“عهدي أن أمارس دوري كقائد أعلى للقوات المسلّحة وكرئيس للمجلس الأعلى للدفاع بحيث اعمل من خلالهما على تأكيد حق الدولة في احتكار حمل السلاح..” حاول الرئيس اللبناني جوزيف عون بتلك الكلمات التي قالها خلال خطاب القسم الذي ألقاه من داخل مجلس النواب (البرلمان) في التاسع من يناير/كانون الثاني 2025 كسر واحد من أكثر التابوهات اللبنانية تعقيدًا على مدار أكثر من 35 عامًا.
ويٌعد ملف سلاح “حزب الله” من أكثر القضايا إثارة للجدل على الساحة اللبنانية، بل والإقليمية والدولية أيضًا، منذ نهاية الحرب الأهلية اللبنانية عام 1990، هذا الملف الذي يتقاطع بين مساحات حساسة وحرجة، بين منطق الدولة ومنطق المقاومة، بين تهديدات الكيان الإسرائيلي المحتل ومخاوف الاستقرار الداخلي، بين السيادة اللبنانية والولاءات الإقليمية (الإيرانية).
ومنذ اتفاق الطائف عام 1989 وعشرات المبادرات الداخلية والخارجية التي طٌرحت على طاولة النقاش في محاولة لنزع سلاح الحزب، أو على الأقل ضبطه ضمن استراتيجية وطنية خاضعة للجيش اللبناني، إلا أن جميعها باء بالفشل، حيث احتفظ الحزب بترسانته التي عززها عاما تلو الأخر، وذلك قبل أن يتعرض للهزة الأخيرة التي أفقدته الكثير من قوته، وأخلت بتوازنه، والتي ربما يراها البعض فرصة مواتية لتحقيق ما لم يتحقق منذ عقود طويلة.
وفي قرار مفاجئ، يتعارض مع بوصلة التوازنات اللبنانية، قررت حكومة نواف سلام، الثلاثاء 6 أغسطس/آب الجاري، تكليف الجيش بوضع خطة لحصر سلاح حزب الله، في تحرك ربما يكون الأول الذي يستهدف عمليًا نزع الشرعية السياسية عن سلاح الحزب التي كرّستها الحكومات السابقة من خلال ما عُرف بثلاثية “جيش وشعب ومقاومة”، وعندما كان حزب الله القوة السياسية والعسكرية الأكثر نفوذا في البلاد ويحظى بدعم من دمشق وطهران.
ويعكس هذا التحرك التحولات الجذرية التي شهدتها السياسة اللبنانية خلال الآونة الأخيرة، سواء فيما يتعلق بسيادتها الداخلية أو مقارباتها إزاء مقاومة الاحتلال الإسرائيلي كون أن الحزب هو الجهة الوحيدة التي تقاوم المحتل، لكن يبقى التساؤل: هل ينجح لبنان هذه المرة في فرض شروطه عمليًا وحصر السلاح احتكارًا بيد الدولة؟ وهو السؤال الذي ينبثق عنه سؤالان أخران، ماذا عن موقف حزب الله إزاء هذا التطور؟ وأي ثمن سياسي وأمني يمكن أن يدفعه لبنان لأي محاولة من هذا النوع؟ ثم ماذا عن الدور الأمريكي في الدفع نحو هذا المسار الذي تتعامل معه القيادة اللبنانية، السياسية والعسكرية، كـ “مسار إجباري” لا يمكن النكوص عنه؟
لماذا الآن؟
يختلف طرح ملف سلاح حزب الله على طاولة النقاش هذه المرة عن كافة المرات السابقة، حيث يحيا الحزب، المدعوم إيرانيًا، أوهن محطاته التاريخية منذ نشأته عام 1982، الأمر الذي قد يراه البعض فرصة لا تتكرر كثيرًا، وعليه لا يمكن تفويتها، والعمل على استثمارها بشتى السبل لكسر أحد أهم الصخور الجامدة في جدار السيادة اللبنانية، وذلك في ضوء 3 مؤشرات رئيسية:
المؤشر الأول: الضربات التي تعرض لها الحزب منذ دخوله حرب غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 كجبهة إسناد للمقاومة الفلسطينية في القطاع، حيث مٌني بخسائر لوجستية وقيادية وتسليحية فادحة، على رأسها اغتيال زعيمه وقاده التاريخي حسن نصر الله، مما كان لها ارتداداتها العكسية على الكيان، فتقلصت قوته وتهمش نفوذه واضطر للخروج من المشهد وتحييده كليًا حفاظا على ما تبقى من قدراته.
المؤشر الثاني: تقليم أظافر طهران، الداعم والممول الأبرز للحزب، وهي الضربة التي لا تقل تأثيرًا وأثرًا عن استهداف هيكل الحزب ذاته، حيث تعرضت إيران لعمليات عسكرية واستخباراتية إسرائيلية كان لها تأثيرها على تقزيم نفوذها إقليميَا، وإعادة النظر في مستوى وحجم الدعم المقدم لمحور المقاومة.
هذا بخلاف سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، نهاية العام الماضي، والذي كان يمثل حاضنة قوية وداعمة للحزب ونشاطاته ومسارات تسليحه، بصرف النظر عن الخلافات والتباين في وجهات النظر التي كانت تطفو على السطح بين الطرفين وفق مقاربات كل منهما البرغماتية.
المؤشر الثالث: الضغوط الإقليمية والدولية الناجمة عن المستجدات التي شهدتها المنطقة مؤخرًا، حيث تعاظم النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط وترسيخ العربدة الإسرائيلية في ظل حالة الوهن الفاضحة للأنظمة والحكومات العربية، وانشغال القوى الدولية الأخرى بأزماتها الخاصة، كالصين ( اقتصاديًا حيث الحرب التجارية مع أمريكا وقضية تايوان) وروسيا (الحرب الأوكرانية والأزمات الاقتصادية).
في ضوء تلك المؤشرات الثلاثة وجدت السلطة اللبنانية الحالية الفرصة مواتية لإخراج ملف سلاح حزب الله من الأدراج وطرحه على مائدة النقاش بجدية غير معهودة، إذ تجاوز الأمر هذه المرة حاجز التصريحات الإعلامية إلى الإجراءات الرسمية ووضع جدول زمني للانتهاء من حسم هذا الملف.
أمريكا والمغازلة بورقة الدعم
استثمرت واشنطن في الحالة الرخوة التي عليها حزب الله بصورة واضحة ومباشرة، حيث مارست ضغوطها المكثفة على الحكومة اللبنانية لإنجاز هذا الملف في أسرع وقت، رابطة إياه بحزم من الدعم الاقتصادي والمنح والمساعدات وتحريك ملف إعادة الإعمار بشكل عاجل.
البداية كانت مع زيارة المبعوثة الأمريكية مورغان أورتاغوس إلى لبنان في فبراير/شباط 2025، والتي أعلنت صراحة بوجوب نزع سلاح حزب الله في أقرب وقت ممكن من خلال الجيش اللبناني، حيث عقدت لقاءات عدة مع رئيس الجمهورية جوزيف عون ورئيس الوزراء نواف سلام ورئيس مجلس النواب نبيه بري.
وفي أعقاب تلك اللقاءات خرجت أورتاغوس بتصريحات وصفت بالمستفزة حين قالت إن إسرائيل لن تقبل بإطلاق “الإرهابيين”، وفق تعبيرها، النار عليها داخل أراضيها، وهو ما أثار جدلا كبيرًا داخل الشارع اللبناني الذي تحفظ على تلك اللهجة وإن لم يرفض طرح قضية نزع السلاح غير القانوني في البلاد للنقاش مجددًا.
ورغم التجاوب اللبناني مع مطالب أورتاغوس، وإعلان كل من الرئيس اللبناني ورئيس حكومته، المضي قدمًا في هذا المسار، والتعامل مع احتكار السلاح بأيدي الدولة كأولوية وطنية، إلا أن ذلك لم يرضي الولايات المتحدة التي أوفدت مبعوثًا أخر أكثر دبلوماسية، وهو توم براك، الذي طرح في يوليو/تموز الماضي ورقة أمريكية تفصيلية على الحكومة اللبنانية، تضمنت نزع سلاح حزب الله وحصر السلاح بيد الدولة.
عاجل | وزير الإعلام اللبناني للجزيرة: الورقة الأمريكية ستخضع لفحص وتدقيق بمجلس الوزراء قبل اعتمادها
— الجزيرة – عاجل (@AJABreaking) August 6, 2025
حاول براك، عبر خطاب دبلوماسي برغماتي واضح، استقطاب الرؤساء الثلاثة (عون، سلام، بري) ومن بعدهم البطريرك الماروني وزعيم “القوات اللبنانية”، بالتلميح بأن التزام بيروت بتنفيذ بنود تلك الورقة سيفتح الباب على مصراعيه أمام دعم خليجي كبير لإعادة إعمار الجنوب فضلا عن العديد من المكاسب السياسية والاقتصادية للطائفة الشيعية.
يتناغم الخطاب الأمريكي مع المقاربة اللبنانية الرسمية، رئاسة وحكومة، والتي تميل بطبيعة الحال إلى نزع سلاح الحزب، والتركيز على الاستقرار والأمن الداخلي، إذ ترى في الحزب عبئًا وثقلا يهدد مسار التنمية والنهوض من الأزمات الطاحنة التي تواجهه البلاد وعلى رأسها الأزمة الاقتصادية التي أفسدت حياة الملايين من الشعب اللبناني.
أي مقاربة بشأن الاحتلال؟
أثار القرار حالة من الجدل بشأن تداعياته على مقاومة الاحتلال الذي لا زال يعربد في الجنوب ويرفض الانسحاب من المناطق التي احتلها مؤخرًا، حيث يرى قانونيون أنه لم يتعلق فقط بسحب سلاح حزب الله، بل ينزع الشرعية عن المقاومة خارج رحم الجيش الوطني، فالأمر لا يقتصر على حيازة السلاح دون غيره، بل يشمل أي عمل عسكري ضد الكيان الإسرائيلي.
من جانبه يرى المؤرخ السياسي والوزير الأسبق كريم بقرادوني أن هذا القرار الحكومي “يعني حظراً لأي قتال ضد إسرائيل أو غيرها، ينفذه أي طرف أو شخص من خارج المؤسسات الأمنية والجيش اللبناني”، مضيفًا في تصريحات صحفية له أن “كل شيء أو فعل، من خارج المتفق عليه في مجلس الوزراء، ومن بينه إطلاق النار في الجنوب، سيكون بمثابة جرم يعاقب عليه القانون بدءاً من العام المقبل بالنظر إلى أن المهلة المعطاة للجيش لسحب السلاح تنتهي في نهاية العام الحالي”
ويذكر أن المقاومة ضد إسرائيل أو حيازة الأسلحة لقتالها، سواء أكان عبر “حزب الله” أو أي جهات لبنانية مصنفة “مقاومة”، أمرًا لم يكن محظوراً في السابق، فلطالما حاز هذا السلاح على شرعيته من دعم الحكومات السابقة، والتي تعهدت بحق لبنان في مقاومة إسرائيل وتحرير الأرض “بكل الوسائل المشروعة”، دون حصر تلك الوسائل على الجيش الوطني فقط، وهو ما منح أي فصيل كان بالانخراط في هذا المسار.
وتعد هذه المرة هي الأولى تاريخيًا الذي يٌجرد سلاح المقاومة من خارج المؤسسة العسكرية الرسمية من شرعيته، وذلك منذ اتفاق القاهرة الذي وقعه لبنان عام 1969 والذي أتاح حينها للمقاومة الفلسطينية التسلح والقيام بعمليات فدائية ضد تل أبيب من داخل الأراضي اللبنانية، واستخدام السلاح من خارج الدولة الرسمية، بضمانة من جامعة الدول العربية وقتها.
وفي المقابل منحت الحكومة اللبنانية نفسها حصرًا دون منازع أو شريك حق الدفاع عن الأرض وتحريرها، إذ نص البيان الوزاري الذي ألقاه سلام الثلاثاء 6 أغسطس/آب الجاري على أنه: “تلتزم الحكومة، وفقاً لوثيقة الوفاق الوطني المُقرّة في الطائف، باتخاذ الإجراءات اللازمة كافة لتحرير جميع الأراضي اللبنانيّة من الاحتلال الإسرائيلي، وبسط سيادة الدولة على جميع أراضيها، بقواها الذاتيّة حصراً، ونشر الجيش في مناطق الحدود اللبنانيّة المُعترف بها دوليّاً”
حزب الله يرفض وطهران تدعم على استحياء
استبق الحزب التحرك الحكومي بإعلانه رفض أي مساس بالسلاح، حيث ، خرج الأمين العام نعيم قاسم في كلمة متلفزة له مؤكدًا أن تلك المسألة غير مطروحة للنقاش، معتبرا أن الأولوية يجب أن تكون لوقف العدوان الإسرائيلي، وإنهاء الاحتلال، وإعادة الإعمار، وتحرير الأسرى.
وشدد قاسم في كلمته على أن “الحل لا يكون بالإملاءات، ولن نقبل أن يُفرض علينا شيء من الخارج، فلبنان يُدار بالتوافق لا بالإكراه”، منتقدا تحويل النقاش من إستراتيجية الأمن الوطني إلى مسألة تسليم السلاح، متسائلا “أين الدولة التي تدفع البلاء عن لبنان؟ وأين الجيش القادر على حماية الحدود؟”، معتبرا أن دور الدولة يجب أن ينصب على مواجهة التهديدات، لا نزع سلاح من يدافع عن الوطن.
وردًا على الورقة الأمريكية المقدمة وصف الأمين العام للحزب المقترحات المقدمة بأنها “إملاءات لصالح إسرائيل”، موضحا أنها تشمل “تفكيك أسلحة نوعية وقاذفات خلال 30 يوما”، وأضاف “يشترط المقترح تفكيك 50% من قدراتنا خلال شهر، بينما لا يعرف أصلا ما حجم هذه القدرات كي يحدّد تلك النسبة”، منوها أن “المقاومة ليست بندًا تفاوضيا أو موضوعا للتصويت، بل هي جزء من معادلة اتفاق الطائف ومكوّن من مكوّنات السيادة الوطنية”.
وقوبلت تلك التحركات برفض إيراني مباشر، حيث أشار وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، أن هذه ليست المرة الأولى التي تُبذل فيها جهود لنزع سلاح حزب الله وتعطيل سلاح المقاومة، مشيراً في مقابلة له مع التلفزيون الإيراني إلى أنّ محاولات نزع سلاح الحزب ترتبط برؤية الطرف الأخر لقدرات سلاح المقاومة وتأثيره على معادلات الميدان، مؤكداً أن الحزب يمتلك القدرة الكافية للدفاع عن نفسه، وأنّ إيران تدعمه عن بُعد من دون التدخّل في قراراته.
ويرى عراقجي أن حزب الله تمكّن من “تدارك جميع الضربات التي تلقّاها خلال الحرب”، وأنه أعاد تنظيم صفوفه، ونشر قواته، وعيّن القادة الجدد، وهو ما يؤهله للدفاع عن نفسه، مؤكدًا على استمرار دعم طهران له، ولو عن بعد، دون التدخل في قراراتهم، على حد قوله، وتابع “الآن، ومع تلقي حزب الله ضربات خلال الاشتباكات الأخيرة، يتصوّرون أن الفرصة سانحة لتطبيق خطة نزع السلاح”.
36 عامًا من المحاولات دون جدوى
واجه حزب الله على مر تاريخه عشرات المحاولات والضغوط لنزع سلاحه لكن دون جدوى أو إجراء ملموس ميدانيًا، البداية كانت مع اتفاق الطائف (1989) الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية ونصّ على حلّ جميع الميليشيات اللبنانية وتسليم سلاحها للدولة، إلا أن الحزب اعتُبر في ذلك الوقت “حركة مقاومة” ضد الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب، فتم استثناؤه فعليًا من عملية نزع السلاح، ليبدأ عملية تجديد وإنعاش لترسانته التسليحية بدعم من إيران وسوريا.
وعقب انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان عام 2000 برزت دعوات داخلية ودولية لنزع سلاح الحرب، باعتبار أن مبرر المقاومة قد انتفى، إلا أنه رفض، معتبرًا أن الاحتلال لم ينتهِ بالكامل بسبب استمرار احتلال مزارع شبعا، فيما وقفت الدولة اللبنانية في ذلك الوقت عاجزة عن فرض قرار بهذا الحجم في ظل الانقسام السياسي والطائفي.
وفي عام 2004 أصدر مجلس الأمن الدولي قراره التاريخي رقم (1559) الذي طالب بنزع سلاح جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية، إلا أن الحزب رفض القرار وقتها واعتبره تدخلاً في الشؤون اللبنانية، مما زاد من الضغط الدولي على لبنان، دون أي قدرة للدولة على تنفيذ القرار.
وفي أعقاب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري عام 2005 دعا تيار “14 آذار” إلى نزع سلاح الحزب ضمن مشروع “الدولة القوية”، لكن الحزب تمسك بسلاحه كأداة “لحماية لبنان من إسرائيل”، واتهم خصومه بتنفيذ أجندات خارجية، الأمر الذي تسبب في تصاعد الانقسام الداخلي حول هذا الملف الذي تحول إلى محور أساسي في الصراع السياسي الداخلي.
ثم جاءت حرب يوليو/تموز 2006 والتي خاص فيها الحزب مواجهة مباشرة وبشكل فردي مع الاحتلال، الأمر الذي عزز من شعبيته، ومع ذلك طٌرح ملف السلاح مرة أخرى خاصة بعد انسحاب القوات الإسرائيلية من مزارع شبعا، لكن دون خطوات فعلية، إذ ظل الحزب متمسكًا بسلاحه.
وفي مايو/أيار 2008 اتخذت الحكومة اللبنانية حزمة من الإجراءات للضغط على الحزب لتسليم سلاحه منها نزع شبكة الاتصالات الخاصة به، مما دفع عناصره لشن عملية عسكرية على بيروت الغربية، فيما خرج الموالون له في شوارع العاصمة وهي التظاهرات التي اعتبرت حينها رسالة إنذار بشأن استعداد الحزب لاستخدام القوة داخليًا لحماية سلاحه.
وخلال السنوات الماضية عقدت الكثير من النقاشات بين القوى السياسية اللبنانية فيما عٌرفت بـ “الحوار الوطني” لبحث استراتيجية دفاعية تشمل سلاح حزب الله، لكنها لم تصل إلى اتفاق حاسم، بسبب تباين وجهات النظر، ففريق يرى السلاح ضرورة لمواجهة إسرائيل، وأخر يراه مصدرًا لعدم الاستقرار.
ومع اندلاع الثورة السورية عام 2011 ضد نظام الأسد وتدخل حزب الله لدعمه في مواجهة السوريين، تصاعدت الانتقادات اللبنانية بشأن استخدام الحزب لسلاحه في نزاع غير لبناني، حيث وجهت له اتهامات بتعريض أمن واستقرار البلاد للخطر بسبب مغامرات قياداته الخارجية، وطٌرح سحب سلاحه للنقاش مجددًا لكن بلا إجراء حاسم.
ثم واجه موجة انتقادات شعبية جارفة مع الانهيار الاقتصادي عام 2019 حيث خرجت الاحتجاجات الجماهيرية في شتى المدن اللبنانية للمطالبة برحيل الطبقة السياسية عن بكرة أبيها، بما فيها حزب الله، وذلك تحت شعار “كلّن يعني كلّن”، إلا أن الحزب رفض تحميله المسؤولية، ورفض بحث موضوع سلاحه تحت ضغط الشارع.
المشهدية ذاتها تكررت مع انفجار مرفأ بيروت عام 2020 وهو الانفجار الذي أعاد الجدل حول وجود قوى غير خاضعة للدولة وتأثيرها على الأمن القومي، حينها وُجّهت انتقادات لاذعة إلى المنظومة كلها، بما فيها الحزب، لكن لم تتطور إلى مطالب مباشرة بنزع سلاحه من جهات رسمية.
وأخيرًا جاءت الحرب في غزة عام 2023 ودخول الحزب كجبهة إسناد، وما تلاها من اعتداءات إسرائيلية على الداخل اللبناني، والتي وصلت إلى العاصمة بيروت، مما زاد من وتيرة الانتقاد بشأن مسؤولية الحزب عن تعريض لبنان للخطر والتهديد، ومع تلقي الضربات والخسائر الفادحة، وجدت الحكومة اللبنانية في المشهد الحالي الفرصة لتنفيذ ما فشلت فيه على مدار عقود طويلة مضت.
هل يفعلها لبنان هذه المرة؟
لاشك أن الضغوط الأمريكية هذه المرة بشأن نزع سلاح حزب الله مختلفة عما سبقها، إذ ألقى المبعوث الأمريكي الكرة في ملعب الحكومة والرئاسة اللبنانيتين، تاركًا لهما الساحة لتكييف المشهد وفق ما يتراءى لهما، المهم أن تذهب الأمور في نهاية المطاف لاحتكار الدولة للسلاح حصرًا وبشكل غير قابل للنقاش.
تزامنًا مع ذلك يفرض الكيان الإسرائيلي مقاربة مغايرة، حيث المناقشات تحت النار، والضغط بورقة الأمن والاستقرار، فبينما كان سلام مجتمعًا بحكومته لبحث ملف السلاح، كانت قوات الاحتلال تقوم بعملياتها العسكرية في الجنوب اللبناني وفي بيروت، وتشن سلسلة من الاغتيالات والغارات التي لا تتوقف، وسط تصريحات صدامية بعدم الانسحاب من المناطق التي تم احتلالها مؤخرًا.
ميدانيًا باتت غالبية المواقع العسكرية التابعة لحزب الله جنوب نهر الليطاني تحت هيمنة وسيطرة الجيش اللبناني، حيث استطاع بمساعدة قوات اليونيفيل، تفكيك معظم هذه المواقع، في خطوة ربما تعكس جدية هذه المرة في حسم ملف السلاح، لكن موقف الحزب الرافض لهذه الخطوة ربما يشكل عائقًا كبيرًا يحول دون تنفيذ قرار مجلس الوزراء.
هناك فريق يرى أن الحزب ما عاد يمتلك القدرة التي تؤهله لفرض سيطرته وقراراته مرة أخرى، سياسيًا وشعبيًا، حيث وصل إلى مستوى متدني من الضعف لا تمكنه من الوقوف في وجه تلك الأمواج المتلاطمة من الضغوط، خاصة إذا ما تبع الأمر تهديدات متصاعدة بشأن التبعات المحتملة في حال استمرار رفضه لتسليم السلاح.
أنصار هذا الرأي يستبعدون تكرار سيناريو 7 مايو/أيار 2008 حين رد الحزب على قرار الحكومة بتفكيك شبكة اتصالاته بعملية عسكرية قاسية في بيروت، فيما خرج الملايين دعما له في الجنوب والعاصمة، فالحزب لم يعد يمتلك أوراق القوة ذاتها التي كان يمتلكها في السابق، كما أن غياب الحاضنة السياسية الإقليمية له حاليًا، وهو ما يمكن تلمسه في الخطاب الإيراني الأخير، أصبح نقطة ضعف محورية ستدفعه للتفكير مليًا قبل الإقدام على أي تصعيد جديد.
وعلى الجانب الأخر يتبنى فريق ليس بالقليل سردية استحالة تخلي حزب الله عن سلاحه، فهي ورقة الضغط الوحيدة المتبقية حاليًا، والتي من الممكن أن يخوض لأجلها معركة وجود قبل أن تكون معركة نفوذ، الأمر الذي إن لم يتم ضبطه ببوصلة المقاربات سيتحول إلى قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أي وقت، تعيد البلاد للخلف عشرات السنين حيث الانزلاق في آتون حرب أهلية مفتوحة شاملة.
على كل حال هناك مهلة حتى نهاية العام الجاري لتنفيذ هذا القرار، وهي المهلة التي ربما تكون كافية نسبيًا للتوصل إلى صيغ توافقية تحسم الجدل بشأن هذه المسألة، أو على الأقل تدشن أرضية مشتركة لكسر الأجزاء الصلبة في مسار التفاهم، مع ضرورة إشراك وسطاء إقليميين ودوليين على طاولة المفاوضات من أجل تقريب وجهات النظر التي من المرجح أن يكون البون بينها شاسع للغاية.
محصلة لما سبق.. وفي ظل هذا المشهد المتأزم، بات من المؤكد أن لبنان على حافة شديدة الحساسية، مفتوحة على كافة الاحتمالات، فالاقتراب من ملف السلاح، بالقوة لا بالتفاهم، مغامرة سيكون لها عواقبها إن لم يتم دراستها بشكل حذر ودقيق، ووضع كافة السيناريوهات لمختلف الاحتمالات الواردة، مع إشراك المجتمع الإقليمي والدولي وفق تفاهمات وضمانات محددة.