يستمر المهجَّرون بالرجوع إلى محافظاتهم من إدلب بعد سنوات طويلة من النزوح، ورغم مضي أكثر من نصف عام على سقوط النظام وانفتاح المحافظات السورية على بعضها، إلا أن أسبابًا مختلفة أخَّرت العودة عند شرائح مختلفة من النازحين.
وكانت محافظة إدلب الواقعة في شمال غرب سوريا قد ضمَّت ملايين النازحين والمهجرين الذين أتوها بشكل متتابع ومن مختلف المحافظات منذ سنوات الثورة الأولى بسبب حرب نظام الأسد عليهم، وسكنوا في المخيمات أو بيوت الإيجار ضمن ظروف الحرب الصعبة.
وتستمر عودة النازحين إلى مناطقهم منذ أشهر، مع رغبة شرائح مختلفة بالتمهُّل أكثر أو البقاء والاستقرار في إدلب، ويتزامن ذلك مع رجوع أهالي إدلب المغتربين إليها بعد سنوات اللجوء التي قضوها خارج البلاد.
موجات متفرقة لعودة النازحين
مصطفى السعد، نازح سابق في مخيم دير حسان بريف إدلب، عاد لمسقط رأسه في ريف حماة حديثًا، يقول لـ “نون بوست” إنه اضطر للتأخر بمغادرته المخيم حتى انتهاء امتحانات أولاده الإعدادية والثانوية التي ما تمَّت إلا قبل أيام.
ويضيف السعد أنه كان باستطاعته العودة بعد فترة قصيرة من سقوط النظام، لكن هذه المرحلة التعليمية تُعتبر حساسة عند أولاده، وأنه فضَّل أن يُبقيهم في أجواء مستقرة بعيدًا عن إرباكات التنقل والسفر، وكذلك التزامهم بمعاهدهم الدراسية في منطقة النزوح.
وودَّع الطلاب العائدون مؤخرًا أساتذتهم وزملاءهم الذين اجتمعوا بهم فترة النزوح في إدلب، وبعكس ما ينبغي أن تعيشه الأجيال اليافعة من استقرار مجتمعي وتعليمي، فقد قضى الكثير منهم فترته الدراسية في ظروف التهجير والتنقل التي كان آخرها عودتهم إلى مناطقهم، تاركين خلفهم ذكريات مُرَّة وأخرى جميلة مع زملاء التَقَوْهم على مقاعد الدراسة.
وتشهد هذه الفترة عودة النازحين الذين انشغلوا بإصلاح بيوتهم طوال الأشهر الماضية، حيث تعرَّضت مناطق واسعة في أرياف إدلب لخراب كبير وعمليات تدمير ونهب ممنهجة جعلت العودة شبه مستحيلة حتى إعادة الإعمار أو الإصلاح، ما أخَّر العودة حتى هذه الأيام.
يقول صبحي العليان من ريف سراقب لـ “نون بوست” إنه فور سقوط النظام ذهب إلى منزله لتفقُّده، ورغم توقعه بدماره، لكن ما رآه كان أقسى من التوقعات، ويُكمل: “لم أجد إلا قطعة من الأرض شبه ممهدة فوقها أحجار صغيرة متناثرة لأن الكبير منها سُرق، وطبعًا الحديد والشبابيك وكل شيء آخر، لذا كان عليَّ أن أبني منزلي مجددًا، ولم أنتهِ إلا قبل شهر، وكذلك جيراني في الحي المنهوب أو القرى المجاورة ما زالوا يُكملون البناء قبل العودة”.
وكانت أفواج من النازحين القادرين على العودة قد رجعوا في فترات سابقة، أبرزها عند قدوم الربيع، حيث أخَّرهم الشتاء القاسي الذي تزامن مع سقوط النظام، وشهدت أجواء العيدين الماضيين تجمعات لعودة النازحين كونها مناسبات يجتمع فيها الناس والأقرباء.
نازحون يقررون البقاء والأسباب
عبد الناصر زبدية، نازح من ريف حمص ومقيم في مدينة إدلب، يقول لـ “نون بوست” إنه يعيش في إدلب منذ ثماني سنوات في بيت استأجره، وأنه تأقلم تمامًا ولا ينوي العودة إلى منطقته لتفاوت الحالة الأمنية بحسب قوله، ويضيف: “تزوجت فتاة من ريف إدلب، وأولادي يعيشون هنا، ولا أفكر بالعودة إلى حمص ولا يمكنني ذلك أصلًا، فقد استقررت هنا، وكذلك أهلي غير موجودين في حمص، لقد بنيت حياة جديدة”.
وربطت السكانَ والنازحين في إدلب علاقات مجتمعية متنوعة أفضت إلى الكثير من الزيجات بين أبناء المحافظات الذين نزحوا إليها وبين السكان الأصليين، وكذلك التجاور وبيئات العمل والتكافل في سنوات الحرب، ما خلق رغبة عند الكثير من النازحين بعدم المغادرة والبقاء في محافظة إدلب بشكل دائم.
وضمَّت منطقة شمال إدلب تجارًا من مختلف المحافظات الذين نزحوا من مناطقهم في أوقات سابقة واستقروا مع أعمالهم وتجارتهم في إدلب. بهجت سيفو أبو العلا، تاجر من درعا ويقيم في الدانا بريف إدلب، يقول لـ “نون بوست”: “تجارتي هنا مستقرة مقارنة بمنطقتي الأصلية في الجنوب السوري، لقد بنيت منزلًا هنا وتأقلمت مع الظروف المجتمعية والتجارية، ولم أفكر بالعودة لأن ذلك سيكلفني الكثير، وقد لا أحصل على فرص تجارية جيدة إن غادرت”.
وتُعتبر طول المدة التي قضاها النازحون في إدلب من الأسباب المهمة التي أثرت في قرارهم بالبقاء، حيث تبادلوا ضمنها خبراتهم الحياتية وعاداتهم الاجتماعية مع السكان، وكونوا معًا ذكريات مشتركة ومجتمعات صغيرة نتيجة هذا التفاعل.
وتشير دراسة لـ “مركز الحوار السوري” إلى أن النازحين يكونون أقل رغبة بالعودة إلى مناطقهم الأصلية إذا خاضوا تجربة تكامل محلي ناجح في المجتمعات المضيفة، وأنه في حالات النزوح المطوَّل يُفضِّل كثير من الشباب الانتقال إلى المدن الكبرى بدل عودتهم إلى مناطقهم الريفية التي تفتقد فرص العمل والخدمات.
وأنه عند وجود هويات اجتماعية مشتركة، فهذا يسهم في تشكيل عوامل راحة بالنسبة للنازحين، وحين وصول الخدمات إليهم وتمكُّنهم من الحصول على دخل منتظم، تكون الأولوية لديهم للتركيز على البقاء في المجتمعات المضيفة، بحسب الدراسة.
وتؤكد الدراسة وجود شريحة من النازحين لن تعود لأنها لا تستطيع العودة، وذلك لفقدانهم وثائق ملكياتهم نتيجة ظروف الحرب، وأنهم سيواجهون تحديات في إثباتها، خاصة إذا كان قد شغلها آخرون بطرق غير قانونية، أو حصلوا عليها من خلال أعوان النظام السابق الذي كان قد استولى عليها أو نقلها بطرق غير شرعية.
وبحسب من حاورهم “نون بوست”، فإن أسباب بقاء النازحين تتنوع بين طول المدة التي قضوها والتأقلم في المكان والمجتمع، وتفضيلهم الاستقرار مقارنة بمناطق أخرى تشهد توترات أمنية، وكذلك الزيجات المتبادلة التي أدخلت نازحين في علاقات اجتماعية زادت من ارتباطهم بمنطقة النزوح، وفضَّل الكثير من التجار الحفاظ على تجارتهم في إدلب وعدم المغامرة بالعودة إلى مناطقهم، وبالنسبة للعمال من النازحين، فيرى الكثير أن الأجور التي يتلقونها في إدلب أفضل من المناطق الأخرى، ما جعلهم يترددون بالمغادرة.
القادمون من الغربة يعوضون ذهاب النازحين
أشار التقرير السنوي للشبكة السورية لحقوق الإنسان، والذي صدر مؤخرًا، إلى أن نحو نصف مليون لاجئ قد عادوا إلى سوريا منذ سقوط النظام، مقابل 1.2 مليون نازح داخلي عادوا إلى مناطقهم.
وكانت عودة النازحين ستؤدي إلى خفض التعداد السكاني بشكل ملحوظ في كثير من مناطق إدلب، لكن رجوع اللاجئين المغتربين إلى سوريا قد عوَّض النقص المحتمل.
وتختلط مشاعر الحزن مع الفرح، فقبل قدوم اللاجئين إلى بلادهم ولقائهم ذويهم، يتركون أماكن عاشوا فيها لسنوات طويلة تتجاوز العقد من الزمن لدى الكثير منهم، وهي كفيلة لأن يعتادوا على أجوائها وساكنيها، وكذلك الأمر عند النازحين العائدين إلى محافظاتهم.
ويُعد البيت هو المكان الأكثر ارتباطًا بالذكريات، خاصة لدى المجتمع السوري، وكانت قد تسببت الحرب المريرة بتخبطات في السكن والمأوى، عدا عن دمار الآلاف منها، وقد شهدت الكثير من البيوت في إدلب تعددًا في الساكنين على مدار فترة النزوح التي عاشتها المحافظة، ويعود اللاجئون اليوم من خارج البلاد ليسكنوا بيوتًا استأجرها النازحون من قبل وعاشوا فيها لسنوات، وهكذا تبقى البيوت ملأى بالساكنين.
مصطفى العبدو، وسيط في المعاملات العقارية من مدينة إدلب، يقول لـ “نون بوست” إنه قد سادت حالة من توقع انخفاض بدلات إيجار البيوت عقب سقوط النظام عندما عاد جزء من النازحين إلى مناطقهم، لكن ذلك لم يحصل، بل على العكس، ارتفعت البدلات لتصل إلى مئتي دولار في الشهر في بعض المناطق، عندما قدم اللاجئون من دول الاغتراب.
وإن النازحين الذين عمَّروا بيوتًا بفترة نزوحهم الطويلة يعرضونها اليوم للبيع، ويشتريها منهم العائدون حديثًا من خارج البلاد، خاصة أن كثيرًا منهم أصبح لديهم عوائل، ولن يستطيعوا السكن معًا في منزل واحد، لذا فهم يستأجرون البيوت التي تفرغ من عودة النازحين أو يشترونها أو يعمرون بيوتًا جديدة، بحسب العبدو.
وتحصل حالة من الامتزاج بين النازحين واللاجئين والسكان المحليين، تصل إلى الأسواق والمهن والأطعمة. يقول أبو معتز الصطوف، صاحب متجر في مدينة إدلب، لـ “نون بوست” إن محافظة إدلب تشهد تنوعًا في وصفات المطاعم والمعجنات والحلويات، وأن النازحين في السنوات الماضية قد نشروا وصفات شعبية لمختلف الأطعمة لكنها بدأت تقل مع عودتهم.
ويضيف الصطوف أنه في حين تراجعت قوائم من المعجنات، مثل التي قدمت من دمشق وريفها في وقت سابق، إلا أن أخرى جديدة بدأت تنتشر، مثل تلك التي جلبها معهم اللاجئون من لبنان، وبدأت تشيع وتُرى على واجهات المحلات، وكذلك الحلويات التي أتت من حماة وحمص مع النازحين، وعاد البعض من أصحابها إلى محافظاتهم، ليعوض عنها وصفات أخرى جديدة قد قدمت من تركيا ولبنان حديثًا، كالبوظة والبقلاوة وغيرها، وصار مفتتحوها يسمون متاجرهم بأسماء البلدان التي أتوا منها.
وينتظم المجتمع في محافظة إدلب وفق حالة جديدة عند قدوم اللاجئين إلى بيوتهم واختيار شريحة من النازحين البقاء فيها، ما أدى إلى شكل من التنوع المجتمعي وتبادل ثقافات المحافظات السورية، وأخرى حملها العائدون من المغترب في منطقة واحدة، ويمتد ذلك إلى الخبرات والمهن والأعمال.