمه.
كان صلاح يُعيل 5 عائلات من خلال عمله مشتل زراعة له، والآن بات دون عمل ولا معيل له، فابنه مصاب بشلل نصفي بعد أن أصيب باستهداف إسرائيلي الآخر، يحلم بأن يحصل على حقه في العلاج بالخارج، لم تعدّ الأدوية تسعفه من الألم، ليس أمامه سوى عملية جراحية غير قادرة المستشفيات في غزّة على إجرائها بسبب شح الأدوية والمعدات الطبية.
يقول لـ”نون بوست” بقهر: “إيدي ورجلي راحوا ما ضل شي لالي بالدنيا، بعد إصابتي شعرت وكأنني إنسان ميت ولكن بدون قبر إلى هنا حياتي انتهت”.
بات صلاح يتمنى الموت بعد فقدان أطرافه لم يستطع التأقلم على الوضع الذي فرض عليه لم يعد للزراعة مرة أخرى، عاجزًا عن إعالة أفراد أسرته.
يخبرنا: “كنا نعيش حياة وكأنها من الجنة تحولت إلى جحيم جوع وقتل وبتر أجسادنا، والعيش في الخيام معاناة أخرى لا نستطيع تحملها فالخيمة لا تقي برد الشتاء وحرّ الصيف”.
ويُعاني صلاح من ورم في يده المبتورة، فالأدوية باتت مضرّة لحالته الصحية بعد أن كان لكل داء دواء، فاختلف الأمر مع حالته، ينتظر إعادة فتح المعابر ليسافر لاستكمال علاجه وتركيب أطراف صناعية ليعود لحياته كما كانت.
ويعيش واقع نفسي كارثي مع عائلته وصعوبة التأقلم على الواقع الذي أرغمهم على العيش بحياة مختلفة، خاصة مع إصابة نجله أيضًا وعدم قدرته على الذهاب معه إلى المستشفى، فأحلامهم معلقة على المعابر فقط.
ووصف مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) الحالة في قطاع غزة، بأنها “أكبر عدد من الأطفال مبتوري الأطراف في التاريخ الحديث” طوال الحرب التي استمرت سبعة عشر شهرًا، كانت الإمدادات والخدمات للأطفال والبالغين مبتوري الأطراف أقل بكثير من الحاجة ناجمة عن دموية الحرب.
وقد أتاح وقف إطلاق النار في غزة، الذي بدأ في منتصف كانون الثاني/يناير، فرصةً لوكالات الإغاثة لجلب عدد أكبر من الأطراف الاصطناعية والكراسي المتحركة والعكازات وغيرها من الأجهزة ومع ذلك، فإن هذا ما جُلب لم يغط سوى نحو 20% من إجمالي الاحتياجات.
ريما أبو عيطة (22 عامًا)، هي الأخرى من الآلاف مبتوري الأطراف، أصيبت بعد قصف إسرائيلي لمنزلهم أدت لبتر قدميها وأصابع يديها، فتعيش واقع نفسي وصحي كارثي.
تروي ريما ودموعها تسبق كلماتها: “كنت زي فتاة عندي أحلام كالفراشة، لكن الآن بعد إصابتي حياتي انقلبت رأسًا على عقب أصبحت بلا أقدام ولا أصابع لا فائدة لي في هذه الحياة”.
تحتاج ريما لرعاية صحية وعلاج مستمر لكن مع شح الأدوية لم تستطع توفيرها، والمستشفيات في غزة غير مهيأة لتركيب أطراف صناعية للآلاف من مبتوري الأطراف، فأملها هو السفر إلى الخارج لتركيب أطراف صناعية.
وتضيف لـ”نون بوست”: “أصعب ما قد يعيشه الإنسان هو العجز، تكون عاجزًا عن النزوح والتحرك في الخيمة أيضًا حتى أبسط الحقوق بقضاء الحاجة غير قادر عليها إلا بمساعدة أحد من أفراد أسرتي”.
وتشير إلى أن الشعور بالعجز أثر على وضعها الصحي والنفسي بعدما كانت تفعل ما تريد بذاتها، معبرًة عن خشيتها من فقدان والدتها التي تعيلها بأبسط الواجبات فهي الوحيدة تستطيع استيعابها والوقوف بجانبها.
حسن نصر (20 عامًا)، أيضًا الآخر فقط قدميه حُرم من استكمال دراسته في المرحلة التوجيهي على مدار عامين، فبات عاجزًا عن الحركة مرة أخرى إلا بمساعدة عائلته.
استيقظ حسن وهو غارقًا بدمائه صُدم ببتر قدميه الاثنتين، منذ عام وهو يعاني من عدم توفر الأدوية وشح المستلزمات الطبية، خاصة عدم توفر تركيب الأطراف الصناعية لمبتوري الأطراف وذلك بعد رفض إسرائيل دخول المواد الخام لتصنيع الأطراف في مستشفى حمد للأطراف الصناعية.
يروي لـ”نون بوست”: “فقدان أهم الأعضاء في جسمك فهو بحد ذاته كارثة تنحرم من التنقل بشكل طبيعي بالإضافة لاستكمال دراستك الخروج مع الأصدقاء كلها ذهبت بلا رجعة مع فقدان قدماي”.
يحلم حسن بتركيب طرف صناعي لتساعده للوقوف مرة أخرى ويعود إلى لعب الكرة والذهاب إلى مدرسته والخروج مع أصدقائه إلى البحر والركض في الشوارع.
وعن معاناته في التنقل، يشرح بأنه أحيانًا يخجل أن يطلب أمور بسيطة من عائلته كذهابه للحمام ينتظر لساعات أحيانًا للتخفيف عن عائلته، بالإضافة إلى أنه أصبح سجين للخيمة فقط لا يستطيع الخروج منها وخاصة أثناء النزوح وخوفه من استهداف المكان لعدم قدرته على الحركة.
أكثر من 6500 حالة بتر
قال مدير مستشفى الشيخ حمد للتأهيل والأطراف الصناعية في غزة د. أحمد نعيم، إن الحرب أدت إلى ارتفاع حاد بنسبة تفوق 225بالمئة في حالات بتر الأطراف، حيث تم تسجيل أكثر من 6500 حالة بتر جديدة منذ بداية الحرب، مقارنة بنحو 2000 حالة قبل أكتوبر 2023.
وأكد نعيم لـ”نون بوست”، أن قدرة المستشفى السنوية لا تتجاوز تصنيع 150 طرفًا صناعيًا، ما يعني أن التعامل مع الأعداد الحالية سيحتاج إلى أكثر من 20 عامًا ما لم يتم توسيع القدرات.
وبيّن أن مستشفى حمد يستقبل يوميًا نحو 200 حالة تتنوع بين إصابات تأهيلية، حالات بتر، ومشاكل في السمع والتوازن.
وشدد على أن قدرة المستشفى السنوية لا تتجاوز تصنيع 150 طرفًا صناعيًا، ما يعني أن التعامل مع الأعداد الحالية سيحتاج إلى أكثر من 20 عامًا ما لم يتم توسيع القدرات.
واقع نفسي مؤلم ومعقد
يؤكد عميد كلية التربية في جامعة فلسطين د. أكرم منصور، أن واقع مبتوري الأطراف نفسيًا معقّد ومؤلم، ويمر عادة بعدة مراحل نفسية متداخلة، تتفاوت حسب الشخص وظروف البتر والدعم الذي يتلقاه.
ويقول منصور لـ”نون بوست” إن الكثير منهم يشعر في البداية بالذهول وعدم التصديق، قد يتمنّى أن ما حدث مجرد كابوس، يخافون من الشفقة أو التنمر أو العزلة.
ويبيّن أن بعد الدعم النفسي والاجتماعي، كثير منهم يستطيعون التكيف، يبدءون في بناء حياة جديدة، أحيانًا أقوى من قبل.
ولفت إلى أن البعض الآخر يدخلون بمرحلة اضطراب ما بعد الصدمة، والاكتئاب الحاد، والقلق المزمن، مما قد يغير أسلوبهم كالعنف والعزلة ورفض الواقع الذي يعيشه.