مرّ 14 عامًا منذ أن شاهدت فيها نشرة أخبار تلفزيونية كاملة. بالنسبة لمنتج أفلام وثائقية سياسية، فإن متابعة الأخبار عامل هام وضروري، أليس كذلك؟
العلم يجيبنا بخلاف ذلك. ازداد بشكل مطّرد عدد الأبحاث الوصفية والنوعية التي تدرس الأثر النفسي للتعرض المستمر والكثيف للأخبار السلبية على الإعلاميين والجمهور على حدٍ سواء. بات استخدام مصطلحات من قبيل “إرهاق التعاطف” و “التبلد العاطفي” أكثر شيوعًا.
فما هو السبيل لتعزيز الحصانة النفسية إزاء الدفق الخبري المتواصل على مدار الليل والنهار، وما هي آثار الناجمة عن هذه الظاهرة التي باتت روتينًا في الحياة المعاصرة للإنسان؟ وكيف يمكننا تجنب التأثر بالتهاويل والمبالغة وبقية الأساليب الإعلامية الساعية وراء إرضاء الخوارزميات على حساب الصحة النفسية للبشر.
إرهاق التعاطف والتبلد العاطفي
ينتج “إرهاق التعاطف” أو “إجهاد التعاطف” عن تكرار تعرض الفرد لأخبار، سواء مكتوبة أو مسموعة أو مرئية، تتضمن آلاما او أحزانا يعيشها الآخرون. من الفقر إلى الموت مرورًا بالقتل والتعذيب والمعاناة، يحصل إجهاد التعاطف، بحسب الأستاذ توفيق سلّوم (بروفسور في علم النفس العيادي)، “عندما يكون التعرض المتكرر غير مصاحب بآليات نفسية دفاعية مناسبة”، موضحًا أن “العقلنة واحدة من أهم آليات الدفاع الفكرية في مثل تلك الحالات”.
ويضيف سلّوم أن “إشهار روح التحدي هو ايضا آلية دفاعية مناسبة في حالات التعرض للحصار او القصف المستمر، ففي هذه الحالة يُطلق الفرد الروح القتالية عبر تفعيل غريزة العدوان لطرد الشعور بالخوف”.
يصف المعالج النفسي والأستاذ في الجامعة اللبنانية التبلد العاطفي بأنه “مظهر من مظاهر عزل الذهن عن المحتوى العاطفي للأحداث واعتبار المشاعر خصما يجب قمعه”. في هذه الحالة ” البعض ينتقل إلى تنشيط المخيلة خارج إطار الأحداث، و آخرون يعتمدون الالهاء وتشتيت الانتباه عن المحتوى الدلالي للأحداث”.
لا يقتصر أثر هذه العمليات الذهنية جميعها على نفس الفرد، بل يتجاوزها إلى إعادة تشكيل دور الإعلام برمته. وهكذا تحول الإعلام من وسيله للإخبار إلى وسيلة للتأثير.
خوارزميات غرف الصدى
تُصدر وكالة رويترز تقريرا سنويا حول سلوكيات الجمهور حول العالم في استهلاك الأخبار. في السنوات الخمس الأخيرة، تزايد بشكل واسع اعتماد الجمهور على المنصات الرقمية وشبكات التواصل والتطبيقات. بات الإعلام مسلحًا بالخوارزميات أيضا، ما يعزز من ظاهرة ثانية أشد تأثيرًا هي “غرف الصدى” السلبي، بفعل تعرض المستخدمين بشكل متزايد لمحتوى سلبي ما يخلق دوائر من القلق.
ولأن هدف الخوارزميات النهائي هو إبقاء المستخدمين على انخراط في المحتوى الذي يتوافق مع تفاعلاتهم الأولى، يدخل معظم الجمهور في حالة “إرهاق الأخبار” News Fatigue التي تؤدي حُكما الى ارتفاع مستويات القلق والتوتر. ولأن المشاعر السلبية تعزز بعضها، تتفاقم أيضًا مشاعر الوحدة وعدم الكفاءة ما يؤثر على الأفكار العقلانية والمزاج.
بكلمات أخرى، تحبسنا الخوارزميات جميعًا في فقاعات معلوماتية تتغذى على المبالغة في إثارة المشاعر السلبية عبر تضخيم المخاوف وتركيز فكرة هشاشة الحياة ومحدوديتها ووحدة الفرد.
التحول الذي صنعته الخوارزميات في عمل وسائل الإعلام عامة، يدفعنا إلى الحديث عن دور الإعلام والمسؤولية الأخلاقية في ظل هذا التعقيد في مشهد السلامة النفسية أمام سيل الأخبار السلبية.
دور الإعلام والمسؤولية الأخلاقية
تعتبر الأستاذة في علم النفس في الجامعة اللبنانية الدكتور ماجدة حاتم أنه على وسائل الإعلام تجنب إثارة الجهاز النفسي للجمهور، داعية الى اقتطاع المثيرات الحادة من الأخبار (كمشاهد الدم والقتل القاسية) والاكتفاء بالوقائع التي تخدم مسألة اطلاع الجمهور من دون التأثير على مشاعره. وفي حين تشير حاتم الى حتمية التبلد العاطفي في جميع المهن، فكما الطبيب الجراح قد يعتاد على مشاهد يعتبرها الأخرون قاسية، على الإعلامي أيضًا أن يكون مدربا على مهارات نفسية خاصة لتجنب التهويل وتقليل التأثير على الصحة النفسية للجمهور.
وتقترح المعالجة والمدربة النفسية الصحافة المتأنية كأحد الحلول الأساسية بالنسبة للجمهور، داعية الى “حماية” الجمهور عبر تقديم المعرفة له من دون استثارة مشاعره السلبية.
وإن كانت الدكتورة حاتم تتفهم دوافع وسائل الإعلام في جذب أكبر عدد ممكن من المتابعين، فإنها تدعو الى تقديم الحقيقة بشكل متزن، معتبرة أنه يقع على عاتق الإعلام مسؤولية أخلاقية عميقة تتجاوز مجرد نقل الحقائق.
بدوره، يدعو الدكتور سلّوم إلى مزيد من الرقابة على التزام الإعلاميين بنصوص أخلاقيات المهنة، ولكنه يشير الى صعوبة ذلك بسبب اعتماد تمويل المؤسسات الإعلامية على أهداف الممول، وبالتالي “فإن فكرة طلب حيادية الاعلام و أنسنته تشبه طلب تخلي الجيش عن إطلاق النار في حالة الحرب”. ويدعم هذه الفكرة انتشار مصطلح “الجيوش الإلكترونية” الذي شاع في السنوات الأخيرة.
ويعتبر سلّوم أنه “ليس دور الإعلام بناء جمهور مرة، بل هذا دور المؤسسات التربوية التي توظف أدوات الإعلام من أجل بناء شخصية متزنة ومواطن ملتزم وإنسان سوي”.
استراتيجيات نفسية لمتابعة الأخبار
أمام هذا الواقع الشديد التعقيد، يحتاج الجمهور إلى اتباع نهج أكثر وعيًا في استهلاك الأخبار.
يستهل الدكتور توفيق سلّوم صباحه الباكر بقراءة عناوين الأخبار المحلية والدولية الواسعة التأثير. وفي بلد متعدد الأزمات كلبنان، يقرأ الدكتور سلّوم عناوين الأحداث في موقع محلي عند منتصف النهار. ثم ليلا يكرر الأمر نفسه من دون أن يغوص في تفاصيل الأخبار.
عند سؤاله حول المعايير المهنية للمواقع التي يتابعها، يقارب البروفسور اللبناني المسألة بأسلوبه المختلف “أنا أهمل 50% على الأقل من محتوى كل خبر، إيمانًا مني بأن كل شيء من الدنيا سماعه أعظم من عيانه”.
ختامًا، يمكن القول إن التعامل مع المشهد الإعلامي المعاصر بات يتطلب التزاما أكبر من جميع الأطراف:
- على وسائل الإعلام ان تعيد التزامها بالحيادية والموضوعية، مع التركيز على الوقائع بدل الإثارة.
- على الجمهور تطوير عادات استهلاكية واعية وتعزيز التفكير الناقد.
فقط من خلال هذا الجهد المشترك يمكننا بناء نظام إعلامي يحترم عمق المعلومة ورفاهية الجمهور العقلية.