“عيني فيه وتفوه عليه” — إن كنتَ سوريًا، فغالبًا مرّ عليك هذا المثل. موجزٌ فصيح، يخطر في بالي بعد كل سخط يُشعله كلام ممثل سوري ما في السياسة أو قضايا المجتمع. ينتشر الكلام، ويشتم الناس القول والقائل، وكنت أعجب: إن كان شخصًا أحمق أو كاذبًا، فلماذا كل هذا الاهتمام به؟
ربما راودك السؤال كذلك، وتعتقد أنها آفة السوشيال ميديا، لكن التفسير أوسع من ذلك. لسنا المجتمع الأول ولا الأخير الذي يُصغي لصوت الفنانين، وسأسميهم هنا “فنانين” تجاوزًا لإيصال فكرة.
تأملات في سبب الشرخ بين الممثلين والمجتمع
سلوك المجتمع طبيعي، والغريب هو الهوة الشاسعة بين الفنان والشارع الذي يُفترض به تمثيله. لفهم هذه الظاهرة المرهقة، سأضع بين يديك ثلاث مقدمات توضيحية، لإجابة أحاول تفصيلها في المقال.
المقدمة الأولى: عبر الزمن، كان المجتمع يستقي أفكاره من مصادر عدة، أحدها الفن، ويتجلّى في الشعراء والأدباء والكتّاب. وكان الفنانون جزءًا منسجمًا مع المجتمع، يتفاعلون معه ويعيشون تفاصيله، مع الاحتفاظ بتفرّدهم. وفي المجتمعات العربية خصوصًا، كان الشعراء أبرز فناني المجتمع.
كانت قصائد الشعراء تؤثر في المجتمع، والسلطة تردع وتحرّض وتغيّر وتنصر وتهزم. ,ولعلنا نتذكر، كيف باع تاجر خُمُرٍ سودٍ كَسَدَت في دكانه بعد أن قال الشاعر ربيعة بن عامر أبياته الشهيرة:
قل للمليحة في الخمار الأسود
ماذا فعلتِ بناسكٍ متعبد
وأُوجز لك اختصار قصة الوزير محمد بن بقية، الذي قُتل وصُلب بأمر الخليفة، وبقي الناس يمرّون على جثته مصلوبًا محاطًا بالحرس، حتى رثاه أبو حسن الأنباري قائلًا:
علوّ في الحياة وفي الممات
لحقٌ أنت إحدى المعجزات
كأن الناس حولك حين قاموا
وفدُ نداك أيام الصِلات
كأنك قائم فيهم خطيبًا
وكلهم قيامٌ للصلاة
فأمر الخليفة بإنزاله، وقال: “لقد تمنيت أن أكون أنا المصلوب، وأن القصيدة قيلت فيّ”، ودفنه. وتحوّل صلبه إلى رفعة له عوضًا عن إذلاله، بقصيدة واحدة. وقد اختفى هذا الأثر منذ عقود، تزامنًا مع انتشار الشاشة وولادة الدراما والتسجيلات الصوتية للمغنيين والمغنيات، فكانوا صوت الفن الطاغي.
المقدمة الثانية: التمثيل والغناء، وإن كانا قد دخلا المجتمع من أوسع الأبواب، إلا أنهما لم يحظيا بمكانة مرموقة مجتمعيًا كما كان للشعر والأدب، بل أحاطه الناس بالريبة والتحريم، ونُظر إلى العاملين فيه نظرة دونية.
هذه النظرة لم تمنعه من النمو والازدهار من الناحية الفنية، لكنها أطّرت المنخرطين فيه ضمن فئات مجتمعية، ليس ضمن المجتمع السوري فقط، بل انطبق ذلك على التلفاز منذ ظهوره عالميًا. وقد كتب الباحث زياد عدوان، في ورقة بحثية عنوانها (المسلسل التلفزيوني السوري بين الارتقاء الثقافي والاستيلاء على الثقافة في سورية)، عن رحلة تحوّل التلفاز من وسيلة إعلامية ذات قيمة ثقافية متدنية إلى وسيط نال منزلة مرموقة في الثقافة الشعبية، وعن تحدي الاعتماد على التمثيل في الفن في بيئة محافظة كالسورية والعربية عمومًا، التي أحاطت التمثيل بأسئلة التحريم والدونية والإقصاء الاجتماعي.
انفصال الفنانين عن المجتمع يُفسَّر أيضًا بنظرية الدكتور عبد الوهاب المسيري، “الجماعات الوظيفية”، وهي نظرية طويلة متشعبة، سأورد منها الجزء الذي تحدّث فيه عن التمثيل، وما يمكن أن يشرح أسباب انفصال مجتمع الفنانين بشكل ملحوظ، تجلّى في أيام الثورة.
يقول: إن في كل مجتمع مجموعات بشرية تقوم بوظائف محددة لا يقوم بها عموم أفراد المجتمع لأسباب عدة، كأن تتطلّب الوظيفة قدرًا من الخضوع لقوانين العرض والطلب، أو أن يكون فيها قدرٌ من الدونية أو الدنس، يرفض المجتمع ممارسته لكنه يحتاجه لغرضٍ ما، فيستجلب من يقوم به أو يحتكره في فئة معينة. وليس بالضرورة أن تكون هذه العملية واعية، بل يقوم بها المجتمع من دون قصد.
وحين تنشأ هذه الجماعة الوظيفية، قد تنعزل تدريجيًا عن المجتمع، وقد ينفصلون عن الزمان والمكان الذي يعيشون فيه، وتتراكم خبراتهم ومعارفهم بينهم، وتتناقل بين الأجيال. وهو ما تشهده الدراما السورية اليوم، في الجيل الجديد من الممثلين الذين تربطهم غالبًا علاقات قرابة أو معرفة وثيقة بالجيل السابق من الممثلين والمخرجين.
وحين تطرّق إلى التمثيل، أكّد أنه كمهنة بدأت مشينة، وضرب مثلًا في مصر، بأن الممثلات كنّ يُجندْن من الخارج أو من بين صفوف الأقليات، وبالتدريج تحوّلت إلى مهنة تُدرَّس، ومن يعمل بها يتخرّج من المعهد العالي، لتتحوّل المهنة المشينة إلى مهنة متميزة تحلم بها كثير من الفتيات.
المقدمة الثالثة: ما رفع صوت الفنانين أكثر هو ما أورده الباحث زياد عدوان في ذات الورقة البحثية، بأن المسلسلات السورية كانت وسيلة التعليق الوحيدة على القضايا الاجتماعية والسياسية في بلد معدوم الحريّة الصحافية والأكاديمية. وأضيف أنا هنا: إنه بلد يُقيّد الحريات بكل تفاصيلها، حتى حرية إزالة القمامة من الشارع، وهو أمر يعرفه كل سوري؛ فلم يكن للمجتمع مشاهير أو فنانين من أي قطاع.
“ما ضل بالميدان غير حديدان”
في ضوء هذه المقدمات الثلاثة، لننظر إلى ما كان. وجدت الدراما السورية نفسها، في مطلع تسعينيات القرن الماضي، الأكثر تأثيرًا في الشارع السوري والعربي عمومًا، وتراجعت الفنون الأخرى وفقدت مرجعيتها وأثرها وأهميتها في التأثير على المجتمع. وقد تحدّث الباحث فارس الذهبي عن هذا الأمر في ورقة بحثية قدّمها في “مركز رحمون الدراسي”.
وفي ضوء المقدمات الثلاثة أيضًا، لننظر إلى ما كان عليه المجتمع: يخضع تمامًا لسلطة استبدادية تحبس الأنفاس، ثم احتكرت المسلسلات، أو “الدراما السورية”، الفن وأثره. ولا أُعزِي ذلك فقط للسلطة الاستبدادية، فهناك عوامل عدّة ساهمت في بروز التمثيل على حساب الفنون الأخرى، وتقديم الممثلين – والمغنيين بالدرجة الثانية – كفناني المجتمع، دون مشاهير من أي مجال آخر. وباتت الدراما هي المرجعية الثقافية الوحيدة، كذلك، في مجتمع هجر المسرح والكتاب والشعر.
وكنتيجة، تشكّل مجتمع فني من الممثلين، هو وحده صدى الفن، لكنه لم يدخله بشكل صحي تمامًا، ولم ينبثق عن كل طبقاته. فمع النظرة الدونية له، تشكّل من طيف واحد لا يعكس التنوّع المجتمعي السوري الحقيقي، والاستثناء موجود.
الاستبداد أصل كل فساد
كما قال عبد الرحمن الكواكبي: “الاستبداد أصل كل فساد”، عنصرٌ أساسي ساهم في توسيع هذا الشرخ، ليظهر فجًّا مع اندلاع الثورة باصطفاف معظم الفنانين السوريين مع النظام ضد الشعب، وهو تدخّل سلطة الاستبداد في العمل الدرامي من أساسه إلى رأسه.
فقد كرّس بشار الأسد، بعد استلامه للسلطة، سياسة والده في التحكّم بالعمل الفني والفنانين، وقام عبر أذرعه الأمنية بدعم ممثلين على حساب آخرين، وتجنيد كثير منهم كُتّابًا للتقارير ضد زملائهم. بل إن شركات الإنتاج الدرامي نفسها، كالمؤسسة العامة للسينما، وشركة “أنزور” للإنتاج، و”شام”، و”الشرق”، و”سوريا الدولية”، كلها كانت تُدار في أقبية المخابرات، وتدعم النجوم وفقًا لعلاقتهم وقربهم من السلطة.
وحين اندلعت الثورة، قام النظام باستخدام الشركات الدرامية التي تديرها كوادر فنية تدين بالولاء له وتثق ببقائه، لشيطنة الثورة وربطها بالإرهاب. وتصدّر الفنانون المحبوبون لإدانة الضحية وتمجيد القاتل، فعاش السوريون صدمة رؤية الفن يرفع صوت السلطة لا المجتمع. وقد شرح الفنان السوري عبد القادر المنلا سيطرة نظام المخلوع على الإنتاج والفنانين في كتاباته البحثية.
واليوم، فن التمثيل في سوريا مثلها: حرّ طليق لأول مرة منذ عقود، بمسؤولية عظيمة، لكنه يحمل إرثًا ضخمًا معاديًا للثورة المنتصرة، وأسماءً شهيرة مجّدت قاتل الشعب لسنوات، وما زال قويًا قادرًا على التأثير.
ومنذ التحرير حتى اليوم، خرج كثير من الممثلين والمخرجين بمواقف أغضبت الشارع، بين من يُبرّر دعمه للسلطة، ومن يدّعي المظلومية والجهل، ومنهم من تمسّك بموقف دعم النظام المخلوع، ومنهم من التزم الصمت. وهي مواقف تضعنا أمام سؤال كبير: ما هي الخطوة التالية للمجتمع الفني؟ وما هي رسالته بعد التحرير؟ وهل سيتمسك بانفصاله عن المجتمع، أم سينفتح ليُدخل إليه المجتمع السوري بكل تياراته؟
لا أدّعي أن ما أوردته جوابٌ حاسم، فهناك عوامل عدة ساهمت في حفر هذه الهوة، إنما هي محاولات تفسير لأجل التغيير. فالمجتمع يُلام كذلك، وكان مرهقًا، مقيّدًا، غير قادر على إنتاج أنواع مختلفة من الفنون. قد كسر القيد اليوم، وبقي أن ينفض عنه تعب السنين، لينتج فنًّا واعيًا، منبثقًا عنه، متنوعًا، بمشاركة كافة فئات المجتمع. وهو مشوار ثقافي طويل بألف ميل.