لطالما قُدِّم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بوصفه “رجل الصفقات” الذي يدير السياسة بعقلية رجل الأعمال، لا يدخل تسوية إلا وهو يضمن نصيب الأسد من العائد السياسي والاقتصادي.
تجلّى ذلك في اتفاق السلام الذي رعاه بين أرمينيا وأذربيجان في البيت الأبيض يوم 8 آب/أغسطس 2025، بعد نحو أربعة عقود من الصراع الدموي، والذي وصفه بـ”التاريخي” معلنًا فتح خطوط المواصلات بين البلدين وخارطة لتطبيع العلاقات بينهما.
فقد سعى ترامب والإدارة الأميركية إلى تحقيق مكاسب إستراتيجية متعددة من هذا الاتفاق – من تعزيز النفوذ الأميركي في منطقة القوقاز وتقليم نفوذ خصوم واشنطن، مرورًا بتوسيع نطاق اتفاقيات التطبيع الإقليمي لتشمل أذربيجان، وصولًا إلى تأمين فوائد اقتصادية عبر مشروع ممرات تجارية جديد، بالإضافة إلى خدمة طموحات ترامب الشخصية لنيل مجد جائزة نوبل للسلام، فيما يلي تحليل مفصّل لهذه الدوافع التي تختبئ خلف ستار “السلام التاريخي” المعلن.
تعزيز النفوذ الأمريكي وتهميش دور روسيا وإيران في القوقاز الجنوبي
مثّل الاتفاق انتصارًا جيوسياسيًا لواشنطن في ساحة ظلت تقليديًا ضمن دائرة النفوذ الروسي، ووصفت تقارير غربية الاتفاق بأنه ضربة لمكانة موسكو الإقليمية، فبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، اعتادت موسكو أن تلعب دور الوسيط والحكم في نزاعات جنوب القوقاز لتعزيز هيمنتها الإقليمية، فقد رعت عدة جولات تفاوض منذ اندلاع النزاع على إقليم ناغورني قره باغ أواخر الثمانينيات، وأشرفت على وقف إطلاق النار عام 1994، ثم توسط الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين في إنهاء حرب دامت 44 يومًا بين البلدين عام 2020 ونشرت قواتها لحفظ السلام في المنطقة، ولاحقًا استضافت اتفاقات تهدئة في أعوام مختلفة.
إلا أن اندلاع الحرب الأوكرانية عام 2022 واستنزاف روسيا هناك أضعف قبضتها على ملف الصراع الأرميني – الأذربيجاني، وبعد سيطرة باكو على قره باغ في حرب عام 2023 بدأت روسيا سحب قواتها في نيسان/أبريل 2024 وأُغلق مركز مراقبة وقف النار المشترك.
تأزّمُ العلاقات بين موسكو وباكو في الأشهر الأخيرة عجّل بأفول الدور الروسي في قيادة مسار السلام. فحادثةُ إسقاط طائرة ركاب أذربيجانية بنيران الدفاعات الجوية الروسية في ديسمبر الماضي، تلتها حملةُ اعتقالاتٍ واسعة بحق الأذريين داخل روسيا انتهت بوفاة شخصين، وردّ باكو باستدعاء القائم بالأعمال الروسي وطرد ممثلي وكالة سبوتنيك وإغلاق مؤسسة روسية معنية بالقوة الناعمة كل ذلك هزّ أسس الوساطة الروسية وأضعف نفوذها في جنوب القوقاز.
هذا التصدّع فتح الطريق أمام واشنطن لملء الفراغ، فمع مطلع العام الجاري، تحرّكت إدارة ترامب للتعامل مع النزاع بجدّية أكبر؛ إذ التقى المبعوث الدبلوماسي ستيف ويتكوف، بالرئيس إلهام علييف في باكو، وأطلق مناقشات حول ما اسمّته الولايات المتحدة “إعادة ضبط إقليمية” مهّدت لاحقًا لوساطة البيت الأبيض.
وعلى الصعيد الدفاعي أيضًا هناك ما قد يقلق موسكو، إذ أكد ترامب، رفع القيود الأمريكية على التعاون الدفاعي مع أذربيجان بما يفتح الباب أمام استئناف التنسيق العسكري والأمني مع باكو، ما يعني تدريبًا وتسليحًا وتنسيقًا استخباراتيًا في القوقاز خارج المظلّة الروسية.
ولم يتوقف الأمر عند روسيا، بل إن إيران أيضًا بدت مستهدفة بالتهميش، فالاتفاق منح الولايات المتحدة موطئ قدم إستراتيجي على حدود إيران الشمالية عبر إشرافها على ممر يمر من جنوب أرمينيامن خلال حصولها على حقوق تنمية حصرية لمدة 99 عامًا، وهو الأمر الذي حذرت إيران منه بـ”رد قاس” إذا أصبح “الممر” البري حقيقة واقعة، لأكثر من مرة خلال أسبوع.
وتُعارض طهران هذا الممر باعتباره تهديدًا جيوسياسيًا يُضعف موقعها في منطقة تعتبرها عمقها الاستراتيجي ويمنع وصولها التجاري إلى الشمال، ويشجع المشاعر الانفصالية داخل حدودها.
وبينما رحبت إيران باتفاق السلام بين البلدين، لكنها أعربت أيضا عن “مخاوفها بشأن التداعيات السلبية لأيّ تدخّل أجنبي، بأيّ شكل كان، خصوصا بالقرب من الحدود المشتركة” بحسب وزارة الخارجية الإيرانية
التسريع بضم أذربيجان لاتفاقيات أبراهام
لم تكن دوافع ترامب من التوسط للاتفاق السلام بين باكو ويريفان منعزلة عن “رؤيتها الأوسع للشرق الأوسط”، فمن بين أهداف الوساطة الأميركية إلحاق أذربيجان بركب اتفاقيات أبراهام التطبيعية مع إسرائيل، وربط منطقة القوقاز بمسار التطبيع الإقليمي الذي دشنته إدارة ترامب في ولايته الأولى.
وقد أكّد مسؤولون أميركيون بالفعل أن اتفاق أرمينيا–أذربيجان قد يمهّد لانضمام أذربيجان – التي تجمعها علاقات وثيقة بالفعل مع “إسرائيل”- رسميًا إلى اتفاقيات أبراهام التي توسطت فيها واشنطن سابقًا بين إسرائيل وأربع دول عربية، بل كشفت مصادر دبلوماسية أن ترامب نفسه اعتبر تحقيق السلام بين أذربيجان وأرمينيا شرطًا مسبقًا لانضمام باكو إلى تلك الاتفاقيات.
وفي حين طرح مسؤولون من إدارة ترامب علنا أسماء عدة دول محتملة للانضمام إلى الاتفاقيات، ذكرت المصادر أن المحادثات التي تركزت على أذربيجان من بين الأكثر تنظيما وجدية، وأنه من الممكن التوصل إلى اتفاق في غضون أشهر أو حتى أسابيع.
موطئ قدم أمريكي اقتصادي في القوقاز
إلى جانب الأبعاد السياسية، تحمل الوساطة الأميركية عوائد اقتصادية وجيوسياسية كبيرة لواشنطن، فقد نصّ الاتفاق على إنشاء ممر بري وتجاري استراتيجي عبر إقليم زنغزور جنوب أرمينيا لربط أذربيجان بإقليم نخجوان ثم بتركيا وصولًا إلى أسواق أوروبا، على أن يُطلق عليه اسم «طريق ترامب للسلام والازدهار الدولي»—وهو اختيار يعكس رغبة ترامب في ربط علامته السياسية بمشروع تنموي عابر للحدود.
وحصلت الولايات المتحدة بموجب الاتفاق على حقوق تطوير واستثمار هذا الممر بشكل حصري لفترة طويلة الأمد في سابقة جيواقتصادية تمنح الأميركيين نفوذًا اقتصاديًا مباشرًا في القوقاز.
وأكد مسؤولون أميركيون أن الطريق استقطب بالفعل اهتمام 9 شركات دولية، بينها 3 شركات أميركية، ما يعزز من أهمية المشروع كممر حيوي للتجارة والاقتصاد، وفي حال نجاح “طريق ترامب”، لن تعود الفائدة على اقتصادات أرمينيا وأذربيجان فقط، بل سيوفر فرصًا مربحة للاستثمارات الأميركية في منطقة تعد استراتيجية للغاية، وتجاور روسيا وإيران.
في ذات السياق، وقّعت الولايات المتحدة اتفاقيات منفصلة مع كل من أرمينيا وأذربيجان لتعزيز التعاون في مجالات الطاقة والتجارة والتكنولوجيا، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي ورغم أن تفاصيلها لم تعلن، وصف ترامب هذه الاتفاقيات بأنها “تفتح آفاقًا غير محدودة لإمكانات منطقة جنوب القوقاز”، في إشارة إلى انخراط اقتصادي أميركي شامل في المنطقة، يضع واشنطن في قلب التحولات الجيوسياسية والاقتصادية الكبرى.
الترويج لترامب كـ”صانع السلام”
لم يكن خفيًا أن لترامب دوافع شخصية وراء اندفاعه لرعاية اتفاق السلام الأرمني–الأذربيجاني، فالرجل دأب على تسويق نفسه كصانع صفقات وسلام عالمي، وأعرب غير مرة عن تطلعه للفوز بجائزة نوبل للسلام اعترافًا بـ”إنجازاته” الدبلوماسية
وقد منحته هذه الوساطة فرصة ذهبية لتعزيز صورته الشخصية على المسرح الدولي، أضاف لرصيده إنجازًا خارجيًا بارزًا تفاخر به علنًا قائلًا: “لقد حاول العديد من القادة إنهاء الحرب، دون جدوى، حتى الآن، بفضل ترامب.. إدارتي تتواصل مع كلا الجانبين منذ فترة”.
كما لم يتوانَ زعيما البلدين علييف وباشينيان عن كيل المديح لترامب خلال حفل التوقيع في البيت الأبيض، حيث وصفاه بأنه مهندس هذا الاختراق التاريخي، بل وأعلنا صراحة ترشيح ترامب لنيل جائزة نوبل للسلام تقديرًا لدوره.
فضلًا عن تسمية الممر الذي اُتفق على إنشائه باسم “طريق ترامب للسلام والازدهار” في مسعى متعمَّد لربط اسمه بالسلام في الذاكرة العامة.
وتعزز الاتفاقية من جهود البيت الأبيض المستمرة منذ تولي ترامب ولايته الثانية لتسويق سلسلة اتفاقات سلام وتطبيع من وقف القتال بين كامبوديا وتايلاند، إلى اتفاقات بين رواندا والكونغو الديمقراطية، وحتى تهدئة بين الهند وباكستان في سياق حملة دعائية تبرز ترامب كصاحب إنجازات دبلوماسية غير مسبوقة.
بينما يرعى “رجل السلام” حرب الإبادة الإسرائيلية ضد قطاع غزة المستمرة منذ سنتين ويدعم مخططات تل أبيب في محو القطاع وتحويله إلى منتجعات تُقام على أنقاض أهله ودماء أبنائه.
في المحصلة، لا تبدو وساطة ترامب مجرد مسعى لإغلاق نزاعٍ دموي مزمن بقدر ما هي محاولة واعية لـهندسة إرث شخصي عبر ربط اسمه بممر عابر للحدود، وتوسيع خارطة التطبيع، وتقديم نفسه كـ”صانع سلام” جدير بنوبل، كما أن هذا السلام يخدم ماركته السياسية بقدر ما يعيد تموضع النفوذ الأمريكي في القوقاز.