ترجمة وتحرير: فورين أفيرز
نادراً ما شهد التاريخ الحديث هجوما عسكريا تم الترويج له بصخب وإصرار مثل الضربات الإسرائيلية والأمريكية على البرنامج النووي الإيراني في يونيو/ حزيران 2025. لأكثر من ثلاثة عقود، أطلق المسؤولون في تل أبيب وواشنطن تحذيرات صارمة حول الطموحات والأنشطة النووية للجمهورية الإسلامية، وتعهد خمسة رؤساء أمريكيين بمنع طهران من تجاوز عتبة امتلاك الأسلحة النووية.
رغم هذه التحذيرات المسبقة والإشارات الواضحة على الاستعدادات الوشيكة للحرب، كان الهجوم الإسرائيلي على البنية التحتية النووية في إيران، المدعوم بتدخل أمريكي خاطف وحاسم، صدمة لطهران وللعديد من دول العالم. ساهم عنصر المفاجأة في النجاح المذهل للعملية التي قضت سريعاً على القيادة العسكرية الإيرانية، وأمّنت تفوق “إسرائيل” الجوي فوق الأراضي الإيرانية، وكبّلت قدرة إيران على الرد، وألحقت أضرارا جسيمة بأهم منشآت البنية التحتية النووية.
أدى التنفيذ المتقن للعملية وغياب رد فعال من طهران أو من شبكة وكلائها الإقليمية إلى مفاجأة أخرى: النهاية السريعة للأزمة عبر وقف إطلاق نار فرضته الولايات المتحدة في اليوم الثاني عشر من النزاع.
في أقل من أسبوعين، حقق التحالف الأمريكي-الإسرائيلي ما اعتبره كثيرون مستحيلاً، محدثا نكسة غير مسبوقة في برنامج إيران النووي من دون إشعال صراع إقليمي واسع. وكانت هجمات إيران الانتقامية على إسرائيل، إلى جانب الضربة الرمزية على القاعدة الجوية الأمريكية في قطر، مجرد عمليات استعراضية تكشف عن عجز واضح. وقد بدا لكثيرين في واشنطن أن هذه النتيجة طردت شبح التدخلات العسكرية الأمريكية الفاشلة أو المحبطة في الشرق الأوسط خلال العقود الأربعة الماضية.
تضافرت هذه النتيجة اللافتة مع الانهيار الأوسع في موقف إيران الاستراتيجي، والذي بدأ في العام السابق، عندما دمرت إسرائيل أهم وكلاء النظام الإيراني، حزب الله اللبناني، وتهاوى النفوذ الإيراني في سوريا مع سقوط نظام بشار الأسد. وعند اندلاع النزاع في يونيو/ حزيران، اكتفى حلفاء إيران الاستراتيجيون في موسكو وبكين بإدانات عابرة.
منذ عام 1979، حين صعد نظام إسلامي ثوري إلى السلطة في طهران، سعت واشنطن وحلفاؤها لكبح جماح إيران، وبلغ هذا الجهد الآن نقطة مفصلية: الجمهورية الإسلامية أضعف وأكثر عزلة مما كانت عليه في أي وقت خلال العقدين الماضيين. لم تعد قادرة على فرض إرادتها في المنطقة، ولا حتى على حماية حدودها وشعبها. والآن، بعد إخضاع هذا العملاق، يبدو من المغري إعلان “انتهاء المهمة”، لكن ذلك سيكون سابقاً لأوانه: إيران منهارة لكنها لم تُهزم بعد.
المخاطر الجسيمة التي تشكلها الجمهورية الإسلامية لا تزال قائمة، وقد يؤدي تجدد المواجهة إلى تغيير طبيعة تلك المخاطر أو تضخيمها. رغم الخسائر الفادحة والإهانة التي لحقت به على يد ألد أعدائه، يحتفظ النظام الثوري بقبضة حديدية على السلطة. بنيته التحتية النووية مدمرة لكن لم يتم القضاء عليها بالكامل. قد تعزز الرغبة المزدوجة في الانتقام وبقاء النظام دوافع طهران العنيفة والمزعزعة للاستقرار داخلياً وفي المنطقة، وتزيل أي شكوك حول جدوى الردع النووي.
يقول الكاتب جيمس بالدوين: “أخطر ما يمكن أن يخلقه أي مجتمع هو رجل ليس لديه ما يخسره”. هذا الوصف قد ينطبق الآن على أولئك الذين يسيطرون على بقايا النظام الثوري في إيران. مع تدهور شبكة وكلائهم، وتدمير دفاعاتهم الجوية، وانكشاف هشاشة تحالفاتهم مع القوى العظمى، يحتاج حراس الجمهورية الإسلامية المنهكون إلى أدوات جديدة لإبعاد الذئاب. من الصعب التنبؤ بكيفية تطور الأوضاع بعد إذلال النظام؛ فقد تكون هناك مفاجآت أخرى في الأفق. لكن لا شك أن الأطراف التي تمسك بمقاليد الحكم في طهران ستسعى إلى إعادة بناء بقايا البرنامج النووي واستعادة هيمنة النظام على المجتمع الإيراني.
حتى في وضعها الهش، ستظل طهران المتمردة فاعلا خطيرا ومصدرا للاضطرابات وعدم اليقين في المنطقة. في الشرق الأوسط الحديث، نادرا ما أسفرت الضربات القوية على مهددي الاستقرار عن مصالحة أو استسلام أو حتى تخفيف دائم للتوترات. وأي توافق حول شكل النظام الإقليمي الجديد بين القوى المتبقية، إسرائيل والسعودية وتركيا، قد أجهضته الحرب في غزة، وقد تزداد الأوضاع توتراً بسبب الصراع غير المحسوم مع إيران.
في نهاية المطاف، قد تكون “إسرائيل” والولايات المتحدة، عبر لجوئهما إلى القوة العسكرية، عجّلتا بالنتيجة التي أرادتا تجنبها: ثيوقراطية إسلامية أكثر قمعًا وعدائية، تمتلك قنبلة مخفية، وتحمل رغبة في تصفية الحسابات في جوارها الإقليمي. أما الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي لطالما رفع شعار إنهاء التدخلات المكلفة والطويلة في الشرق الأوسط، فقد يجد أن استراتيجيته المفضّلة لإنهاء الصراع لم تكن سوى نجاح عملياتي آخر لا يُنتج توازنًا سياسيًا مستقرًا.
حسابات إيران الجديدة
نشأ البرنامج النووي الإيراني في السبعينيات كمشروع للطاقة المدنية في ظل نظام بهلوي موالٍ للولايات المتحدة ومهووس بالمكانة العالمية، رغم تحفّظات أمريكية على مخاطر الانتشار النووي. بعد ثورة 1979، اعتبر القادة الجدد البرنامج بقايا نفوذ غربي وأغلقوه جزءا كبيرا منه، لكن بعض الأبحاث النووية استمرت. وبعد الغزو العراقي بقيادة صدام حسين عام 1980، وانخراط إيران في حرب استنزاف قاسية، عاد الاستثمار في البنية التحتية النووية كمصدر للطاقة الرخيصة، وأداة لاستعراض القوة، ووسيلة للردع ضد عدوان محتمل.
على مدى أربعة عقود، بنت الجمهورية الإسلامية برنامجًا نوويًا صناعيًا صار تدريجيًا علامة على هوية النظام وعلاقته المتوترة مع الغرب. بدأت المساعي النووية بعد الثورة بالتركيز على الاعتماد على الذات والقدرات المحلية، ثم توسع البرنامج في أواخر التسعينيات ليشمل جهداً سريًا واسع النطاق لامتلاك القدرة على تصنيع أسلحة. وشاهدت القيادة الإيرانية الهجوم الإسرائيلي على مفاعل أوزيراك العراقي عام 1981، فكانت مدركة للمخاطر، وأوقفت التسلح النووي مع بدء غزو العراق عام 2003.
ميّز الحذر سياسة طهران منذ البداية، مستندة إلى فتوى دينية للمرشد الأعلى خامنئي عام 2003 تحرّم استخدام أسلحة الدمار الشامل. ومع ذلك، أقر الرئيس الإيراني السابق رفسنجاني عام 2015 بأن إيران لم يغب عن تفكيرها إمكانية اللجوء للطريق الآخر في حال تعرضت لتهديد وجودي. بعد الهجمات المتبادلة بين إيران وإسرائيل في 2024، بدأت أصوات براغماتية داخل النظام تطرح علنًا احتمال صنع سلاح نووي. ففي تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، أكد وزير الخارجية السابق خرازي: “إذا نشأ تهديد وجودي، ستعدل إيران عقيدتها النووية، لدينا القدرة على صنع الأسلحة ولا مشكلة في ذلك”.
بعد الهجوم الأمريكي-الإسرائيلي المشترك في يونيو/ حزيران، قد تصبح “وثيقة التأمين الذري” مطلبًا استراتيجيًا للجمهورية الإسلامية. وقد تضاعف طهران رهانها النووي بمحاولة إنقاذ ما تبقى من البنية التحتية وبذل جهود شاملة للحصول على السلاح، لكن هذه المرة بهدوء أكبر. يعتمد ذلك على حالة البنية التحتية التي تعرضت لأضرار واسعة، إضافة إلى القضاء على مجموعة رئيسية من العلماء النوويين. وتشير التقييمات الأولية للوكالة الدولية للطاقة الذرية وخبراء مستقلين إلى تدهور شديد أو توقف كامل لقدرة التخصيب الإيرانية. مع ذلك، يرى بعض الخبراء أن إيران قد تعوض خسائرها وتعيد بناء برنامجها خلال أشهر أو سنوات، وأن مكونات أساسية كاليورانيوم المخصب والطرد المركزي غير المركب قد نجت ويمكن استخدامها لتسريع تطوير سلاح نووي خلال سنة واحدة.
جهود إيران لإعادة بناء برنامجها النووي ستتم بلا إشراف دولي، بشكل يخالف التزاماتها بموجب معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية. خلال فترة الاتفاق النووي الشامل الذي أبرمته إيران مع الولايات المتحدة وقوى أخرى عام 2015، تحلّت طهران ببعض الشفافية مقابل السماح لها بالحفاظ على برنامجها النووي، وتخفيف العقوبات الاقتصادية الدولية الخانقة. لكن بعد انسحاب الرئيس ترامب من الاتفاق عام 2018، بدأت إيران تنكث التزاماتها بشكل تدريجي وممنهج، بما في ذلك تقليص وصول المفتشين إلى بعض المنشآت الخاضعة للرقابة.
بعد الهجمات الأخيرة، اتهم سياسيون وخبراء إيرانيون تعاون طهران السابق مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية بأنه مكّن “إسرائيل” والولايات المتحدة من جمع بيانات عن المواقع المستهدفة، فقرر البرلمان الإيراني تعليق التعاون، مما دفع الوكالة لسحب مفتشيها بهدف حمايتهم. خلال الفترة القادمة، لن تتوفر معلومات مستقلة عن حالة البرنامج النووي الإيراني.
في السابق، اعتمدت إيران على الحذر والشفافية لحماية استثمارها النووي وبقاء نظامها، لكن هجمات يونيو/ حزيران قلبت المعادلة. فبعد الهجمات، قد تكون طهران مستعدة لتحمل مخاطر أكبر للحفاظ على خياراتها النووية وضمان استمرار المسعى في الخفاء. وقد يتعزز هذا التحول في ظل تآكل الحماية المتقدمة التي كانت توفرها شبكة وكلاء إيران في الخراج. ومع نجاح إسرائيل في تحييد حزب الله وسقوط حليف إيران في سوريا، قد يستنتج المسؤولون الإيرانيون أن الخيار النووي هو خيارهم الوحيد.
حشد الدعم الشعبي
ستتشكل سياسة طهران النووية وفق تطورات المشهد السياسي الداخلي عقب الضربات الإسرائيلية والأمريكية. يبدي القادة الإيرانيون حساسية بالغة تجاه احتمال اندلاع اضطرابات داخلية.
صوّرت وسائل الإعلام التابعة للنظام نتائج الحرب التي استمرت 12 يومًا على أنها نصر للنظام، حيث تمكن من الصمود لمواجهة التحديات القادمة. وقد عززت الحرب قبضة النظام، حيث يواصل قادته تطبيق تكتيكات صقلوها خلال أزمات سابقة لضمان الاستقرار في ظل توقعات بفترة أكثر اضطرابًا.
في مواجهة تهديدات محتملة، شرع النظام مسبقًا في قمع الأصوات المعارضة. تعرض رموز المعارضة للتهديد، وبينهم الناشطة نرجس محمدي الحائزة على جائزة نوبل للسلام عام 2023، فيما تم اعتقال مئات آخرين، بعضهم بتهمة التجسس. وقد سرّعت السلطة القضائية المتشددة في إيران محاكمات المتهمين بالتعاون مع “إسرائيل”.
كما أُجبر نحو نصف مليون أفغاني، لجأوا إلى إيران خلال الحرب الطويلة في بلادهم، على العودة قسرًا، في ظل تصاعد حملة الترحيل التي انطلقت في وقت سابق من العام بالتزامن مع مطاردة المتعاونين مع “إسرائيل”.
رغم تأكيد المسؤولين الأمريكيين أن الضربات لم تستهدف تغيير النظام، يبدو أن المخطط الإسرائيلي كان أكثر طموحًا. فقد ذكرت صحيفة “واشنطن بوست” أن كبار المسؤولين الإيرانيين تلقوا مكالمات مجهولة الهوية بالفارسية تحثهم على التخلي عن النظام أو مواجهة الموت. كما أفادت صحيفة “طهران تايمز” الناطقة بالإنجليزية والتي تصدر في إيران، أن إسرائيل أخفقت في محاولة أوسع لاقتلاع رأس النظام باغتيال الرئيس الإيراني ورئيس البرلمان وعدد من المسؤولين الآخرين.
بدلًا من الإطاحة بالنظام الحالي أو تعطيله، يبدو أن الضربات الإسرائيلية أعادت إحياء ارتباط الإيرانيين العميق بأمتهم. ورغم خيبة الأمل الكبيرة التي يشعر بها كثير من الإيرانيين تجاه النظام، كما تجلى في موجات متكررة من الاحتجاجات الشعبية، إلا أن التطلع الواسع لمستقبل أفضل وقادة أكثر مسؤولية يتعايش مع إحساس عميق بالقومية والاستياء من الأعداء الخارجيين. وفي غياب أي حركة سياسية منظمة أو شخصية كاريزمية قادرة على حشد المعارضة غير المنظمة، يبقى النظام الحالي الخيار السياسي الوحيد المتاح.

بالرغم من قصر فترة النزاع، شمل القصف 27 من أصل 31 محافظة في البلاد، وكان عنيفًا ومُدمّرا ومرعبًا للإيرانيين. فرّ آلاف السكان من طهران بعد أن أصدر ترامب أمر إخلاء في منتصف الليل عبر وسائل التواصل الاجتماعي. تضامن الإيرانيون فيما بينهم خلال الحرب. في بعض الحالات، أدت الضربات الإسرائيلية إلى نتائج عكسية، مثل الهجوم على سجن إيفين الشهير في طهران، حيث يُحتجز العديد من المعارضين السياسيين، والذي كان الهدف منه دعم منتقدي النظام، لكنه أثار غضبًا شعبيًا واسعًا، شمل شخصيات معارضة بارزة، بسبب وقوع ضحايا من عائلات السجناء ومحاميهم.
وجد مسؤولو النظام تعزية في رد الفعل الشعبي، إذ تباهى المسؤول الحكومي المخضرم والمفاوض علي لاريجاني في مقابلة مطولة مع وسيلة إعلام إيرانية قائلاً: “على عكس توقعات العدو بالانقسام والانشقاق الداخلي، أظهرت الأمة الإيرانية، بغض النظر عن الانتماءات السياسية، وحدة لا مثيل لها. حتى بعض المعارضين للحكومة وقفوا خلف إيران”.
القيادة الحالية خبيرة في إذكاء المشاعر القومية، وقد فعلت ذلك خلال الحرب الإيرانية العراقية في ثمانينيات القرن الماضي. وبعد فترة وجيزة من انتهاء الحرب الأخيرة التي استمرت 12 يومًا، خرج خامنئي من مخبئه لقيادة مراسم دينية مهيبة، بدأت بأداء نشيد “يا إيران” الذي يعود إلى ما قبل الثورة، مع تعديل كلماته لتشمل رموزًا دينية. ترأس خامنئي المراسم في صمت، وبدا مذهولًا أو مُنهكًا، أمام جمهور صاخب.
أثار غياب خامنئي خلال الحرب وحديثه بصوت مبحوح بعدها تكهنات حول صحته واستمرار قيادته للنظام. بدأ حضوره في القمة يتلاشى، وقد يستخدم حكماء النظام الأزمة كـ”بروفة” لضمان تمرير الشعلة بشكل سلس إلى الجيل القادم عند حدوث الانتقال.
ومع تصاعد الصراع على النفوذ، ستعزز الحرب الأخيرة العلاقة التبادلية بين البنية الدينية للنظام والجيش. يهدف تعاونهم في إدارة الحرب وما تلاها من حالة عدم يقين إلى إيصال رسالة إلى خصوم النظام داخليًا وخارجيًا مفادها أنه سيصمد تحت الضغوط ويمنع صعود أي منافسين. ومن المتوقع أن يحد ذلك من فرص حدوث تغيير سياسي جوهري بعد وفاة خامنئي.
جزّ العشب
من وجهة نظر أعدائها التاريخيين، قد تبدو إيران الضعيفة فرصة مغرية. بالنسبة للإسرائيليين، يمثل إضعاف طهران إنجازًا بارزًا ضد أكثر أعدائهم عنادًا وخطورة. يرى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أن تقويض المكاسب التي بدا أن طهران حققتها بعد هجمات السابع من أكتوبر/ تشرين الأول عام 2023، وهو ما يُظهر مجددا هوسه المستمر بالتهديد الإيراني. وبالتزامن مع الضربات التي وجّهها إلى حزب الله وحماس، فقد مكّنه ذلك من استعادة موقعه السياسي بشكل دراماتيكي على الصعيد الداخلي.
وبعد سنوات من الجدل وتردد أمريكي متزايد في استخدام القوة العسكرية في الشرق الأوسط، شكّل استعداد الولايات المتحدة للانخراط في الحملة ضد إيران مصدر طمأنة مهم للإسرائيليين بأن واشنطن لا تزال مستعدة لتحمّل المخاطر من أجل تحقيق أهداف استراتيجية.
لكن تداعيات الضربات تثير حالة عدم يقين جديدة لإسرائيل. على عكس ترامب، لا يعتقد القادة الإسرائيليون أن البرنامج النووي الإيراني “تم القضاء عليه”، بل يتوقعون أن تسعى طهران لاستعادة قدراتها، وهم مستعدون لمواصلة الحملة لضمان عدم نجاحها. سهولة تحقيق إسرائيل أهدافها في يونيو/ حزيران قد تدفعها لبدء عملية شبه مستمرة لـ”جز العشب”، تهدف إلى إضعاف قدرات خصومها باستمرار، كما فعلت على مدى سنوات في لبنان وسوريا. تستمر تلك الحملات حتى اليوم، ويشير الإسرائيليون إلى نجاحاتهم في إضعاف حزب الله وسقوط نظام الأسد في سوريا.
لكن إطلاق حملة عسكرية طويلة الأمد تهدف إلى تقويض القدرات النووية الإيرانية يصطدم بعقبات جسيمة، خصوصًا فيما يتعلق بأي دور أمريكي محتمل. فقد شكك ترامب باستمرار في جدوى الانخراط في عمليات عسكرية طويلة الأمد في الشرق الأوسط. ووفقًا لما نقلته شبكة “إن بي سي”، فقد رفض خطة اقترحها قادته العسكريون كانت ستُلحق ضررًا أكثر استدامة بطموحات إيران النووية.
ويُقرّ الإسرائيليون بأن قدرتهم على البناء على نجاحهم العسكري تظل محدودة، بفعل التكاليف الباهظة والنقص الحاد في صواريخ الاعتراض الضرورية للدفاع الصاروخي، والتي تُعد حاسمة في حماية إسرائيل من الهجمات الإيرانية. هذا النقص كان أحد العوامل الرئيسة التي دفعت واشنطن للمطالبة بوقف إطلاق النار بعد مرور 12 يومًا فقط.
الذخائر والميزانيات ليست تحديًا يواجه إسرائيل وحدها؛ فالطلب المتزايد على الصواريخ الاعتراضية، إلى جانب الأصول العسكرية الأمريكية التي تم نقلها إلى المنطقة لدعم الدفاع عن “إسرائيل”، يُثقل كاهل الموارد الحيوية التي تحتاجها واشنطن في ساحات أخرى، وعلى رأسها آسيا. ويهدد استمرار الصراع بين “إسرائيل” وإيران بتقويض التزام إدارة ترامب بتركيز جهودها على حماية المصالح الأمريكية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، في وقت تتصاعد فيه القوة العسكرية الصينية بشكل مقلق.

في الأثناء، ينظر جيران طهران إلى العمليات العسكرية المتواصلة ضدها بوصفها خطرًا وجوديًا يُهدد الاستقرار ويُجسد منطق التصعيد. وفي ظل سعيهم الحثيث لتحويل اقتصاداتهم ومجتمعاتهم إلى مراكز عالمية في مجالات التكنولوجيا والسياحة والتجارة، فضّل السعوديون وقادة الخليج، خلال السنوات الأخيرة، سياسة استيعاب طهران بدلًا من مواجهتها، استنادًا إلى قناعة مفادها أن تهميشها إقليميا لن يؤدي إلا إلى تفاقم سلوكها العدائي.
وقد زادت الضربات الإسرائيلية والأمريكية ضد البرنامج النووي الإيراني من ترسيخ هذا التوجّه؛ إذ لا تشعر دول الخليج بالأمان إزاء وجود عملاق جريح على حدودها. ويستحضر قادتها مآسي الجمهورية الإسلامية الناشئة التي سعت لترسيخ مشروعها الثوري عبر الاغتيالات والتفجيرات، فضلًا عن شبح صدام حسين المهزوم والمتمرد الذي ظل يلقي بظلاله على المنطقة لعقود.
أما الفصل الأخير من الحرب، والمتمثل في وابل من الصواريخ الباليستية الإيرانية التي استهدفت القاعدة الجوية الأمريكية في قطر فقد كان في معظمه استعراضًا محسوبًا؛ إذ أبلغ الإيرانيون كلاً من القطريين والأمريكيين مسبقًا بالهجوم الذي لم يسفر عن أضرار تُذكر في منشأة أُفرغت بسرعة.
ومع ذلك، عمّق هذا الحدث مخاوف الخليج من إيران المعزولة والمستنزفة والمفعمة بالرغبة في الانتقام. وفي تصريح نشرته مجموعة الدراسات الجيوسياسية الفرنسية، قال أنور قرقاش، المستشار الدبلوماسي لرئيس دولة الإمارات: “لقد رأينا مرارًا أن التعرض للهجوم يغذي النزعة القومية. ولا يمكننا استبعاد هذا السيناريو”. وأضاف: “لا يمكن إعادة تشكيل المنطقة بالقوة؛ قد تُحل بعض القضايا، لكن ستُفتح قضايا أخرى مضادة. علينا أن ننظر في تاريخ الشرق الأوسط، وفي دروس العقدين الماضيين. القوة العسكرية ليست حلاً سحريًا”.
ورغم التعاون الأمني الوثيق بين “إسرائيل” ودول الخليج، لا يبدو أن احتمال هيمنة “إسرائيل” على النظام الإقليمي يتوافق مع طموحات دول الخليج. فاستراتيجية “إسرائيل” بشن ضربات استباقية في المنطقة تعد بمزيد من الاضطرابات التي تهدد خطط قادة الخليج الاقتصادية الطموحة. كما أعاق استمرار نتنياهو في الحرب على غزة، دون أهداف عسكرية واضحة، توسع اتفاقيات أبراهام التي توسطت فيها الولايات المتحدة وشهدت تطبيع بعض الدول العربية علاقاتها مع “إسرائيل”.
بدأ بعض المسؤولين الأمريكيين يعبّرون عن قلقهم من الاستراتيجية الإسرائيلية، لا سيما بعد هجومها على سوريا في يوليو/ تموز الماضي، حين استهدفت مبنى وزارة الدفاع وموقعًا قرب القصر الرئاسي.
بعد سقوط نظام الأسد أواخر 2024، احتضنت واشنطن وحلفاؤها الإقليميون الحكومة السورية الجديدة، رغم تحالف قادتها مع القاعدة في فترة سابقة. وترى دول الخليج وإدارة ترامب في دمشق ركيزة محتملة لنظام أمني إقليمي قائم على السيادة العربية.
وتستثمر تركيا، من جانبها، بشكل كبير استراتيجيًا واقتصاديًا في الحكومة الجديدة بدمشق، وترى في تحركات “إسرائيل” في سوريا محاولة متعمدة لزعزعة الاستقرار. وقد يؤدي تصاعد العنف الطائفي في سوريا، إلى جانب جهود “إسرائيل” لتقويض الحكومة الجديدة، إلى اندلاع منافسة جديدة وأكثر خطورة بين “إسرائيل” وتركيا، فضلاً عن فتح فرصة لطهران لإحياء نفوذها في سوريا وتفعيل شبكة ميليشياتها العابرة للحدود.
تستحق المحاولة
تآكل القوة الإيرانية يحلّ تحديًا طويل الأمد، لكنه يفتح الباب في الوقت أمام مخاطر جديدة تهدد الاستقرار الإقليمي. أمر واحد بات مؤكدًا: من غير المرجح أن تتحمّل واشنطن وحدها مسؤولية إدارة توازن القوى الهشّ الجديد في الشرق الأوسط.
يمتلك ترامب سجلًا طويلًا من انتقاد تورّط أسلافه المُكلف في المنطقة، ويستطيع اليوم أن يتباهى بتدخله “الناجح” وخروجه السريع من الصراع مع إيران، كتَكفيرٍ عن أخطاء من سبقوه. قال مسؤول في إدارة ترامب لم يُكشف عن اسمه لموقع “أكسيوس” بعد الضربات الأمريكية في يونيو/ حزيران: “هو ليس جيمي كارتر”. وفي تصريحات من داخل البيت الأبيض، استعاد ترامب ذكرى عملية إنقاذ الرهائن الفاشلة عام 1980 في عهد كارتر، ليقارنها بنجاح ضرباته الجوية، قائلاً: “كانت الصين وروسيا تراقبان كل شيء. الجميع كان يُتابع. لدينا أفضل المعدات، وأفضل الكوادر، وأقوى جيش في العالم”.
رغم كل ذلك، لم يتم القضاء على البرنامج النووي الإيراني بشكل كامل. تحقيق هذا الهدف بشكل نهائي يتطلب إما نهجا دبلوماسيا أو تغيير النظام، ويبدو الخيار الأول فقط قابلا للتحقيق. لطالما أصرّ ترامب على قدرته على التفاوض على صفقة “أفضل” من خطة العمل الشاملة المشتركة لعام 2015. وبناءً على تصريحاته العلنية، يبدو مستعدًا للنظر في علاقات دبلوماسية واقتصادية أكثر مرونة مع طهران. وحتى لو لم تُؤخذ هذه المبادرة على محمل الجد، فإن مجرد تقديمها يُسلّط الضوء على الهوّة بين طموحات القيادة الإيرانية وتطلعات شعبها.
صياغة إطار دبلوماسي جديد لإدارة أزمة إيران النووية لن تكون مهمة سهلة. فقد ترك وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، الباب مواربًا أمام المفاوضات، لكنه شدد على أن الضربات الأخيرة جعلت الطريق نحو أي اتفاق أكثر وعورة. يشعر المسؤولون الإيرانيون بالاستياء من استخدام جولة مفاوضات كانت مقررة سلفًا كغطاء لتخديرهم قبل تنفيذ الهجوم الإسرائيلي المفاجئ، وقد أشار بعضهم إلى أن اتخاذ إجراءات لبناء الثقة سيكون ضروريًا لإقناع طهران بالعودة إلى طاولة الحوار.
أما شركاء واشنطن الأوروبيون، فقد لعبوا دورًا نشطًا في عهد إدارة بايدن، حيث طالبوا، رغم التردد الأمريكي، بأن يُدين مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية إيران بسبب عدم تعاونها وامتناعها عن الإجابة على أسئلة تتعلق بأنشطتها النووية. ويمكن للدول الأوروبية أن تضطلع بدور مفيد اليوم أيضًا، من خلال تفعيل ما يُعرف بـ”آلية العودة التلقائية للعقوبات” ضمن خطة العمل الشاملة المشتركة، التي لا تزال إيران وهذه الدول أطرافًا فيها من الناحية التقنية.
وتُعد هذه الآلية واحدة من بنود الأمان التي تضمنها اتفاق 2015؛ إذ تسمح لأي طرف في الاتفاق بإعادة فرض مجموعة من العقوبات الاقتصادية الأممية على إيران. ومع ذلك، فإن انعدام الثقة العميق لدى طهران تجاه الدول الغربية، إلى جانب قدرة النظام الإيراني على الصمود في ظل ظروف قاسية، يعني أن فعالية هذه الأداة في تقييد القيادة الإيرانية المتصلبة ستظل محدودة.
الدبلوماسية ليست حلاً بحد ذاتها، لكن بذل جهد مشترك لجذب طهران إلى حوار جاد حول مستقبل برنامجها النووي يمكن أن يساعد على كسب الوقت، ويوسع من الانقسامات الحتمية داخل النظام الإيراني، ويعزز الرقابة حول المنشآت والأنظمة التي قد تؤدي إلى صنع السلاح النووي.
يتشكل حاليا نظام إقليمي جديد لا تحتل فيه إيران ووكلاؤها دورا مركزيا. ورغم أن هجوم يونيو/ حزيران نُفّذ ببراعة، فإن منع امتلاك إيران قنبلة نووية يتطلب أكثر من مجرد بنك قوي من الأهداف، كما أن نظامًا ثوريًا لا يمكن إخضاعه بالقوة إلى الأبد.
ليس لدى القادة الإيرانيين سبب يذكر للثقة في الحوافز الأمريكية للحوار، لكن قد يمكن لترامب استغلال ازدرائه للسياسة التقليدية لتغيير المشهد. منحه استعداده للتدخل دعما للعملية العسكرية الإسرائيلية في إيران مصداقية فريدة ومساحة للمناورة.
قبل حرب يونيو/ حزيران، كان مفاوضون أمريكيون وإيرانيون يناقشون أفكارًا مبتكرة لتجاوز مشكلة تخصيب اليورانيوم، وهي نقطة الخلاف الجوهرية عبر عقود من النزاع والمفاوضات بشأن البرنامج النووي الإيراني.
من بين المقترحات التي ذُكرت، إمكانية التخصيب خارج الأراضي الإيرانية، بالإضافة إلى استثمارات أجنبية في منشآت الطاقة النووية المدنية، والتي قد توفر منفذا لحل هذه المعضلة خاصة إذا اقترنت بتخفيف العقوبات. كما يجب أن يتضمن أي اتفاق قيودًا على تطوير الصواريخ الإيرانية والسماح للمفتشين بالوصول الكامل للمنشآت بهدف التحقق من التزام إيران بتعهداتها.
سيكون من الصعب على المسؤولين الإيرانيين قبول مثل هذه الشروط رغم تداعيات الحرب. لتعزيز مصداقية أي مقترح، ينبغي لترامب الاستمرار في التأكيد على رغبته في رؤية مستقبل أكثر إشراقًا لإيران وعلاقة مختلفة بين البلدين. وحتى إذا لم تنجح هذه المبادرة، فإن دعوة الولايات المتحدة لعلاقة دبلوماسية واقتصادية جديدة مع طهران قد تزرع بذور انقسام استراتيجي داخل النظام في وقت الأزمات.
مع تراجع القوة والنفوذ الإيرانيين، وتركز الأولويات الأمريكية على تحديات صعود الصين وموقف روسيا العنيد، قد تبدو اللامبالاة الخيار الأكثر جاذبية لواشنطن. لكن هذا سيكون خطأ فادحًا.
يقف العالم على شفا مرحلة خطيرة من الانتشار النووي، مما يهدد بتوسيع نطاق المخاطر الكارثية جغرافيًا. ومن الضروري وضع مسار دبلوماسي يعيد فرض الرقابة على النشاط النووي الإيراني ويخلق منفذا للخروج من دوامة التصعيد المتوارية خلف الهدوء الهش الذي أعقب الحرب الأخيرة.
المصدر: فورين أفيرز