في لحظةٍ كان يُنتظر من القاهرة أن تترجم مواقفها المعلَنة تجاه حرب الإبادة على غزة إلى خطواتٍ عملية، وأن تتحرك كدرعٍ لجارتها المحاصَرة منذ عامين، اختارت مصر أن تمنح الاحتلال الإسرائيلي انتصارًا اقتصاديًا تاريخيًا عبر توقيع “أكبر اتفاقية غاز” في تاريخه، مؤكدة مرة أخرى أن “الجار السوء أعظم الضراء وأشد البلاء”.
ورغم تبرير الصفقة بأزمة الكهرباء الخانقة في مصر، يبقى الاحتلال المستفيد الأكبر، إذ تضخ الاتفاقية مليارات الدولارات في شرايين اقتصاده المرهق من كلفة حربه على غزة، وتمنحه دفعة إضافية لترسيخ هيمنته الإقليمية، والأخطر أن القاهرة، بهذه الصفقة، ترهن أمنها الطاقي بيد طرفٍ اشتهر بالغدر واستغلال أوراق الضغط في لحظات الأزمات.
هذا التقرير يفتح ملف الاتفاقية الجديدة، كاشفًا تفاصيلها وأبعادها السياسية والأمنية، ومحللًا الثمن الاستراتيجي الذي قد تدفعه مصر مقابل هذا “الغاز المُثقل بالدم”.
ما تفاصيل الاتفاقية؟
بينما لم تعلق مصر رسميًا على الصفقة – حتى لحظة كتابة هذا التقرير- كشفت، شركة نيومد إنرجي، أحد الشركاء في حقل ليفياثان الإسرائيلي للغاز الطبيعي، توقيع أكبر اتفاقية تصدير في تاريخ “إسرائيل” بقيمة تصل إلى 35 مليار دولار لتوريد الغاز إلى مصر مقابل تزويدها بـ 130 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي الإسرائيلي حتى عام 2040 أو حتى استيفاء الكميات المتعاقد عليها.
تشمل الصفقة مرحلتين رئيسيتين للتوريد: المرحلة الأولى، تبدأ في النصف الأول من عام 2026، وتشمل توريد 20 مليار متر مكعب بعد تعزيز قدرات الإنتاج والنقل من خلال ربط خط أنابيب ثالث بحقل لفياثان لرفع طاقته الإنتاجية إلى أكثر من 14 مليار م³ سنويًا، بالإضافة إلى تعزيز خط أشدود–أشكلون لزيادة قدرة خط أنابيب شرق المتوسط (EMG) الواصل بين أشكلون والعريش بحوالي 2 مليار م³ إضافية سنويًا، ما سيرفع من قدرة التصدير الغاز الإسرائيلي لمصر إلى 6.5 مليار م³ سنويًا بحلول 2026، بدلًا من حوالي 4.5 مليار م³ حاليًا.
المرحلة الثانية وهي الأكبر ستنطلق بعد توسعة حقل لفياثان (المسمّاة Phase 1B) وإنشاء خط أنابيب جديد عبر منفذ نيتسانا على الحدود لنقل الغاز مباشرة إلى مصر، هذا الخطّ العابر للحدود سيزيد سعة التصدير بشكل كبير ليصل الضخ السنوي إلى نحو 12 مليار م³.
تُعد الصفقة الجديدة امتدادًا لاتفاق وقعته مصر و”إسرائيل” عام 2019، يقضي بتوريد 60 مليار متر مكعب من الغاز بقيمة 15 مليار دولار بحلول أوائل ثلاثينيات هذا القرن. ومنذ بدء تشغيل حقل ليفياثان عام 2020، استلمت القاهرة نحو 23.5 مليار متر مكعب، ما يعني أن حجم التصدير إلى مصر سيتضاعف ثلاث مرات بموجب الاتفاقية المحدثة.
وفي الربيع الماضي، جرى تعديل الاتفاق لرفع الإمدادات من 850 مليون وحدة حرارية يوميًا إلى 1.2 مليار وحدة بحلول يونيو/حزيران 2025، ثم إلى 1.5 مليار وحدة مع نهاية أغسطس/آب من العام نفسه. غير أن الجانب الإسرائيلي لم يلتزم بتنفيذ الزيادة المقررة، رغم اكتمال توسعة الخطوط البرية والبحرية التي تربط بين خطي أنابيب عسقلان في الأراضي المحتلة وميناء العريش المصري في يونيو 2025.
القاهرة تهدي تل أبيب طوق نجاة
في وقتٍ يرزح فيه الاقتصاد الإسرائيلي تحت أزمة خانقة، مع عجز في موازنة 2025 يُقدَّر بـ 6.9% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو الأعلى منذ جائحة كورونا، تأتي الصفقة مع مصر كطوق نجاة يضخ مليارات الدولارات في شرايينه، مانحةً الاحتلال دفعة إنعاش.
فالعائد المالي الضخم – 35 مليار دولار – سيُغذّي خزائن الشركات الإسرائيلية وخزانة الحكومة الإسرائيلية على حد سواء عبر الضرائب والإتاوات، لكنها تعتبر صفقة رابحة للحكومة تحديدًا حيث تشير التقارير إلى أن الحكومة الإسرائيلية تحصل على حوالي 65% من أرباح قطاع الغاز كإيرادات للخزينة مقابل 35% فقط للشركات ما يجعل أي زيادة في صادرات الغاز مكسبًا مباشرًا للموازنة الإسرائيلية.
عدا عن ذلك، تمكنت “إسرائيل” عبر هذه الصفقة من رفع سعر الغاز الذي تبيعه لمصر، بعد ضغوط على وزارة البترول لتوقيع الاتفاق المؤجل منذ شهرين، لتحصل على زيادة أكثر من 30% وفقًا للائحة أسعار جديد، ما يعني أن مصر ستدفع فاتورة أكبر لكل وحدة غاز مقارنة بالسابق، ما يضمن لـ”إسرائيل| وشركاتها هوامش ربحية أعلى.
إلى جانب الأرباح المالية الضخمة، تحصد إسرائيل من الصفقة مكاسب استراتيجية أخطر، إذ ترسخ موقعها كمصدر مهيمن للغاز في المنطقة، وتدفع أكبر دولة عربية، مصر، إلى الارتهان لها في قطاع حيوي لا غنى عنه، وبهذا، تمنح القاهرة تل أبيب نفوذًا سياسيًا مجانيًا، وتساهم في تلميع صورتها كشريك طاقة “موثوق” بينما تواصل ارتكاب الجرائم في غزة، والأسوأ أن هذه ليست الصفقة الوحيدة، فـ”إسرائيل” سبق أن ربطت الأردن بعقد توريد طويل الأمد، لتصبح المورد الرئيسي لجارتيها العربيتين.
كل ما سبق، جعل الاحتلال الإسرائيلي يحتفي بالاتفاقية، إذ وصف وزير الطاقة الإسرائيلي، إيلي كوهين، الاتفاقية بأنها إن “أكبر صفقة غاز في التاريخ مع مصر”، مشيرًا إلى أنه خبر مهم ليس اقتصاديًا فحسب بل أمنيًا وسياسيًا.
واعتبر كوهين، أن الصفقة “ترسخ مكانة “إسرائيل” كقوة إقليمية رائدة في مجال الطاقة يعتمد عليها جيرانها ويحتاجون إليها” وأنه “سيجلب مليارات الدولارات إلى خزينة الدولة، ويوفر فرص عمل، ويعزز الاقتصاد”.
ورقة ابتزاز مجانية بيد الاحتلال
رغم تأكيد المسؤولين المصريين أن الغاز الإسرائيلي سيسد العجز ويوفر على الدولة كلفة ضخ الغاز المسال في الشبكة الوطنية، إلا أن الارتهان المفرط له يحمل مخاطر جسيمة، خاصة مع سجل الانقطاعات المتكررة التي بررتها تل أبيب بـ”أسباب أمنية”، وآخرها خلال حرب الـ12 يومًا مع إيران، حين توقفت مصانع للأسمدة ومواد البناء واضطرب تشغيل محطات الكهرباء في ذروة الطلب الصيفي.
في السياق ذاته، حذر الخبير الاقتصادي ممدوح الولي من أن أي تصعيد عسكري في المنطقة، سواء مع إيران أو عبر استهداف حزب الله لحقول الغاز، قد يعيد أزمة الطاقة إلى مصر فورًا، مع انعكاسات مباشرة على الصناعة والاقتصاد.
من جهة أخرى، يشكل ملف الطاقة ورقة ابتزاز سياسية لدى “إسرائيل” ضد مصر، فعند أي توتر في العلاقات لأي سبب مستقبلاً، سوف تستخدم تل أبيب ورقة الغاز للضغط أو تتذرع بالظروف لقطع الإمداد، هذا ما نبّه إليه، رجل الأعمال المصري، نجيب ساويرس، في يونيو الماضي، الذي وصف الغاز الإسرائيلي بأنه “غاز سياسي” يمكن إيقافه بأي وقت بسبب خلافات سياسية، ما يُؤثر على قطاعات حيوية.
على الجانب الآخر، اعتماد مصر المتزايد على واردات الغاز يضعها تحت رحمة تقلبات الأسواق والجغرافيا السياسية، ستواجه مصر فاتورة أثقل، وقد تجد نفسها ملزمة بالدفع بأسعار باهظة، إذا لفت نائب الرئيس السابق للهيئة المصرية للبترول المهندس مدحت يوسف، إلى أن العقد المشروط بمتوسط سعري للغاز لمدة طويلة قد يكون مجحفًا لمصر في حالة انخفاض أسعار الغاز في الأسواق الدولية عن المعدلات السائدة.
وأكد يوسف، أنه كان يجب أن يراعي أن مصر ستحصل على كميات من الغاز الطبيعي القادم من الحقول القبرصية بالبحر المتوسط عام 2026، والتي ستمكن الدولة من تلبية احتياجاتها من الغاز لتشغيل المصانع المحلية وتخصيص جزء منه لإعادة التسييل وتصديره إلى الخارج، وخفض معدلات استيراد الغاز المسال.
جدل حول جدوى الصفقة
أثارت الاتفاقية جدلًا حول السبب الحقيقي وراء جدولها الزمني الممتد حتى 2040، إذ بينما تُسوِّق الحكومة للاتفاق بوصفه حلًا لأزمة الطاقة، تتحرك على مسارات تقلّل أصلًا حاجتها لواردات ممتدة إلى بعد 15 عامًا، إذ يشير الخبراء إلى أن مع اكتمال تنفيذ محطة الضبعة النووية بقدرة 4.800 ميجاوات بحلول عام 2030 ستكون مصر بغنى عن استيراد الطاقة حتى عام 2040.
يضاف إلى ذلك، توسّع نشاط شركة “إيجاس” في الاستكشاف؛ حيث مُنحت في يونيو امتيازات جديدة في المتوسط ودلتا النيل وشمال سيناء، تزامنًا مع بدء شركات عالمية مثل “إكسون موبيل” و”شيفرون” حفر آبار استكشافية في البحر المتوسط، فيما يجري الإعداد لمسح سيزمي واسع يشمل 100 ألف كيلومتر مربع شرق المتوسط لتقييم احتياطات الغاز.
ليس هذا فحسب، بل تناقض القاهرة نفسها بتعديل هذه الاتفاقية، في الوقت الذي تتحدث فيه عن عودتها للتصدير في عام 2027 إلى جانب وجود اتفاقيات مع قبرص لاستيراد الغاز في سنة 2028، والحديث عن زيادة إنتاج حقل ظهر وعدد من الحقول الأخرى وفق ما يشير الولي.
كل ذلك ما سبق يثير سؤالًا مباشرًا: هل تمثل الصفقة دعمًا عمليًا لحكومة “إسرائيل” عبر عقدٍ فائق الربحية، أم أن توقيتها رسالة سياسية تعكس اصطفافًا حيال تطورات المنطقة وعملياتها العسكرية؟