ذكرت مؤخرًا وكالة “رويترز” أن شركات النفط الصينية المستقلة، بدأت بتوسيع حجم استثماراتها في العراق، وتخطط لمضاعفة إنتاجها إلى 500 ألف برميل يوميًا حتى عام 2030. ووفقًا للوكالة، فإن هذه الخطوة تُعد تحولًا في هيمنة الشركات الصينية على قطاع النفط العراقي، مستفيدةً من عقود تقاسم الأرباح التي تبنّتها بغداد مؤخرًا بدلًا من عقود الرسوم الثابتة. تأتي هذه الاستثمارات في وقت تنسحب تدريجيًا كبريات الشركات العالمية مثل “إكسون موبيل” و”شل” من السوق العراقي.
ما طبيعة الاستثمارات الصينية الجديدة في العراق؟
وفَّر انسحاب الشركات النفطية الأمريكية والغربية من سوق النفط العراقي فرصة كبيرة للشركات الصينية للاندفاع وشغل مكان لها في هذه الدولة التي تُعد ثاني مصدر للبترول في منظمة أوبك. فقد وقّعت شركة “جيو جايد بتروليوم” في أيار/ مايو الماضي اتفاقًا للاستثمار في مشروع جنوب البصرة بقيمة 848 مليون دولار، يتضمّن تطوير حقل طوبة وبناء مصفاة ومجمّع بتروكيماويات ومحطّتي طاقة. وفي السياق ذاته، وقّعت شركة “القرنين بتروليوم”، إحدى تشكيلات شركة “زنهوا الصينية”، على عقد لتوسيع الرقعة الاستكشافية من الرقع الحدودية الواعدة بالنفط والغاز، والتي تقع ضمن الحدود الإدارية لمحافظة النجف بالقرب من الحدود العراقية السعودية، وحاليًا تقوم شركة زنهوا الصينية بحفر 4 آبار استكشافية هناك. كما حصلت الشركة “جيو-جايد” الصينية في ذات الشهر على عقد تطوير حقل نفطي وبناء مصفاة ضخمة ومجمّع بتروكيميائيات بطاقة 620 ألف طن سنويًا، إضافةً إلى محطات طاقة كهربائية. ويتّجه المنتجون الصينيون المستقلون الأصغر حجمًا إلى رفع إنتاجهم في العراق إلى 500 ألف برميل يوميًا بحلول عام 2030.
وبشكل عام، نجحت شركات صينية غير معروفة، مثل شركة “جيو-جايد بتروليوم” ومجموعة “يونايتد إنرجي” ومجموعة “تشونغمان للبترول والغاز الطبيعي” ومجموعة “أنتون لخدمات حقول النفط”، بتحقيق نجاحات مذهلة العام الماضي، عندما فازت بنصف جولات تراخيص التنقيب في العراق.
واللافت أن هذه الاستثمارات تأتي تزامنًا مع تفعيل اتفاق “النفط مقابل المشاريع” بين العراق والصين، والذي أُعيد إحياؤه بعد جمودٍ طال ست سنوات نتيجة ضغوط أمريكية. وبموجب هذا الاتفاق، يقوم العراق بتصدير 150 ألف برميل يوميًا، مقابل مشاريع تنموية يقوم بها الجانب الصيني في البنية التحتية العراقية، تتضمّن بناء مدارس ووحدات سكنية ومتنزهات. لكن مع ذلك، لم ينجح هذا الاتفاق حتى الآن سوى ببناء ما يقارب الألف مدرسة فقط، بسبب الضغوط الأمريكية على الجانب العراقي.
وتستثمر شركة “جيو-جايد بتروليوم” في مشروع جنوب البصرة، لزيادة إنتاج حقل الطوبة في جنوب العراق إلى 100 ألف برميل يوميًا، بالإضافة إلى بناء مصفاة بطاقة 200 ألف برميل يوميًا. فيما خصّصت نفس الشركة 848 مليون دولار، لإحياء الإنتاج في حقل متوقّف ليصل إنتاجه إلى 40 ألف برميل يوميًا بحلول منتصف عام 2027 تقريبًا، إضافةً إلى إنشاء مجمّع بتروكيماويات ومحطّتين لتوليد الطاقة الكهربائية.
من ناحيتها، تأمل شركة “تشنهوا للنفط” في مضاعفة إنتاجها إلى 250 ألف برميل يوميًا بحلول عام 2030. وشركة “تشنهوا للنفط” من الشركات الصغيرة التي تديرها الدولة الصينية، حيث إنها دخلت في شراكة مع “مؤسسة البترول الوطنية الصينية” في صفقة بقيمة 3 مليارات دولار لتطوير حقل الأحدب النفطي في عام 2008.
أما شركة “تشونغمان بتروليوم”، فقد خطّطت لإنفاق 481 مليون دولار على منطقتي امتياز “الفرات الأوسط” و”شرق بغداد”، اللتين فازت بهما في عام 2024.
دوافع التوسع الصيني في سوق النفط العراقي
يشير مسؤولون تنفيذيون صينيون إلى أن هذه الشركات المستقلة، والتي غالبًا ما يديرها خبراء سابقون في شركات الدولة الصينية الكبرى، قادرة على تطوير الحقول النفطية في فترات زمنية قصيرة لا تتجاوز ثلاث سنوات، في الوقت الذي تحتاج الشركات الغربية إلى ما يقارب من 5 إلى 10 سنوات. بالإضافة إلى أن هذه الشركات تقدّم تمويلًا تنافسيًا، وتقلّص تكاليف الإنتاج لاعتمادها على العمالة والمعدّات الصينية. يتقاطع هذا مع رغبة بغداد في رفع إنتاجها إلى أكثر من 6 ملايين برميل يوميًا بحلول عام 2029.
وتُعزّز الصين، من خلال هذه الاستثمارات، من نفوذ شركاتها في العراق، إذ تستحوذ حاليًا شركة CNPC الحكومية الصينية وحدها على أكثر من نصف الإنتاج الحالي للعراق، وبالتأكيد فإن نفوذ هذه الشركات سيعقبه، لا محالة، نفوذٌ سياسي في هذا البلد المهم.
عراقيًا، تكتسب الشركات الصينية أفضلية على مثيلاتها الغربية، بحسب وجهة نظر العراق، لعدم اقترانها بشروط سياسية، ولا تتدخل في السياسة العامة للدول التي تستثمر بها، بالإضافة إلى أنها لا تعير اهتمامًا يُذكر بطبيعة الحكم في البلاد التي تستثمر بها.
العراق، من جانبه، يُبرّر الاتجاه إلى الشركات الصينية، بأنه ناتج عن الانسحاب المستمر للشركات الغربية من سوق النفط العراقي، الأمر الذي يمكن أن يؤثر على عملية الإنتاج النفطي. ويعتقد بعض المسؤولين العراقيين أن هذه الشركات الصينية الصغيرة معروفة بسرعة تنفيذها للمشاريع، والتزامها الصارم بالأطر الزمنية، وقدرتها العالية على تحمّل العمل في المناطق التي تواجه تحديات أمنية، مؤكدين أن ممارسة الأعمال التجارية مع الصينيين أسهل بكثير وأقل تعقيدًا مقارنةً بالشركات الغربية.
من جانبها، لا تبدو الشركات الصينية قلقة من الوضع الأمني في العراق، كون الفصائل التي تهدد الشركات الغربية لا يمكنها فعل الشيء ذاته مع الشركات الصينية، خاصةً وأن الصين تمتلك علاقات وثيقة مع إيران، والأخيرة قادرة على الضغط على الفصائل العراقية للحفاظ على أمن الاستثمارات الصينية في العراق.
أما من الجانب الصيني، فإن هذه الاستثمارات تتماشى مع توسّع بكين بنفوذها الجيوسياسي والاقتصادي في مناطق حيوية كالعراق، والذي يُعتبر مصدرًا موثوقًا لإمدادات الطاقة. وتطمح الصين إلى جعل استثماراتها في العراق طويلة الأمد، في خضم الاضطرابات التي تعتري السوق النفطي العالمي، لا سيما وأن الصين لديها منحى تصاعدي في استهلاكها للطاقة.
من جانبٍ آخر، فإن سيطرة الصين على السوق النفطي العراقي، والذي يُعتبر ثاني أكبر مصدر للنفط في منظمة أوبك، تندرج ضمن تنافسها مع الولايات المتحدة في السيطرة على المنطقة الغنية بالنفط، وتُفَوّت بذلك الفرصة على الولايات المتحدة للإضرار بالاقتصاد الصيني.
ومن وجهة نظر الصين، فإن التحول العراقي من اتفاقيات الرسوم الثابتة إلى العقود القائمة على تقاسم الأرباح، يُعتبر صيغةً أكثر ربحية للصين، لأنها في هذه الحالة ستكون شريكةً في النفط العراقي، وليست مجرد شركات إنتاج فقط.
المآخذ والتحفظات
يبدي كثيرٌ من المراقبين خشيتهم من الاعتماد المُفرِط من قبل العراق على الشركات الصينية في المجال النفطي العراقي، فهي حالة قد تُعيق إدخال التكنولوجيا المتقدمة التي تمتلكها الشركات النفطية الغربية. كما أن نهج الشركات الصينية، التي تعتمد على عمالتها ومعدّاتها الصينية، يجعل من عملية توفير فرص عمل للعراقيين أمرًا متعذّرًا. بالإضافة إلى أن الشركات الصينية، وبسبب رغبتها في تقليل كلف الإنتاج، ربما تفعل ذلك على حساب البيئة وصحة السكان.
من جانبٍ آخر، قد يؤدي التوسّع الكبير للشركات الصينية إلى اعتماد العراق بشكل مفرط عليها، ما قد يمنح الصين نفوذًا سياسيًا واقتصاديًا كبيرًا في العراق على المدى الطويل. إضافةً إلى أن هنالك دائمًا قلقًا من غموض بعض الشروط في العقود المُبرمة، وما إذا كانت تخدم المصالح الوطنية للعراق بشكل كامل، خاصةً فيما يتعلق بحصص الإنتاج، وتوزيع الأرباح، والالتزامات البيئية.
هذا كله يجعل المراقبين يُبدون قلقهم الشديد من الشفافية والمعايير الفنية التي تعمل بها الشركات الصينية، ناهيك عن إصرارها على الاعتماد الكبير على الموظفين الصينيين، وإحالة العراقيين إلى وظائف بأجور أقل. وهناك تخوفات من أن فوز هذه الشركات الصينية المغمورة لم يكن على أساس الكفاءة أو التقنية، بل عبر مسارات فساد تتضمّن رشى أو علاقات مشبوهة مع مسؤولين محليين.
ما يجعل الشركات الصينية الصغيرة تندفع إلى السوق النفطي العراقي، هو أنها لا تُلقي بالًا لموضوع سمعة الشركة عالميًا في المجال النفطي، في حال أخلّت في عقودها مع العراق. وهذا ما يُفسّر الشكوك التي يُبديها بعض المراقبين، من استعداد هذه الشركات لإنجاز تطوير الحقول النفطية في مدد قصيرة، وتكاليف إنتاج منخفضة، مما يجعل الأمر غير مفهوم أحيانًا. وربما يُعزى ذلك إلى أنها لا تُعير اهتمامًا بالمعايير الدولية للإنتاج وضمان السلامة البيئية في مناطق الإنتاج، وقدرة هذه الشركات على استعمال أساليب تتجنبها الشركات النفطية الكبرى، مثل التعامل مع بيئة فاسدة كما هو الحال في العراق، وخبرتها في التعامل مع التحديات التي يمكن أن تفرضها الفصائل المسلحة داخل العراق على هذه الشركات.
واشنطن تراقب
بحكم أن الحكومة العراقية الحالية هي حكومة منبثقة من أحزاب “الإطار التنسيقي” المعروف بقربه من إيران ومن المحور الشرقي المناوئ للولايات المتحدة بشكل عام، فهي حريصة على استبدال الاستثمارات الأمريكية والغربية باستثمارات صينية، وبمباركة إيرانية. ففي الفترة الأخيرة، لاحظنا أن سلسلة من الاعتداءات طالت شركات أمريكية وغربية في كردستان، وإنهاء الشركات الغربية لعقودها في حقول النفط بوسط وجنوب العراق ناتج عن البيئة الأمنية غير المواتية لعملها.
كل ما يجري الآن في السوق النفطي العراقي لا تنظر إليه واشنطن بعين الرضا، بل يُفسّر البعض أن الانسحاب السريع للشركات الغربية من العراق جاء بنصائح أمريكية، حتى لا تكون وسط معركة يمكن أن تندلع بين الفصائل الموالية لإيران وبين قوات عراقية مدعومة غربيًا مثل “جهاز مكافحة الإرهاب”، الأمر الذي يمكن للفصائل المسلحة أن تستخدم وجود الشركات الأمريكية في العراق كرهينة في معركتها ضد الأميركيين.
أمريكيًا، فلربما تُفسّر الإدارة الأمريكية الانعطافة العراقية تجاه الصين في السوق النفطي بأنها بداية دخول العراق في المحور الشرقي بقيادة الصين، وبالتالي فإنها قد تُقدِم على فرض عقوبات أو تعقيدات لا تصبّ في صالح الاقتصاد العراقي. وبدلًا من أن تساهم الشركات الصينية في رفع إنتاج النفط العراقي، ستكون سببًا في خنق الاقتصاد العراقي.
وعلى ما يبدو، فإن الصين تدرك أن العقود التي أُبرمت مع العراق لم تكن برضى واشنطن، ولأجل ذلك، لم تسمح لشركاتها النفطية الحكومية الكبرى بالاستثمار في العراق خلال الفترة الأخيرة، إنما سمحت للشركات الصغيرة والمستقلة التي تُبدي استعدادًا عاليًا لتحمّل المخاطر الناجمة عن العمل في بيئة غير آمنة مثل العراق.
بحكم أن الحكومة العراقية الحالية هي حكومة منبثقة من أحزاب “الإطار التنسيقي” المعروف بقربه من إيران ومن المحور الشرقي المناوئ للولايات المتحدة بشكل عام، فهي حريصة على استبدال الاستثمارات الأمريكية والغربية باستثمارات صينية وبمباركة إيرانية. ففي الفترة الأخيرة، لاحظنا أن سلسلة من الاعتداءات طالت شركات أمريكية وغربية في كردستان، وإنهاء الشركات الغربية لعقودها في حقول النفط بوسط وجنوب العراق ناتج عن البيئة الأمنية غير المواتية لعملها.
كل ما يجري الآن في السوق النفطي العراقي لا تنظر إليه واشنطن بعين الرضا، بل يُفسّر البعض أن الانسحاب السريع للشركات الغربية من العراق جاء بنصائح أمريكية، حتى لا تكون وسط معركة يمكن أن تندلع بين الفصائل الموالية لإيران وبين قوات عراقية مدعومة غربيًا مثل “جهاز مكافحة الإرهاب”، الأمر الذي يمكن للفصائل المسلحة أن تستخدم وجود الشركات الأمريكية في العراق كرهينة في معركتها ضد الأميركيين.
أمريكيًا، فلربما تُفسّر الإدارة الأمريكية الانعطافة العراقية تجاه الصين في السوق النفطي بأنها بداية دخول العراق في المحور الشرقي بقيادة الصين، وبالتالي فإنها قد تُقدِم على فرض عقوبات أو فرض تعقيدات لا تصبّ في صالح الاقتصاد العراقي. وبدلًا من أن تُساهم الشركات الصينية في رفع إنتاج النفط العراقي، ستكون سببًا في خنق الاقتصاد العراقي.
وعلى ما يبدو، فإن الصين تُدرك أن العقود التي أُبرمت مع العراق لم تكن برضى واشنطن، ولأجل ذلك لم تسمح لشركاتها النفطية الحكومية الكبرى بالاستثمار في العراق خلال الفترة الأخيرة، إنما سمحت للشركات الصغيرة والمستقلة التي تُبدي استعدادًا عاليًا لتحمّل المخاطر الناجمة عن العمل في بيئة غير آمنة مثل العراق.