ترجمة وتحرير: نون بوست
كانت تسعينيات القرن الماضي العصر الذهبي للمنظمات غير الحكومية. خلال تلك الفترة، وسّعت مؤسسات بارزة مثل العفو الدولية والسلام الأخضر وأوكسفام ميزانياتها وعززت حضورها حول العالم. وبين عامي 1990 و2000، ارتفع عدد المنظمات الدولية غير الحكومية – وهي كيانات غير ربحية مستقلة عن الحكومات وتعمل في عدة دول للصالح العام – بنسبة 42 بالمئة، مع ولادة آلاف المنظمات الجديدة. كثير منها تبنّى قضايا ليبرالية كحقوق مجتمع الميم وضبط حيازة السلاح، فيما برزت في المقابل منظمات محافظة بأجندات سياسية مضادة.
ومع تضاعف أعدادها، تحوّلت هذه المنظمات إلى فاعل سياسي مؤثر غيّر مسار سياسات دولية. فقد نجح ائتلاف “الحملة الدولية لحظر الألغام الأرضية”، الذي تأسس عام 1992، في الدفع لاعتماد “اتفاقية حظر الألغام المضادة للأفراد” سنة 1997، لينال جائزة نوبل للسلام. كما ساهمت منظمة الشفافية الدولية، التي انطلقت من برلين عام 1993، في تسليط الضوء على الفساد وتعزيز الجهود لإقرار “اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد” في 2003.
وفي مؤتمر فيينا لحقوق الإنسان عام 1993، أعلن كوفي عنان أن “القرن الحادي والعشرين سيكون عصر المنظمات غير الحكومية”، فيما أكدت جيسيكا ماثيوز في مقال مؤثر نشرته فورين أفيرز عام 1997 أن نهاية الحرب الباردة أطلقت “تحولًا في القوة” منح المجتمع المدني العالمي – المتمثل في هذه المنظمات – نفوذًا متزايدًا على حساب الدول، مكّنه من تقديم المساعدات الإنسانية والتنموية، والتأثير في المفاوضات الدولية، وصياغة الأجندات السياسية في ملفات البيئة وحقوق الإنسان.
لكن المشهد الراهن يختلف جذريًا. بين 2010 و2020، لم يزد عدد هذه المنظمات إلا بأقل من 5 بالمئة، بينما تعمّق خلال العقدين الأخيرين الشك الشعبي في جدواها، وطوّرت الحكومات أساليب منظمة لإضعافها، وتراجعت موارد تمويلها، وعلى رأسها الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية التي أغلقت رسميًا هذا الأسبوع.
النتيجة تقلص الفرص والتأثير السياسي لهذه المنظمات، واستعادة الدول جزءا كبيرا من سلطتها السابقة. وهكذا يُطوى عصر المنظمات غير الحكومية، في خسارة جسيمة لمن اعتمدوا على خدماتها، ومكسب للأنظمة الاستبدادية التي رأت في نشاطها تهديدًا.
تصاعد الانتقادات
على مدار العقد الماضي، وثّق بحثنا التحولات العميقة التي شهدها قطاع المنظمات الدولية غير الحكومية. فإلى جانب تحليل بيانات السجلات الضريبية والدلائل التنظيمية لرصد اتجاهات التأسيس والإغلاق وحجم الميزانيات، أجرينا مقابلات موسعة مع قيادات هذه المنظمات عبر استبيانات شاملة، ومجموعات نقاش، وحوارات معمقة لرصد رؤاهم وتجاربهم.
تبيّن أن المشهد تغيّر جذريًا. عندما برزت هذه المنظمات كلاعب مؤثر دوليا، تميّزت بالتزامها بالمبادئ وطابعها غير الربحي، ما منحها موقعًا مغايرًا للحكومات والشركات. وقد حازت منظمات مثل العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش إشادة عالمية لحماية الأفراد المعرّضين للخطر والدفع نحو معايير أكثر صرامة لحقوق الإنسان.
كما اكتسبت شرعية من تمثيل أصوات المواطنين والمصالح المهمشة في مؤسسات الحكم العالمي، كما فعلت منظمات المناخ في إطار “اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ”، إذ نقلت وجهات نظر بيئية ومجتمعية إلى طاولة المفاوضات. وإدراكًا لقيمة هذه الإسهامات، وسّعت المؤسسات الدولية نطاق وصول هذه المنظمات، بينما عزّزت الخدمات المباشرة التي قدمتها للمجتمعات تعاونها مع الحكومات، التي اعتمدت منذ التسعينيات على منظمات مثل كير إنترناشيونال وميرسي كور لتقديم المساعدات الخارجية. في تلك الفترة الذهبية، كان صعود هذه المنظمات يُنظر إليه كفرصة لبناء عالم أفضل، وتحسين الخدمات، واعتماد سياسات تقدمية في مجالات البيئة وحقوق الإنسان ونزع السلاح.
لكن مع مطلع القرن الحادي والعشرين، بدأت الانتقادات تتصاعد. شكك منتقدون من اليمين واليسار في كفاءة هذه المنظمات ونفوذها السياسي المتنامي ودعوا إلى ضرورة مساءلتها. واستجابت بعض المؤسسات بمحاولات إصلاحية، فأطلقت مبادرات شفافية للإفصاح عن مواردها وآليات اتخاذ القرار. وفي العقد الثاني من الألفية، تبنّت كثير منها مبادرات “المحلية” لتفويض سلطات القرار والإنفاق إلى شركاء في الدول النامية. غير أن ذلك لم يوقف قادة عالميين، حتى في الغرب الذي شكّل حاضنة أساسية لنموها، عن انتقادها علنًا. اتهم أعضاء في البرلمان الأوروبي منظمات بيئية بالفساد وغياب الشفافية والعمل ضد أهداف وقيم الاتحاد الأوروبي. كما شكك المستشار الألماني فريدريش ميرتس في “حياد” منظمات المجتمع المدني التي تتلقى تمويلًا حكوميًا، واتهم بعضها بممارسة نشاط حزبي.
تستند بعض الانتقادات الموجهة للمنظمات غير الحكومية إلى تطورات ملموسة شهدها هذا القطاع. فمع تزايد عددها، تصاعدت حدة المنافسة على الموارد، حيث يشير العاملون فيها إلى أن التنافس على تمويل المانحين، وفرص الوصول إلى الحكومات، وجذب اهتمام الإعلام والجمهور، قد يشتت الجهود عن تقديم الخدمات والتعبئة. ويتحدث موظفون في مجال الإغاثة عن سباق محموم بين المنظمات بعد الكوارث لتصدّر جهود الاستجابة، سعياً وراء التمويل والتغطية الإعلامية، بما يعيق التنسيق الإنساني ويضر أحياناً بالمستفيدين. كما أن الانطباع السائد، سواء كان دقيقاً أم لا، بأنها تركّز على إرضاء المانحين والإعلام أضرّ بصورتها ككيانات لا تسعى للربح.
كما شهد القطاع هزات قوية بسبب فضائح سوء السلوك. في 2018، تورط فرع أوكسفام في بريطانيا، وهو جزء من منظمة دولية لمكافحة الفقر، في فضيحة استغلال جنسي في هايتي، ما أفقده التمويل الحكومي البريطاني لثلاث سنوات. ورغم استئناف التمويل لاحقاً، واجهت المنظمة اتهامات جديدة بالاعتداء الجنسي والاحتيال في جمهورية الكونغو الديمقراطية عام 2021. فضائح مشابهة طالت منظمة بلان إنترناشيونال والصليب الأحمر، تاركة آثاراً سلبية طويلة المدى على سمعة تلك الكيانات وعلى القطاع بأسره.
وقد انعكس ذلك على ثقة الرأي العام. وفق استطلاعات “إيدلمان ترست باروميتر” في 28 دولة على مدار 25 عاما، سجّل عام 2021 أول مرة تتفوق فيها الشركات على المنظمات غير الحكومية في معدلات الثقة. وبحلول 2025، باتت يُنظر للشركات على قدم المساواة تقريباً في المعايير الأخلاقية، مع تفوق واضح في الكفاءة.
تشديد القيود
تأتي هذه الانتقادات للمنظمات غير الحكومية في ظرف سياسي غير مواتٍ للقطاع. ففي النظام الليبرالي الذي هيمن بعد الحرب الباردة، امتد الدعم الذي تقدمه الدول المانحة والمنظمات الدولية للمنظمات غير الحكومية إلى مختلف أنحاء العالم.
ومع ازدياد عدد الدول الديمقراطية، خصوصًا في أفريقيا وشرق أوروبا، أصبحت هذه الدول أكثر تقبلاً لهذه الكيانات. كما توسع عدد الأنظمة غير الديمقراطية التي سمحت بعمل المنظمات غير الحكومية في التسعينيات، حيث حاولت دول مثل الصين وزيمبابوي تعزيز قدرات الدولة من خلال السماح للمنظمات بتقديم خدمات عامة أساسية.
لكن هذا التسامح تراجع مع تصاعد التحديات التي تواجه الديمقراطية. على وجه التحديد، منذ أواخر العقد الثاني من الألفية الحالية، شهدت الحقوق الديمقراطية تراجعًا عالميًا، شمل دولًا كبيرة مثل الهند وإندونيسيا والمكسيك وتركيا. وقد تزامن هذا التحول مع زيادة التدقيق وفرض قيود أشد على المنظمات غير الحكومية. وقد تقلصت قدرة المنظمات الدولية على العمل أو اختفت تمامًا في ظل الأنظمة غير الديمقراطية، وارتفعت احتمالات تعرض منظمات المجتمع المدني المحلية للقمع بسبب تعاونها مع المنظمات الدولية.
تخشى العديد من الحكومات الاستبدادية اليوم أن يؤدي السماح للمنظمات غير الحكومية بالعمل بحرية إلى ضغوط تدفع نحو الديمقراطية أو حتى تغيير النظام، لذلك سعت إلى إيجاد طرق لإضعاف هذه المنظمات للحفاظ على قبضتها على السلطة.
ففي روسيا، على سبيل المثال، دفع الرئيس فلاديمير بوتين عام 2006 نحو تبني قانون يفرض قيودًا واسعة على أنشطة المنظمات غير الحكومية، بما في ذلك السماح للحكومة برفض تسجيل أي منظمة ووقف برامجها إذا اعتُبرت “تهديدًا للاتحاد الروسي”. جاء هذا التصعيد في ظل توتر العلاقات بين موسكو والغرب، وكان مدفوعًا جزئيًا باعتقاد بوتين أن المنظمات غير الحكومية المتحالفة مع الغرب كانت وراء الثورات الملونة – وهي سلسلة من الحركات الاحتجاجية ضد الحكم الاستبدادي في جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابقة وصربيا في أوائل القرن الحادي والعشرين – وأنها قد تدعم نشاطات احتجاجية مماثلة في روسيا.
في عام 2012، اتخذت حكومة بوتين خطوة أبعد، حيث أصدرت قانونًا يُلزم جميع المنظمات غير الحكومية التي تنخرط في أنشطة سياسية وتتلقى تمويلاً أجنبيًا بالتسجيل كـ«وكلاء أجانب»، ما يفرض عليها متطلبات مالية مرهقة ويتيح للحكومة مراقبة أنشطتها. كما يتعين عليها الإعلان عن هذا التصنيف علنًا، مما يضر بمصداقيتها أمام الرأي العام المحلي. وأصبح قانون «الوكلاء الأجانب» الروسي نموذجًا لتشريعات مماثلة تبنّتها دول عديدة مثل جورجيا والمجر وقيرغيزستان.
وقد طوّرت الحكومات استراتيجيات ممنهجة لإضعاف أنشطة المنظمات غير الحكومية. أظهرت أبحاث عالمة السياسة سوبارنا تشودري أن أكثر من 130 دولة فرضت خلال ثلاثة عقود قيودًا على المنظمات الدولية والمنظمات الممولة أجنبيًا. بالإضافة إلى فرض لوائح إدارية معقدة كما في القانون الروسي، تتيح هذه القيود إمكانية العقوبات القانونية، والسجن، أو القمع العنيف للنشطاء. تحت هذه الضغوط، تواجه المنظمات صعوبات في العمل على قضايا حقوق الإنسان، والجندر، ومكافحة الفساد، والديمقراطية، وحماية البيئة، وغيرها من القضايا السياسية الحساسة.
على سبيل المثال، قامت حكومة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي منذ 2014 بإلغاء تسجيل آلاف المنظمات غير الحكومية الممولة أجنبيًا. شملت هذه الحملة منظمات معروفة مثل مجموعة «غرينبيس» الهندية البيئية، التي مُنعت من تلقي التبرعات الأجنبية عام 2015، مما اضطرها لتسريح موظفين وإغلاق مكتبين. استندت الحكومة إلى قانون تنظيم التبرعات الأجنبية لعام 2010، ووجهت إلى «غرينبيس» اتهامات بأنها ألحقت ضررًا اقتصاديًا بالدولة وأخفت تلقيها أموالًا أجنبية.
وتؤكد المنظمة أنها استُهدفت بسبب جهودها في تنظيم احتجاجات مجتمعية ضد التلوث والتعدين، ونفت الادعاءات المتعلقة بالتقارير المالية. وحتى الآن، سمحت أحكام المحاكم الهندية لـ«غرينبيس» بالحفاظ على مكاتبها، لكنها قلصت حملاتها.
وفي إثيوبيا، وجد الباحثون كيندرا دوبوي وجيمس رون وآسيم براكاش أن قانون تسجيل المنظمات الذي أُقر عام 2009 أجبر غالبية منظمات حقوق الإنسان على الإغلاق، في حين توقفت المنظمات المتبقية عن النشاط الحقوقي وركزت على تقديم خدمات تنموية عامة كالتعليم وبرامج مكافحة الفقر.
ولا يقتصر إضعاف المنظمات على الإجراءات المباشرة، فقد أنشأت بعض الحكومات منظمات شبيهة بالمنظمات غير الحكومية، تتظاهر بأنها منظمات مدنية لكنها تخدم أجندات الحكومة. على سبيل المثال، يراقب مراقبون دوليون ذوو كفاءة منخفضة الانتخابات في دول مثل أذربيجان وجنوب أفريقيا وزيمبابوي، ويؤيدون عمليات انتخابية غير حرة أو نزيهة، مما يتيح للقادة الاستبداديين الطعن في تقارير مراقبين أكثر مصداقية مثل مركز كارتر. كما تقدم هذه المنظمات الحكومية تقارير شفوية وخطية خلال المراجعة الدورية الشاملة لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، مدافعة عن الدول القمعية. وتساهم هذه الجهات في عرقلة عمل المجتمع المدني الحقيقي وتقويض شرعية المنظمات غير الحكومية في نظر الجمهور.
وقد سهّل تصاعد نفوذ الدول غير الديمقراطية، لا سيما الصين وروسيا، في السياسة العالمية، انتشار استراتيجيات حكومية للحد من قوة المنظمات غير الحكومية. وكشفت دراسات أعدها الخبيران كريستوفر أدولف وآسيم براكاش أن الدول النامية التي توجه صادراتها نحو الصين بعيدًا عن الغرب، تزيد فيها احتمالات قمع المنظمات، لأن بكين لا تستخدم العقوبات التجارية كوسيلة ضغط لحماية حقوق الإنسان كما تفعل الحكومات الغربية.
ومن جهتنا، رصدنا كيف شككت روسيا باستمرار منذ أوائل الألفية في شرعية مراقبي الانتخابات الغربيين ووصمت جهود تعزيز الديمقراطية بأنها انتهاك لسيادة الدول. ونتيجة لذلك، تميل الدول ذات العلاقات السياسية والاقتصادية الوثيقة مع موسكو إلى استقبال مراقبي انتخابات منخفضي الكفاءة.
ضغط الميزانية
رغم اعتراض الحكومات على الأنشطة السياسية للمنظمات غير الحكومية، إلا أنها كثيرًا ما ترددت في فرض قيود صارمة عليها، نظرًا لدورها الحيوي في تمويل وتنفيذ برامج التنمية والصحة والإغاثة الإنسانية، غير أن هذا العامل يتغير تدريجيًا. مع تشديد القيود على الميزانيات، وزيادة المنافسة، وتصاعد المعارضة الشعبوية، بدأت الحكومات بتقليص إنفاقها على المساعدات الخارجية، التي تشكل مصدر التمويل الرئيسي للمنظمات الدولية غير الحكومية. انخفضت مساعدات التنمية الخارجية من الدول المانحة الكبرى في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بأكثر من سبعة بالمئة خلال عام 2024، مع توقعات باستمرار التخفيضات مستقبلاً.
كان التحول الأكثر حدة في الولايات المتحدة، حيث قامت إدارة الرئيس دونالد ترامب منذ توليه المنصب في يناير/ كانون الثاني الماضي، بقطع معظم برامج المساعدات الخارجية. غير أن هذا الاتجاه سبق ترامب وطال دولا أخرى، حيث تعرضت ميزانيات التنمية في أوروبا لضغوط مماثلة.
في بعض الدول مثل النرويج والسويد، جاء الضغط من أحزاب يمينية، بينما في دول أخرى جاء من اليسار أو الوسط. خفضت ألمانيا، ثاني أكبر مانح في العالم من حيث المساعدات الرسمية، بشكل كبير المساعدات الإنسانية والتنموية ضمن حملة تقشف قادها التحالف الحكومي المكون من أحزاب تقدمية وخضراء ويمينية معتدلة في 2024. ومن غير المرجح أن يعكس المستشار المحافظ الجديد مسار هذه الخطوات، خصوصًا مع الضغوط لزيادة الإنفاق الدفاعي.
بالمثل، تقلصت ميزانية المساعدات الخارجية في المملكة المتحدة منذ 2020، وسط تعافٍ اقتصادي ضعيف بعد الجائحة، وتخطط الحكومة العمالية الحالية لمزيد من التخفيضات مع زيادة الإنفاق الدفاعي. وقلصت فرنسا، التي تواجه تباطؤًا في النمو وارتفاعًا في العجز المالي، بشكل ملحوظ ميزانيتها للمساعدات الخارجية في 2024.
يتقلص حجم الموارد المتاحة للمنظمات غير الحكومية في الوقت الذي يزداد فيه التشكيك الحكومي، حتى على أعلى المستويات، بشأن جدوى الاعتماد على هذه المنظمات في تقديم المساعدات الخارجية. عندما أغلقت الحكومة الأمريكية وكالة التنمية الدولية رسميًا، كتب وزير الخارجية ماركو روبيو أن “مديري عدد لا يحصى من المنظمات غير الحكومية المدعومة من الوكالة كانوا هم وحدهم من يعيش حياة مرفهة… بينما يتدهور وضع من يُفترض أن تساعدهم هذه المنظمات”.
وفي هولندا، دعت وزيرة التجارة الخارجية والتنمية، اليمينية راينيت كليفر، إلى تقليص المساعدات الخارجية وتقليص تمويل منظمات المجتمع المدني.
قد يتدخل بعض الممولين غير الحكوميين لتعويض تخفيضات الإنفاق العام. في الولايات المتحدة، وقعت أكثر من 70 مؤسسة تعهدًا لـ”مواجهة التحدي” وسد الفجوات التي خلقتها تخفيضات إدارة ترامب. كما أنشأ مجموعة من المانحين “صندوق جسر” لدعم البرامج التي تجمد تمويلها بسبب إغلاق الوكالة. ومع ذلك، وبالنظر إلى حالة عدم اليقين المالي العالمية، فإن الوقت الحالي صعب على المؤسسات الخيرية والمانحين للقيام باستثمارات كبيرة. وفي النهاية، لا يمكن لرأس المال الخاص أن ينافس الموارد الاقتصادية للدول.
بدأت العديد من المنظمات في العالم بالفعل بتقليص أعداد موظفيها، وسيؤدي فقدان التمويل إلى تقليص جهود الإغاثة الإنسانية، وبرامج المهاجرين، وإدارة اللقاحات، وأنشطة أخرى. كما يجعلها عرضة لحكومات قمعية تسمح لها بالعمل فقط لأنها تقدم خدمات مفيدة، وقد تلجأ هذه الحكومات إلى الصين التي توفر مصدرًا بديلاً للمساعدات التنموية عبر مبادرة الحزام والطريق. لا يشمل النموذج الصيني دعم المنظمات غير الحكومية ولا يشترط على الدول المستفيدة الالتزام بمعايير حقوق الإنسان أو الديمقراطية. عمليًا، في غياب التمويل الغربي، قد تصبح المنظمات في كثير من مناطق العالم أهدافًا لحكومات ترى نشاطها المستقل عبئًا لا قيمة له.
عودة توازن القوى
يزيد تفاقم الشك الشعبي، والجهود الحكومية لتقويضها، وتقلص الموارد، من تراجع نفوذ هذه المنظمات في السياسة العالمية. في كثير من الحالات، استعادت الحكومات مثل هذا النفوذ. فالحكومة التي تطرد مراقبي حقوق الإنسان تزيد من قدرتها على التحكم في المعلومات وقمع المعارضة. وحكومة تقيد المنظمات البيئية تجد سهولة أكبر في الاستمرار في الممارسات الاقتصادية الملوثة والمدمرة للبيئة.
دون مجتمع مدني نشط، تصبح الحكومات أقل عرضة لضغوط المنظمات الدولية والدول الأجنبية عندما تفشل في الوفاء بالتزاماتها أو لا تستجيب لتوقعات شعوبها. هذه التطورات تعزز سلطة الحكومات وتسهم في تراجع المعايير الليبرالية عالميًا.
إذا أرادت المنظمات غير الحكومية تغيير هذا الواقع، فقد تضطر للقيام بالكثير من العمل بمفردها. من غير المرجح أن تزيد الحكومات بشكل مفاجئ ميزانيات مساعداتها الخارجية، أو أن يتحوّل المناخ العالمي المناوئ لليبرالية إلى مناخ أكثر انفتاحا.
يمكن للمنظمات تسليط الضوء على إنجازاتها وقدرتها على التعلم من الأخطاء، لكن ذلك لن يعيد لها شرعيتها بالكامل. ستحتاج إلى إجراء إصلاحات مالية لتعزيز الشفافية والمساءلة تجاه المستفيدين. وإذا تعاونت فيما بينها، فقد تتمكن من مقاومة القمع. في كينيا (2013) ونيجيريا (2017)، نجحت منظمات المجتمع المدني في منع فرض قيود قانونية على المنظمات الممولة من الخارج.
عندما يتوقف التمويل الحكومي، سيُطلب من المنظمات التفكير بطرق مبتكرة لإعادة تركيز برامجها أو البحث عن مصادر تمويل بديلة. قد تنهار كثير منها تحت وطأة الضغوط المالية. وقد تتدخل جهات أخرى، مثل الشركات ذات البعد الاجتماعي وحملات التبرع المباشر، لتقديم بعض الخدمات التي كانت المنظمات تقدمها، لكن لا يمكنها سد الفراغ في الأدوار الحيوية مثل الدفاع عن القضايا العادلة والمراقبة.
بعد الحرب الباردة، أدى تنامي المنظمات غير الحكومية إلى انتقال النفوذ من الحكومات إلى المجتمع المدني، وهو ما خدم الحكومات الديمقراطية التي تتوافق مصالحها مع أهداف هذه المنظمات. في 2001، وصف وزير الخارجية الأمريكي السابق كولن باول المنظمات بأنها “مضاعف قوة” لتحقيق أهداف السياسة الخارجية الأمريكية، بما في ذلك تعزيز الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان.
بخفض ميزانيات المساعدات الخارجية الداعمة للمنظمات، تتخلى الولايات المتحدة وأوروبا عن مصدر نفوذ رئيسي، في حين ترى الحكومات غير الديمقراطية مكاسب سياسية في قمع هذه المنظمات التي تروج للقيم الليبرالية.
كان تحول السلطة بعد الحرب الباردة مصدر تفاؤل بأن مجتمعًا مدنيًا عالميًا نشطًا ومموّلًا سيغير العالم نحو الأفضل، لكن المنظمات لم تكن يومًا منيعة أمام التحديات السياسية أو المالية، وما لم يتوقعه المتفائلون هو أن السلطة قد تعود من جديد إلى الحكومات.
المصدر: فورين أفيرز