شهدت مدينة الحسكة شمال شرق سوريا أمس الجمعة مؤتمراً تحت عنوان “وحدة الموقف لمكونات شمال شرقي سوريا” نظمته قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، بمشاركة شخصيات دينية وعشائرية في شمال شرقي سوريا.
وإلى جانب تلك المكونات، ألقى شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز في السويداء حكمت الهجري كلمة مصوّرة خلال المؤتمر، كما حضر غزال غزال رئيس المجلس الإسلامي العلوي الأعلى في سوريا مطالباً بإقامة دولة “مدنية علمانية تعددية ولا مركزية” في سوريا.
أثارت هذه الخطوة نقاشاً واسعاً حول ما إذا كان يتشكل بالفعل “تحالف أقليات” في سوريا الجديدة يجمع بين مكونات دينية وعرقية مختلفة لتحقيق أهداف سياسية مشتركة، أم أنه مجرد استعراض إعلامي من قبل “قسد” لرفع سقف المفاوضات المتعثرة مع دمشق؟
نستعرض في هذا التقرير حقيقة هذا التحالف المزعوم (حلف الأقليات)، وإمكانية تشكُّله، والخلفيات التاريخية لظهوره، وما هي خيارات الحكومة السورية الجديدة في التعامل معه؟
هل يوجد تحالف أقليات في سوريا الجديدة فعلاً؟
ظهر مصطلح “تحالف الأقليات” لوصف تقارب بين جماعات سوريّة تنتمي لأقليات دينية أو إثنية (كالدروز والعلويين والأكراد وغيرها) بهدف مواجهة ما يرونه هيمنة الأكثرية.
وروجت بعض التحليلات إلى أن ما يجري اليوم هو نواة تحالف أقليات جديد في سوريا، خاصة مع تنسيق واضح بين جهات كردية “قسد” وشخصيات درزية وعلوية معارضة للحكومة الجديدة. حتى إن مسؤولين إسرائيليين تحدثوا صراحة عن مفهوم التحالف مع الأقليات في المنطقة؛ فوزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر صرّح في 11 نوفمبر 2024 أن “إسرائيل موجودة في منطقة هي أقلية فيها، ولذلك تحالفاتها الطبيعية هي الأقليات الأخرى مثل الدروز في سوريا ولبنان، والأكراد في سوريا والعراق وإيران وتركيا”.
لكن على أرض الواقع، يرى كثير من الباحثين أن الحديث عن “حلف أقليات” بالمعنى الحرفي مبالغ فيه أو غير دقيق، منهم الباحث في مركز أبعاد للدراسات فراس فحام الذي أكد أننا اليوم لا نقف حقيقةً أمام تحالف طوائف بأكملها، بل أمام تجمع شخصيات وجماعات محدودة من مكونات مختلفة تجمعها مصلحة مشتركة وهي تضررها من سقوط نظام الأسد.
ويشير فحام في حديثه لموقع نون بوست إلى أن غزال غزال – الذي كان من أبرز المؤيدين لنظام الأسد سابقاً – بات اليوم رمزاً لما يُعرف بـ”فلول النظام” بعد انهياره، بينما حكمت الهجري ورجاله، رغم خلافاتهم المتأخرة مع دمشق، حافظوا طويلاً على تحالف وثيق مع النظام في السنوات السابقة.
هذه المعطيات تدل على أن ما يوصف بتحالف أقليات هو في جوهره تحالف بين بقايا النظام السابق وقوى الأمر الواقع شمال شرقي سوريا، أكثر منه تحالفاً يمثل عموم أبناء الأقليات السورية.
من جهته، لا يرى الباحث أحمد قربي مدير وحدة الهوية المشتركة في مركز الحوار السوري أن مصطلح “تحالف الأقليات” صحيحاً، لأن كلمة أقليات في سوريا غير مناسبة إذا كنا نتحدث عن دولة مواطنة يتساوى فيها الجميع، على حد قوله.
وبناءً عليه، يرى قربي في حديثه لموقع نون بوست أن الأنسب أن يتم تسميته تحالف “عصابات ومليشيات”، أو الرافضين لسوريا الجديدة، وليس تحالف أقليات.
ما إمكانية تشكّل هذا التحالف اليوم؟
يرى المؤيدون لوجود التحالف أن مقومات تشكيله متوفرة بدفع ودعم خارجي قوي، يتمثل بالعامل الإسرائيلي الذي يقف وراء التقارب الحالي بين قسد وبعض الجماعات الدرزية والعلوية، وهو عامل خارجي دولي من باب الاستثمار بورقة الأقليات.
فبعد أحداث التصعيد في السويداء مثلاً، صدر تصريح واضح من مسؤولين إسرائيليين يدعم فكرة تقسيم سوريا على أسس طائفية. إذ أكد هؤلاء المسؤولون أن الضربات التي استهدفت مبنى الأركان في العاصمة دمشق كانت بذريعة “حماية الأقلية الدرزية”.
وتعزّز الطرح الإسرائيلي لفكرة التحالف بين الأقليات ما كشفته مراكز أبحاث غربية وإسرائيلية عن مشروع جيوسياسي يُعرف باسم “ممر داوود”، حيث يقوم هذا التصور على ربط المناطق ذات الغالبية الكردية في شمال وشرق سوريا مع منطقة السويداء ذات الغالبية الدرزية جنوباً، عبر ممر بري يمتد من الجولان المحتل مروراً بجنوب سوريا، ثم شرقاً إلى مناطق قسد وصولاً إلى إقليم كردستان العراق.
الهدف المعلن لهذا الممر هو حماية الأقليات وتأمين ممر إنساني بينها، لكنه عملياً يمنح “إسرائيل” منفذاً برياً عريضاً يعزز اختراقها للعمق السوري والعراقي.
وثمة تباين من جهة المراقبين والمحليين في تقدير احتمالات تشكل هذا التحالف، حيث يعتقد الباحث فراس فحام أن التحالف موجود فعلياً لكن بصورة غير رسمية منذ سنوات، حيث كانت هناك تنسيقات خفية بين قسد وبعض الفصائل المحلية مثل (المجلس العسكري في السويداء).
ويشير فحام إلى معلومات تفيد بأن هجمات فلول النظام في بعض المناطق الجنوبية كانت تتم بالتنسيق مع قسد، التي قدمت دعماً للمسلحين في السويداء مثلاً خلال مواجهتهم مع قوات الحكومة سابقاً.
في المقابل، يقلل السياسي علي تمي من شأن ما تحقق، معتبراً أن مؤتمر الحسكة الأخير نفسه فشل في توحيد الصف ولم يحقق الزخم المطلوب، بعد غياب كثير من النخب المجتمعية والسياسية للمكونات الأساسية في المنطقة.
وبناءً عليه – يتابع تمي – يمكن القول إن إمكانية تشكّل التحالف تبقى رهناً بتوافر دعم خارجي قوي ومستمر من جهة، وقدرة الأطراف المحلية على تجاوز خلافاتها العميقة من جهة أخرى، وهما شرطان محل شك كبير حالياً.
مؤتمر قسد نواة لهذا التحالف
يُنظر إلى مؤتمر “وحدة الموقف” الذي عقدته قسد أمس الجمعة على أنه تتويج علني لسلسلة تفاهمات غير رسمية جرت خلف الأبواب المغلقة في الأعوام الماضية. إذ حرص منظمو المؤتمر على إبراز أن الحضور يضم طيفاً واسعاً من مكونات سورية: كرداً وعرباً وسريان ودروزاً وعلويين وغيرهم، تحت شعار توحيد المطالب والرؤى من أجل الحل السياسي.
وفي هذا السياق، وصف الباحث أحمد القربي مؤتمر قسد بأنه “الإعلان السياسي الأول لهذا التحالف” بين ما أسماها العصابات الرافضة لسوريا الجديدة.
من جهته، يذكر الباحث فحام أنه بعد سنوات من التنسيق غير المعلن، جاء هذا المؤتمر ليُخرج التحالف إلى العلن بشكل رسمي وواضح، فظهور مشايخ عقل الدروز إلى جانب قيادات من الإدارة الذاتية الكردية ومن يمثلون العلويين، لم يكن مجرد صدفة بروتوكولية، بل رسالة مقصودة بأن هذه الجهات قررت الاصطفاف في خندق واحد والتنسيق العلني فيما بينها، يضيف فحام.
ويشار إلى أن كلمات المتحدثين في المؤتمر ركزت على نقاط تلتقي فعلاً مع أجندة قسد السياسية. فمطالبة الشيخ غزال غزال بدولة علمانية لا مركزية تعني تبني الطرح الفيدرالي الذي تنادي به الإدارة الذاتية. وكذلك تأكيد الشيخ الهجري في كلمته المصوّرة أن اللقاء هو “نداء للضمير الوطني” واستجابة لصرخة شعب أنهكته الحروب، يتماشى مع خطاب قسد عن تمثيل تطلعات كل المكونات.
وبحسب مصادر مطلعة، سبق المؤتمر جهود تنظيمية مكثفة من قسد، شملت لقاءات مع فعاليات عشائرية كردية وعربية في الرقة ودير الزور، بهدف توسيع قاعدة التأييد الشعبي لمشروع اللامركزية وربطها بكل مكونات المنطقة، أي أن قسد سعت لحشد غطاء أهلي خلف هذا التقارب لتقول إنه يمثل إرادة جماعية وليس مجرد صفقة بين نخب معزولة.
من جهة أخرى، يمكن اعتبار المؤتمر خطوة متقدمة في بناء نواة التحالف، حيث أصبح لدى الأطراف المنخرطة منصة مشتركة يعلنون عبرها مطالب موحدة (دستور جديد، نظام لا مركزي، حقوق متساوية… إلخ)، مما يضفي على تحالفهم صفة شبه رسمية أمام الإعلام.
مع ذلك، يجدر التنبيه إلى أن مؤتمر قسد، برغم زخمه الإعلامي، واجه انتقادات وعقبات. فبحسب علي تمي، فشل المؤتمر في تحقيق إجماع كردي أو عربي حوله، إذ غابت القوى الكردية الكبرى في المنطقة (كالمجلس الوطني الكردي المعارض لقسد) وزعماء العشائر العربية المؤثرين. هذا الغياب أضعف كثيراً من مصداقية المؤتمر كنواة لتحالف وطني جامع.
خيارات الحكومة في التعامل مع هذا التحالف
أمام بروز هذا التحالف (بشكله العلني أو الخفي)، تجد الحكومة السورية الجديدة نفسها أمام تحدٍّ معقد: كيف ترد دون أن تدفع الأمور نحو مزيد من الانقسام؟ خاصة وأن هدف الخطوة أساساً كان إضعاف موقف الحكومة في مفاوضات الحل النهائي.
وفي إجابته على هذا التساؤل، يؤكد أحمد القربي أن العامل الحاسم وراء التحالف هو “إسرائيل”، وبالتالي تحييد الدور الإسرائيلي يجب أن يكون أولوية، من خلال نسج تحالفات إقليمية أقوى مع دول لها مصلحة في سوريا موحدة، مثل تركيا والسعودية والأردن.
كما يمكن للحكومة السورية أن تكثف التعاون مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لإقناعهم بأن الحفاظ على وحدة سوريا واستقرارها هو الضمان الأفضل لمصالح الجميع، وأن أي مشاريع تقسيمية ستفتح الباب لمزيد من الفوضى والإرهاب، يضيف الباحث قربي.
من ناحيته، يشدد السياسي علي تمي على ضرورة معالجة الأسباب الداخلية التي قد تدفع البعض للتحالف مع قسد أو غيرها، فهناك حاجة ملحّة لتوجيه جهود تنمية اقتصادية وخدمية لمناطق الأقليات، حتى يشعر أهلها بأن دمشق تهتم بمصالحهم وتضمن حقوقهم في سوريا الموحدة.
ويضيف تمي أنه ينبغي إطلاق مبادرات حوار مجتمعي ومصالحة وطنية تشمل هذه الفئات، بحيث تتبدد مخاوفهم ويتم طمأنتهم بأن لا أحد يسعى لإقصائهم أو الانتقام منهم.
وكان مصدر حكومي سوري أكد أن المؤتمر يعد تصعيداً خطيراً وسيؤثر على مسار التفاوض الحالي، وأضاف للوكالة الأناضول أن الحكومة السورية تدرس خياراتها، بما في ذلك إلغاء جولة المفاوضات المقررة في باريس إذا لم يكن هناك طرح جدي لتنفيذ اتفاق 10 مارس/آذار.
وفي ظل صعوبة الحسم العسكري لاعتبارات داخلية وخارجية، يرى مراقبون أن خطوات من قبيل إشراك الرموز المحلية المعتدلة من الدروز والعلويين في عملية صياغة الدستور الجديد، وضمان التمثيل العادل لهم في مؤسسات الدولة، يمكن أن تسحب البساط من تحت أقدام الداعين لكيانات انفصالية. فمتى ما أحسّ أبناء هذه الأقليات أن الدولة الجديدة دولة جميع مواطنيها بلا تمييز، سيتراجع الدافع للتحالف مع قوى خارجية أو مليشيات مسلحة.