وضعت حليمة عباس حُزمةً من أوراق “التمليكة”، وهي نبات بريّ ينمو في موسم هطول الأمطار، في وعاء تحت نار أشعلتها من الحطب لإعداد طعام لصغارها الثلاثة الذين أنهكهم الجوع، دون أن تملك مالًا كافيًا لشراء الذرة الرفيعة لصُنع العصيدة التقليدية التي تُؤكل مع الطعام الذي أعدّته.
تسكن حليمة في حي “السلام” غرب “الدلنج” بولاية جنوب كردفان، في منزل متهالك مُشيَّد من القش، تنتظر زوجها الذي انقطع التواصل معه منذ أشهر بعد مغادرته المدينة بحثًا عن عمل يُطعم أطفاله، دون أن تعرف مصيره، حيث لا تملك -وفق تعبيرها- غير “طولة البال”، أي الصبر.
حملة تطوعية لمناصرة سكان #الدلنج و #كادوقلي في مواجهة الحصار الخانق
أطلقت حملة رؤية جيل مبادرة تهدف إلى تسليط الضوء على ما تعانيه المدينتين والدعوة لتدخل عاجل من الجهات الإنسانية والدولية. pic.twitter.com/Hf44MrumWB— ديامية (@deiamya) August 7, 2025
حصار مطول
وقالت هذه السيدة، لـ “نون بوست”، أنها اعتمدت على شقيقها الأكبر في تأمين الغذاء لأطفالها، لكن سرعان ما تآكلت مدّخراته في ظل ارتفاع السلع وانعدام فرص العمل، حيث بات مثل الآخرين ينتظر الطعام الذي يُعدّه المتطوّعون في المطابخ الجماعية.
وأشارت إلى أنها زرعت مساحة صغيرة بمحصول الذرة الرفيعة، حتى تذهب بصورة شبه يومية إلى الحقل لإزالة الحشائش الضارة، والتقاط النباتات البرية الصالحة للأكل، وجلب الحطب، دون أي مساعدة من أقاربها الذين أيضًا يحتاجون إلى يد العون.
انتهت جهود المتطوعين في غرف الطوارئ التي تُدير المطابخ الجماعية إلى جمع أموال، دون أن تجد سلعًا لشرائها لتقديم الغذاء إلى الجوعى.
وتحتاج حليمة إلى نهاية العام لحصاد المحصول، حيث تُعدّ الفترة التي تهطل فيها الأمطار من يوليو/ تموز إلى أكتوبر/ تشرين الثاني، والتي يُطلق عليها موسم العجاف أو الجفاف، أكثر الفترات التي ينعدم فيها الأمن الغذائي، نظرًا إلى أنها تأتي بعد أن تكون الأسر قد استنفدت جميع المحاصيل التي حُصدت.
وينطبق حال حليمة عباس على معظم سكان المدينة المحرومة من الامدادات، حيث تمنع مليشيا الدعم السريع، المسيطرة على “الدبيبات”، الواقعة على بعد 186 كيلومترًا من مدينة “كادقلي” عاصمة ولاية جنوب كردفان، وصول المساعدات الإنسانية والسلع والأدوية إلى معظم أنحاء الولاية.
ويتطلّب وصول السلع والإغاثة من شمال كردفان، التي تملك خطوط إمداد سالكة إلى وسط وشرق السودان، إلى “الدلنج” ومن ثم إلى “كادقلي”، العبور عبر “الدبيبات” التي أحالتها المليشيا إلى مدينة أشباح، تُرتكب فيها جميع أشكال الانتهاكات ضدّ النساء، اللواتي تقوم “الدعم السريع” باختطافهنّ من مناطق أخرى، واقتيادهنّ إلى المدينة.
تضييق الخناق
وبعد أن شاركت “الحركة الشعبية ــ شمال” في القتال إلى جانب الجيش ضد “الدعم السريع” في يناير/ كانون الثاني 2024، عادت بعد تحالفها مع المليشيا في تحالف “تأسيس” إلى تضييق الخناق على “الدلنج”، رغم أنها معقل عرقية “النوبة” التي ينحدر منها قادة وجنود التنظيم المسلح.
وتُسيطر “الحركة الشعبية” على القرى والتجمّعات السكنية حول “كادقلي” و”الدلنج”، حيث تمنع صغار التجار والمزارعين من إدخال المحاصيل إلى أسواق المدينتين، متّخذةً من الجبال مواقع حصينة تمنع تقدم الجيش إليها.
ولم تكتفِ الحركة بذلك، حيث قصفت “الدلنج” قبل عدة أشهر تمهيدًا للهجوم البري الذي شنّته المليشيا أمس الخميس، رغم أنها تحالفت بصورة غير رسمية مع الجيش في مطلع 2024 لطرد “الدعم السريع” من المدينة، والآن تُمارس ذات أساليبها الإجرامية المتمثّلة في تجويع المدنيين.
إن الوضع في “الدلنج” و”كادقلي” عبارة عن كارثة إنسانية، حيث يواجه أكثر من مليوني مدنيّ خطر فقدان الغذاء والمياه النظيفة والدواء، في ظلّ الحصار، وفقًا لـ “مشروع عدالة”، وهو مشروع شبابي يدافع عن حقوق الإنسان ويكشف الانتهاكات في جنوب كردفان.
وتفاقم الوضع في “كادقلي” بعد قطع “الدعم السريع” و”الحركة الشعبية” طريق الإمداد من سوق “النعام” في الحدود بين السودان وجنوب السودان، بعد سيطرتهما على منطقة “أم عدارة” في أوائل أبريل/ نيسان السابق.
#السودان | يعاني إنسان كادقلي اليوم معاناة قاسية، في ظل حصار المدينة، فبعد يومٍ كاملٍ من الوقوف في صفوف الذرة، لا يعود إلا بكميات قليلة.
بسبب شح الوقود وتوقف المطاحن عن العمل، اضطر المواطنون للعودة إلى الوسائل البدائية في طحن الذرة باستخدام “المرحاكة”، في مشهد يعكس قسوة الحياة… pic.twitter.com/mNiONEgUeL— Sudan News (@Sudan_tweet) August 5, 2025
لا يوجد شيء.. حرفيًا
وأظهر تقييم أوضاع 450 أسرة نازحة تقيم داخل “كادقلي”، أجراه “المجلس الدنماركي للاجئين” و”المجلس النرويجي للاجئين”، ونُشر في 22 يوليو/ تموز السابق، عدم قدرة 96% من المشاركين في التقييم على تلبية احتياجاتهم الأساسية بسبب فقدان الأصول، وغياب شبكات الدعم، وتدهور سبل العيش.
يضطر الأطباء في المستشفى إلى التخدير الموضعي في إجراء العمليات الجراحية، بما في ذلك الحالات الحرجة، باستخدام مادة “الكيتامين”، وهي مادة تُسبب آثارًا جانبية خطيرة تصل إلى الوفاة.
وأبلغ 54% من الأسر عن مخاطر تتعلّق بالحماية، مثل انعدام الأمن، والفصل الأسري، وعمالة الأطفال، فيما أفادت 74% من الأسر بوجود طفل يعاني من سوء التغذية، بينما تفتقر 64% من الأسر إلى المأوى.
يوضّح التقييم مدى تردي الأوضاع الإنسانية في المدينة، التي يقف سكانها في طوابير طويلة من أجل الحصول على كمية شحيحة من الذرة الرفيعة، من مخازن يتحكّم الجيش في آلية توزيعها، حيث قام الأخير بنقل جميع السلع التي يملكها عناصره من السوق الرئيسي إلى قاعدته العسكرية.
قصص من بلادي #sudan
في كادقلي ..
قبيل وحدة بتحكي لينا وبتبكي انو جارتها طلعت من البيت من الصباح عشان تفتش لاولادها لقمة يتناولوها واتاخرت شديد في الرجعة قام اكبر ليها طفل شال الكيس وربطو في زرار بنطلونو وطلع شجرة التبلدي يلقط عفوص ( اوراق شجرة التبلدي ) لاخوانو الصغار عشان…— Sadeia (@sadiea8) August 8, 2025
ونظّمت نساء احتجاجات على تزايد نطاق أزمة الجوع في “كادقلي”، اعتقل الجيش بعض المشاركات فيها قبل أن يُطلق سراحهن لاحقًا؛ أعقبها اندلاع مواجهات مسلحة داخل السوق بين الجيش وعناصر جماعة مسلّحة مؤيدة له في النزاع القائم، وذلك بعد فتح أبواب المحال التجارية بالقوة، والسماح للمواطنين بالاستيلاء على دقيق القمح والذرة.
وأصبحت المرافق الصحية غير قادرة على تقديم الحد الأدنى من الخدمات العلاجية، فيما توقفت جميع أنواع الفحوصات الطبية، كما انعدمت من “مستشفى كادقلي التعليمي” ــ المرفق الرئيسي في المدينة ــ المحاليل الوريدية، وأدوية الملاريا، والمضادات الحيوية، والمستلزمات الأساسية مثل المعقّمات والقطن الطبي، وهو ما يُعطّل تقديم الرعاية الأساسية حتى للحالات الطارئة.
ويضطر الأطباء في المستشفى إلى التخدير الموضعي في إجراء العمليات الجراحية، بما في ذلك الحالات الحرجة، باستخدام مادة “الكيتامين”، وهي مادة تُسبب آثارًا جانبية خطيرة تصل إلى الوفاة، خصوصًا في حال عدم توفّر الأوكسجين، مما أدّى إلى حدوث حالات وفاة.
أطفال يبحثون عن بقايا الطعام المتناثرة على الأرض حول رماد التكية، بعد نفاد الطعام منها في كادقلي بولاية جنوب كردفان، التي تحاصرها مليشيا الدعم السريع والحركة الشعبية – جناح الحلو.#السودان #نبأ_السودان
تابع قناة نبأ السودان في واتساب:https://t.co/JMBP3VokDt pic.twitter.com/FBzuAtB4te— نبأ السودان – Sudan Nabaa (@sudannabaa) August 5, 2025
مسؤولية مشتركة
يقول الصحفي في جنوب كردفان، المعتصم التجاني حمودة، إن الوضع في “الدلنج” و”كادقلي” يتلخّص في أنه مأساة حقيقية، حيث انعدمت معظم السلع والخدمات الصحية بسبب الحصار المتطاول، وإغلاق جميع المنافذ التي كانت تمدّ المدينتين بالسلع الشحيحة.
ورغم أن حمودة يُلقي المسؤولية الأكبر في الجوع المنتشر في المدينتين على الحصار، إلا أنه أوضح لـ “نون بوست” بأن الجيش نقل السلع من سوق “كادقلي” إلى مخازن في مواقعه العسكرية لأسباب غير مُعلنة، مما ساهم في شُح المواد الغذائية وارتفاع أسعارها.
وأشار إلى أن الجيش في “الدلنج” اعتقل تجارًا كانوا يجلبون سلعًا تُهرّبها مجموعات مسلّحة بواسطة الإبل والسيارات الصغيرة جدًا، بذريعة مخالفة الأسعار التي وضعتها الحكومة المحلية. كما أن هذه المجموعات تعرّضت لسلسلة هجمات من “الدعم السريع” و”الحركة الشعبية”، مما اضطرها إلى وقف أنشطتها.
وأفاد حمودة بأن السلع المتبقية في “كادقلي” و”الدلنج” على وشك النفاد، فيما انتهت جهود المتطوّعين في غرف الطوارئ التي تُدير المطابخ الجماعية إلى جمع أموال، دون أن تجد سلعًا لشرائها لتقديم الغذاء إلى الجوعى.
وذكر رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش، عبد الفتاح البرهان، قبل يومين، استمرار جهود فك الحصار عن “كادقلي” و”الدلنج”، إضافةً إلى “بابنوسة” في غرب كردفان و”الفاشر” بشمال دارفور؛ لكن الأمر يتطلّب تحرّكًا عسكريًا مهولًا لتخطي المليشيا في العديد من المدن والقرى.
وعادةً ما يَعرقل هطول الأمطار التحركات العسكرية في البيئات ذات الأراضي الزراعية، مثل منطقة كردفان الكبرى، لفك الحصار، حيث إن أي تحرّك عسكري ضخم يحتاج إلى توقّف الأمطار أولًا، ولا يملك المحاصرون ترف الانتظار.
لا يقتصر نقص الغذاء جرّاء الحصار على الجوع فقط، بل يمتدّ إلى التماسك الأسري، واللجوء إلى اتخاذ تدابير متطرفة في مواجهته، منها زواج الطفلات، وعمالة الأطفال، وانتشار النهب، وتزايد الجماعات المسلحة.